حكم العسكر في السودان وثمن التطبيع / المحامي أنيس فوزي قاسم
في سابقة ربما هي الوحيدة في العالم الثالث، قام السيد عبد الرحمن سوار الذهب، وهو ضابط في الجيش السوداني برتبة مشير، بانقلاب بتاريخ 6/4/1985 وأجرى انتخابات نزيهة وسلم مقاليد الحكم للفائرين في الانتخابات بتاريخ 6/5/1986 بدون تردد أو منّة. كان تصرف سوار الذهب تصرفاً طوعياً بدون ضغط أو إغراء، وانصرف سوار الذهب بعد ذلك إلى حاله كفرد عادي، بدون أن تنصب له أقواس النصر، أو يمنح ابناؤه أوسمة أو امتيازات.
كانت هذه السابقة الحميدة الوحيدة التي شهدها العالم العربي على نحو عام، والسودان على نحو خاص. استحضار سابقة سوار الذهب تطفو على السطح بقوة، في ضوء ما نشاهده حالياً من انقلاب العسكر على الاتفاق، والسير بالسودان في طريق نقل السلطة إلى المدنيين بعد أن عاث العسكر في السودان خراباً وتدميراً، ابتداء بإبراهيم عبود مروراً بجعفر النميري، وليس انتهاء بعهد عمر البشير. وعسكر الانقلاب الحالي هم من السلالة ذاتها، وربما لم يسبق الطبقة العليا السودانية من العسكر في تخريب البلاد، إلاّ العسكر في بعض دول أمريكا اللاتينية، الذين كانوا يعملون في خدمة الإمبريالية الأمريكية.
وقبل أن نتحدث عن الخراب الوطني والعمالة للأجنبي الذي يسيّر طغمة العسكر في السودان، لا بدّ من استرجاع ما قام به الرئيس جعفر النميري على نحو خاص، ونائبة اللواء عمر الطيب، في تهريب يهود الفلاشا إلى إسرائيل، مقابل ستة ملايين دولار، ثم جاء عمر البشير بالفساد والخراب نفسيهما. وهذا يدلل على منسوب الفساد في الطبقات العليا من مؤسسة العسكر في السودان (وهي ليست استثناء في معظم دول العالم الثالث). ونقلاً عن محاضر جلسات محكمة أمن الدولة الخاصة السودانية، فإنه ورد أنه في مطلع يناير عام 1985، تمّت إقامة جسر جوي لنقل اليهود الإثيوبيين، المعروفين باسم يهود الفلاشا، لإسرائيل، بالتعاون السّري ما بين عمر الطيب، وكان آنذاك نائباً للرئيس جعفر النميري، ورئيس جهاز أمن الدولة السوداني، والحكومة الأمريكية، التي كان يمثلها في العملية جورج بوش، وكان حينها نائباً للرئيس ريغان، ووليام كيسي، رئيس المخابرات المركزية (جميعهم من أحفاد ترامب). بدأت القصة حين قام عمر الطيب واثنين من مساعديه، العقيد موسى إسماعيل والعقيد الفاتح أروا، بالإشراف على تنفيذ العملية كما رسمت خطوطها في السفارة الأمريكية في الخرطوم. وكانت العملية تشمل نقل 9-10 آلاف يهودي إثيوبي بالباصات، دفعت أجرتها السفارة الأمريكية، يتم تجميعهم في منطقة محددة وبعد ذلك يتم نقلهم إلى مطار الخرطوم، وتقوم شركة الطيران البلجيكي «ترانس يوربيان» (TEA) بنقلهم إلى إسرائيل. شركة الطيران TEA معروفة للشعب السوداني، إذ أنها كانت تتولى نقل الحجاج المسلمين إلى الديار المقدسة في المملكة العربية السعودية. وبالفعل بدأت الشركة في نقل يهود الفلاشا، واستطاعت أن تقوم بـ 28 رحلة جوية حيث تمّ نقل 6150 فرداً من يهود الفلاشا، وكانت آخر رحلة قد غادرت الخرطوم في 3/1/1985، وفي ذلك اليوم، كشفت هيئة الإذاعة البريطانية فجأة سرّ الجسر الجوي، وأن العملية كانت تتم بتنسيق وبرعاية أمريكية. وبسبب فضح السرّ، توقفت عملية نقل يهود الفلاشا، فضلاً عن أن إذاعة الخبر كان صدمة للولايات المتحدة.
بتاريخ 4/3/1985، وصل جورج بوش إلى الخرطوم، واجتمع باللواء عمر الطيب، وفي 18/3/1985 سافر اللواء الطيب إلى واشنطن يرافقه مدير محطة المخابرات المركزية في الخرطوم، والتقى بمسؤولين أمريكيين بمن فيهم رئيس المخابرات المركزية، حيث تم الاتفاق على أن تقوم الطائرات الأمريكية باستئناف عملية نقل الفلاشا بدلاً من الشركة البلجيكية، وهكذا تمّ نقل باقي الفلاشا.
وقد أقرّ اللواء الطيب أثناء المحاكمة بأنه كان ينفذ أوامر الرئيس جعفر النميري الذي سبق له أن أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1983، وقد افتضح أمره بأنه تقاضى مبلغ ستة ملايين دولار على تسهيل نقل الفلاشا. ولا نعلم كم تقاضى اللواء عمر الطيب. إلاّ أنه من الثابت أن الرئيس جعفر النميري سافر إلى واشنطن في 27/3/1985 وبتاريخ 5/4 كان عائداً إلى الخرطوم، حين تمّ الانقلاب عليه، فطلب اللجوء السياسي في مصر.
