جورج قرداحي الحُر ولبنان الذي نعتزّ به / د. عبد العزيز بن حبتور

إنه لبنان يا عرب، نعتزّ به وبتعدّد شخصياته ومفردات لغاته ونماذج إبداعاته في كل حقلٍ من حقول المعرفة.

ما زال الجدل الإعلامي والسياسي والثقافي محتدم بشأن التصريح الإنساني الذي أدلى به السيد جورج قرداحي، في مطلع آب/أغسطس من هذا العام، وقبل أن يتولى أي منصب في حكومة السيد نجيب ميقاتي، ذلك التصريح الشهير بشأن العُدوان على اليمن، والمستمر للعام السابع على التوالي، حيث قال إنَّ الحرب على اليمن حرب عبثية.

هذا السجال الإعلامي الصاخب ذو الطابع الإنساني الأخلاقي ما زال يتردّد صداه بين أروقة السادة السياسيين أصحاب القرار في العالم؛ فالسعودية جرّت، ومِن ورائها بقيّة دُول الخليج، باستثناء (سلطنة عُمان)، لتحويل الموقف من تصريحٍ إعلاميّ إنسانيّ للسيد قرداحي إلى موقفٍ سياسيّ ودبلوماسيّ شاملٍ ضدَّ الشعب اللبناني بمجمله، باستثناء بعض المرتزقة من اللبنانيين. ومهما آلت أو ستؤول إليه النتائج، فإنَّ النتيجة النهائية أنَّ الكرامة اللبنانية وتضحيات مقاومتها الباسلة قد انتصرت نصراً مبيناً.

جورج قرداحي اسم له شُهرة عالمية واسعة تجاوزت حدود منطقة الشرق الأوسط وبحارها إلى فضاءات القارات الخمس، هذه الشُهرة الواسعة صنعها بمفرده وبجهوده الذاتية التي اعتمدها في تطوير قدراته المهنية الإعلامية واللغوية باحترافية عالية، ساعده على ذلك أنَّه ابن بيئة لبنانية باذخة الثراء في الثقافة والإعلام واللغات والعلوم، وممزوجة بصناعة محليّة للوطنية والحريّة. كيف لا وتاريخ هذه الأيقونة الساحرة، لبنان، مُشبعة وباذخة بتعدّد ثقافاتها ولغاتها ومشاربها وأبطالها من كل الأعراق والديانات والمذاهب.

إنه لبنان يا عرب، نعتزّ به وبتعدّد تاريخ شخصياته ومفردات لغاته الترميزية والمحكية ونماذج إبداعاته في كل حقلٍ من حقول المعرفة.

لبنان التي بهرنا في الماضي والحاضر بشخصياته السياسية والفكرية، التي رفضت كل أنواع المؤامرات الغربية الاستعمارية على الأُمة العربية والإسلامية، كما بهرنا بفلاسفته ومُنظّريه وعلمائه الذين ملأت نتاجاتهم المعرفية أرفُف مكتبات عالمنا العربي، وصولاً إلى مكتبات العالم كله، من خلال كتابات الفلاسفة والمفكرين والأدباء مثل: أُنطوان حميد مُوراني، وكمال يوسف الحاج، وأحمد زين العابدين العلوي، وأمين الريحاني، وإيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران، ومي زيادة، وسلمى الصائغ، وميخائيل نعيمة، وحنا الفاخوري، وحسن قبيسي، والأخوين حسين وكريم مروة، وأنطون سعادة، وبشير مصطفى حمود، وكمال جنبلاط، وسعيد عقل، ومهدي عامل… إلخ، لأنَّ القائمة تطول، ألسْنا نكتب عن لبنان، خصب وواسع الثراء في كل الحقول؟!

كما أمتعنا لبنان ويُمتِّعنا بلحن إيقاع لهجته العربية بنغمٍ لبنانيٍ عذب تُشنّف له الآذان والمسامع لبشرٍ خلقهم الله بشكلٍ استثنائيٍ كـ  فيروز، وصباح، ونجاح سلام، وجوليا بطرس، ونجوى كرم، ونوال الزُغبي، ونانسي عجرم، و… طابور طويل من المبدعات في المجال الغنائي.