الطبقات العليا في التراتبية العسكرية في السودان كانت ذات ماضٍ مشبوه، بل ذات فساد وانعدام في السلوك العسكري
ثم جاء عمر البشير من الصفوف العليا في طبقة العسكر كذلك، وتسلّح هو الآخر بالدين، وبالتعاون مع حسن الترابي، زعيم التيار الديني الذي دخل السجن وقت الانقلاب، كتمويه للعامة من أن عمر البشير لا ينتمي لتيار الترابي. وكان أهم إنجازات الرئيس عمر البشير اثناء حكمة مسألتين في غاية الخطورة: أولاهما أنه ارتكب مجازر دارفور، وكان ساعده الأيمن في ذلك الفريق المعروف باسم «حميدتي» الذي هو نائب رئيس مجلس السيادة حالياً، واسمه الحقيقي محمد حمدان دقلو، وهو في الأساس راعٍ للإبل، وفي الفترة ما بين 2003 ـ 2005 قام نظام البشير بقتل ما بين 200 ـ 300 ألف سوداني، ما اضطر المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية لتوجيه تهمتي الإبادة الجماعية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية للرئيس البشير في عامي 2009 و2010، ثم أسقطت عنه تهمة الإبادة الجماعية لعدم قيام الدليل، واستمرت المطالبة بتسليمة بالتهمة الثانية. أما الانجاز الثاني في سجل البشير فهو أنه تم في عام 2011 فصل جنوب السودان عن السودان الأم، حيث استقل الجنوب وأصبح دولة، تحوز كل الثروة النفطية تقريباً.
وهكذا نرى أن الطبقات العليا في التراتبية العسكرية في السودان كانت ذات ماضٍ مشبوه، بل ذات فساد وانعدام في السلوك العسكري. فمن رشوات لرئيس الدولة والخنوع للإرادة الأمريكية إلى مجازر بشرية إلى تفتيت الوحدة الإقليمية للوطن وتبديد الثروة الوطنية، فضلاً عن السلوك غير القويم اجتماعياً وأخلاقياً للمشير البشير، وجميعها تدلل على أن الطبقة العليا في المؤسسة العسكرية مصابة بالعطب. وينتصب المشير سوار الذهب استثناء.
وحين اندلعت ثورة عام 2019 كثورة شعبية منتفضة على حكم العسكر، تصدى لها العسكر واستخدموا أبشع انواع المجازر والعنف ضد المتظاهرين السلميين لدرجة أنهم ألقوا بجثث الضحايا في نهر النيل. إلاّ أن الجماهير أظهرت عزيمة لا تلين، ولاسيما العنصر النسائي، الذي برز كعنصر جدير بالافتخار به لصلابته والتزامه. وفي النهاية، فرضت الجماهير إرادتها، حيث نجحت في الإطاحة بالمشير البشير، وفرضت على العسكر اتفاقاً بتاريخ 20/8/2019 سمي «الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية» وكانت هذه الوثيقة صريحة في أن الموقعين عليها، وهم من العسكر ومن قوى إعلان الحرية والتغيير، التزموا بـ«وضع لبنات النظام المدني المعافى لحكم السودان» اي أن المكون العسكري رضخ وتعهد بالانتقال إلى النظام المدني، بعد أن جرب الشعب السوداني حكم العسكر منذ فترة إبراهيم عبود عام 1958، الذي أثبت فشله المريع في بناء دولة متقدمة وديمقراطية.
لقد حددت الوثيقة الدستورية في المادة (7) الفترة الانتقالية بتسعة وثلاثين شهراً، يكون للمكون العسكري أن يسمي من يرأس مجلس السيادة لمدة (21) شهراً، ويرأسه مدني خلال الـ (18) شهراً الباقية (المادة 11/3) إلاّ أنه مع اقتراب الموعد المحدد لتسليم القيادة للمكون المدني، انقلب المكون العسكري برئاسة الجنرال عبدالفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية بتاريخ 24/10/2021، حيث أعلن إلغاء الوثيقة الدستورية، وسجن ونكّل بالمكون المدني. واندلعت من جديد المواجهات الجماهيرية مع العسكر، الذي بدأ يستخدم سلاحه ضد المدنيين ويوقع قتلى كل يوم فعلياً. ومن اللافت للنظر، أن الجهة الوحيدة التي أيدت العسكر هي الحكومة الإسرائيلية، التي تمارس أجهزتها الاستخباراتية حالياً تأثيراتها في العسكر. ويجب أن نستعيد أن الجنرال عبدالفتاح البرهان قام في فبراير 2020 بالالتقاء مع رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها بنيامين نتنياهو، ودخل معه حظيرة التطبيع، بدون التشاور مع الحكومة السودانية، وهذا برهان على أن انقلاب العسكر الماثل حالياً له امتداداته في مؤامرة التطبيع. والاهتمام الأمريكي بـ«الديمقراطية السودانية» اهتمام زائف، ذلك انها تريد التأكيد أن التطبيع الذي بدأ في عام 2020 ما زال نافذ المفعول.
عبد الفتاح البرهان هو من سلالة جعفر النميري، وعمر البشير وغيرهما من العسكريين المعطوبين والمطبعين، الذين باعوا فلسطين، وليت كان البيع فداءً للسودان ولشعب السودان الشقيق؛ بل كان فداءً لفسادهم وخياناتهم. ولكن يظل السودان ارض كنداكة المجيدة رغم أنف العسكر المطبع مع العدو الصهيوني.
التعليقات مغلقة.