أما في مجال العمل السياسي، كقادةٍ وقمم سياسيين وطنيين يتقدمُهم سماحة السيد حسن نصر الله قائد المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي الصهيوني، وكذلك الرئيس إميل لحود، والرئيس رفيق الحريري، والرفيق جورج حاوي، والرئيس نبيه بري، والرفيق محسن إبراهيم، هؤلاء وغيرهم الكثير منحهم الله جلَّ في عُلاه البصر والبصيرة كي يميّزوا بين الحق والباطل، بين الصديق والعدو، بين الوطنية الحُرة والعمالة والارتزاق.

مع أن الحق ظاهر للعيان والباطل ليس به لَبْس، إلا أنَّ الدروب الوعِرة للوصول إلى ذلك تحتاج إلى بصيرةٍ وضمير ونقاء للسريرة، وهي معانٍ وقِيَمٍ تنمو في محيط الأسرة الصالحة التقية السوية، لكننا نُدرك حق الإدراك أنَّ هناك من يشُذّ عن القاعدة السوية بفعل تأثير الإلهاء والمغريات.

المثقف الإنسان جورج قرداحي، بلغ من النُضج المعرفيّ والعُمريّ والحسيّ مرحلة تُؤهّله لاتخاذ رأيٍ ما مستقل تجاه أيِّ إشكاليةٍ في هذه الحياة، ولهذا من المعيب على خصومه من المُنتفعين والمأجورين وحتى الحُسّاد، أن يُحاججوه بمثل هذه الحُجَّة الضعيفة، لأنَّها حُجَّة قوية لا لَبْس فيها تُحسب لمصلحته من الناحية الأخلاقية والدينية والإنسانية، لأنَّه ببساطه شديدة وقف ضدَّ الحرب العُدوانية على شعبٍ من الشعوب العربية الذي بدوره وقف يدافع عن ذاته، واستخدم قرداحي ألطف عبارة (حرب عبثية) ولم يقل (حرباً إجرامية مع أنها كذلك)، ووظَّف ألطف مُصطلح وعبارة عبَّر بها عن عدم اقتناعه بوحشية العُدوان غير المبرّرة.

مع أن المعتدين الأَعْرابَ وعلى رأسهم آل سعود قد سمِعوا أقسى الاتهامات والإدانات والعبارات من آخرين تُشكّك في إنسانيّتهم وحتى في شرفهم، وهذه أقسى وأحطّ الاتهامات عند الأحرار العرب، لكنهم امتصوها وتجرّعوها كما يتجرّع الإنسان العلقم وبلعوا معها ألسنتهم كذلك. لكن، وهذا هو سِرّ وأساس مُركَّب النقص لدى الأعْرَابي، أنَّه يتنمَّر على شعب شقيق عظيم كالشعب اللبناني، وينحني بخسّةٍ ودناءةٍ لأسياده وحُماته من الأميركان والصهاينة والأوروبيين!

ما هو المغزى الفعلي من كل هذه الضجة المُفتعلة ضدَّ الأخ جورج قرداحي وزير الإعلام اللبناني؟

أولاً: محاولة تغطية الهزيمة المُدويّة لحِلف العُدوان السعودي – الإماراتي – الأميركي في اليمن، ومحاولة الإبقاء على السردية السعودية للحرب على اليمن، وإسكات أيّ سردية أخرى.

ثانياً: قادة المملكة السعودية ما زالت تنتظرهم ملفات حقوق الإنسان، مثل ملف المجني عليه جمال خاشُقجي في القنصلية السعودية في تركيا، والملف الجديد للضابط السعودي عبد العزيز الفغم، وملف سجن العُلماء، والدُعاة، والأمراء، ورجال المال والأعمال، ونهب ممتلكاتهم، كل تلك الملفات ما زالت مفتوحة لوليّ العهد السعوديّ، فكيف يتمّ قبول رأي من قرداحي تجاه الحرب باليمن؟

ثالثاً: ما زال ملف الجرائم بحق الشعوب العربية مفتوح وسيُثار في أيّ لحظة، تلك الجرائم التي قُتِل وشُرِّد وعُذِّب فيها الملايين من العراقيين، والسوريين، والمصريين، والليبيين، والتونسيين، وحتى الجزائريين، ولن يكون الشعب اليمني آخر المتضررين من المال الخليجي المُدنَّس. ولذلك، وللحفاظ على السردية السعودية – الخليجية الساذجة لما جرى في عالمنا العربي كله، فلتبقَ سردية العُدوان على اليمن كما يصوّرها الإعلام الخليجيّ- الأميركيّ – الإسرائيليّ.

رابعاً: يبدو أنَّ تأليف الحكومة اللبنانية الحالية لم يتلطّخ كما كل مرَّة بالتدخُل السعودي، وخرج منها ابن سلمان خالي الوفاض كما يقول المثل، وبالتالي فالحكومة الحالية أصبحت تركيبةً وطنيةً بخليطٍ من الموزاييك اللبناني الوطني الديني، العرقي، الطائفي والمذهبي، ولكنه بطعم المقاومة ضدَّ العُدوان الصهيوني، وهذا بطبيعة الحال لن يروق الدُول الخليجية المُطبِّعة مع العدو الإسرائيلي.

خامساً: مُركَّب النّقص في الإنسان أو الحُكَّام هو معضلة كبيرة، وهو مرض متأصّل لدى الحُكَّام (الخلايجة) الذين وجدوا أنفسهم في ثراءٍ فاحشٍ (مالياً) فحسب، وفِي غضون عقود، ووجدوا أمامهم عواصم وأقطاراً عربية قد سبقتهم بقرونٍ في المجال الثقافي، والعلوم الطبيعية، وحتى في الوعي الإنساني، لكن هؤلاء الأَعْرَاب لا يريدون أن يقيسوا الآخرين من العرب إلا بمقياس المال والنقد، وهذه هي عُقدتهم ومشكلتهم ومصيبة الأُمَّة كلها.

سادساً: حرب العُدوان السعودي – الإماراتي – الأميركي على الشعب اليمني وما نتج عنها من مآس وكوارث إنسانية كبيرة وما زال، قد أحرجت العالم كله، وأحرجت العرب الأحرار من المحيط إلى الخليج، وأحرجت المسلمين جميعاً في جميع أمكنة وجودهم، وسقطت وتمزَّقت مع بشاعة العُدوان ورقة التوت من على أجساد ملوك وأمراء ومشايخ حُكَّام الخليج العربي، وليس أمامهم سِوى كيل المزيد من الأكاذيب والدعايات الإعلامية في سرديتهم الكاذبة على اليمنيين، لذلك كان رأي جورج بمنزلة القشّة التي قصمت ظهر البعير.

سابعاً: لو لم يحقق محور المقاومة الانتصارات الباهرة في المجال العسكري والحربي والأمني في كُلٍ من اليمن، وفلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، لما شاهدنا ذلك الردّ الهستيريّ المتهوّر من قِبَل محور التطبيع الصهيوني من الحُكَّام العرب.

الخلاصة:

مثّلت الحرب العُدوانية على اليمن والانتصارات التي حقّقها الشعب اليمني المعجزة الخارقة في عصرنا الحالي، إذ لا يوجد توازنٌ عسكريّ، ولا تسليحيّ، ولا لوجستيّ، ولا ماليّ، ولا بشريّ، ولا جغرافيّ، ولا دبلوماسيّ، ولا إعلاميّ، كُل هذه المعادلات والمفردات تميل لمصلحة دُول العُدوان السعوديّ – الإماراتيّ – الأميركي، ومع ذلك صمد الشعب اليمني سبع سنوات عِجاف، يقاوم ببسالة ذلك الظلم والصلف والغطرسة والاستعلاء، ويحقق انتصاراتٍ كبيرة على الأرض، أليسَت هذه حرباً إجرامية، لا عبثية وحسب؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.