رؤية للخروج من أزمة اليسار الفلسطيني / عفاف غطاشة
عفاف غطاشة * ( فلسطين ) الأربعاء 15/6/2016 م …
*عضو المكتب السياسي لحزب الشعب …
يعيش اليسار الفلسطيني في السنوات الأخيرة أزمة حقيقية، لا تعكس فقط ضعف حضوره وتمثيله للطبقات والفئات التي ادعى في أدبياته أنه يمثلها، وإنما أيضا في حضوره الوطني التقليدي لقضية التحرر الوطني العامة، وباتت الأزمة في السنوات الأخيرة تهدد وجوده واستمراريته وتعكس غيابه شبه الكامل عن الساحة الفلسطينية والعربية، مفسحة المجال للقوى الليبرالية واليمينية الدينينة بتصدر المشهد السياسي والاجتماعي في ظل استقطاب حاد غير مسبوق انتهى إلى حالة من الانقسام والصراع بين قطبيه الأساسيين فتح وحماس، وطال بدوره البنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني جغرافيا، واجتماعيا، ووطنيا، لدرجة وبعد حوالي ثمانية أعوام بات الحديث عن كيانين فلسطينيين مختلفين: في غزة والضفة الغربية..كيانين لم تجد كل المحاولات حتى هذه اللحظة في إعادة توحيدهما وترميم الخراب الهائل الذي نتج عن الانقسام على المستوى الاجتماعي والوطني.
في هذا الواقع وقف اليسار الفلسطيني عاجزا ومشلولاً واكتفى بلعب دور هامشي وخجول تراوح بين القيام بدور الوسيط الضعيف وتقديم النصائح والمواعظ وبدا كاأه ضيف الشرف في حوارات عبثية تركزت في الغالب علي المحاصصة بين الطرفين المنقسمين. في نفس الوقت لم ينتبه اليسار الفلسطيني وفي هذا السياق من التراجع والتردي الذي شهده المجتمع منذ توقيع اتفاقية اوسلو علي المستوى الوطني والاجتماعي والاقتصادي أن فرصته الذهبية للانقضاض واسترجاع واستنهاض دوره التاريخي الذي برز في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي قد حانت ليطرح نفسه كبديل للقوى الليبرالية واليمينية الدينية التي ساهمت برامجها الوطنية والاجتماعية بشكل أساسي في ايصال الحالة الفلسطينية لما هي عليه اليوم. وبدلا من طرح نفسه كبديل اكتفى اليسار بدور شريك ثانوي هامشي غير مؤثر في صناعة القرار ضمن حضور شكلي في المؤسسة السياسية (منظمة التحرير الفلسطينية) وااتي صودر دورها الحقيقي واستبدل بالسلطة الفلسطينية وضمن غياب تميثلي كامل لليسارفي مؤسساتها.
في هذه الورقة سأحاول وضمن الهامش المحدود لما يمكن ان تتسع له، وبصفتي احدى قيادات اليسار الفلسطيني، أن اتلمس وبموضوعية وتجرد الآليات والاستراتيجيات الأساسية الكفيلة بوقف التراجع المتسارع لدور اليسار (كما أظهرته أخيرا انتخابات مجالس طلبة الجامعات الفلسطينية).. (وسابقا الانتخابات التشريعية..عام 2006) (وتمثيله الباهت والشكلي في النقابات) – ليس أكثر من 5%–، الكفيلة أيضا بإعادة الاعتبار لدوره الريادي والطليعي كبديل وحامل للهم الاجتماعي والوطني، وفي هذا السياق سأتطرق فقط إلى العناصر البنيوية الأساسية التي كان إهمالها وتغييبها من قبل اليسار السبب الرئيسي لتراجعه المتسارع، وستكون اذا ما أعيد الاعتبار لها بداية لطريق طويل علي اليسار ان يسلكه من الآن فصاعدا كي ينهض من جديد ويملأ الفراغ ويستعيد ثقة الشرائح التي مثلها تاريخيا وراحت تبحث عن ممثليها في قوى رجعية ظلامية وقوي دينية متطرفة أو قي قوى ليبرالية فضفاضة فشلت وطنيا واجتماعيا، وعلية فعلى اليسار الفلسطيني.
أولاً: أن يعيد تعريف هويته الفكرية والطبقية بشكل واضح وصارم وبعيدا عن المجاملة الفكرية واالتخبط ومحاولة الظهور بمظهر ليبرالي بأوهام خادعة لكسب الجماهير اثبتت التجربة على الأرض أنها كانت أحد الأسباب الرئيسية لتراجعه وفشله وخسارته للعديد من كوادره القياديين وأعضائه من الفقراء والعمال والفلاحين الذين شكلوا سابقا البنية الأساسية الصلبة للمعارك الوطنية والاجتماعية التي خاضها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وفي الانتفاضة الأولى والذين تسلحوا بآمال عريضة للتغيير. المطلوب هنا ليس تعريف نظري للهوية الطبقية كما لا تزال تظهره بعض برامج اليسار حتى هذه اللحظة (على سبيل المثال: البرنامج السياسي لحزب الشعب الفلسطيني أو الجبهتان الديمقراطية والشعبية) والتي بقيت برامجها السياسية شعارات صماء علي الورق، وغير قابلة للتطبيق ولم تعد مرجعية جدية للتعامل مع الهم الوطني والاجتماعي وشكلت حالة من الانفصام بين النظرية والتطبيق.
ثانياً: علي اليسار الفلسطيني أن يعيد الاعتبار لبنيته التنظيمية المنفلشة والتي تفككت مع الزمن وأصبحت العلاقة بالتنظيم لمعظم هيئاته االوسطية والقاعدية وحتي القيادية مجرد علاقة انتماء فخرية غير ملتئمة وغائبة كليا عن الحزب والمهام التي انيطت بها. إن توقف العمل بالخلايا الحزبية وخلايا المواقع والأقاليم كان من الأسباب الرئيسة لانهيار التنظيمات اليسارية التي اكتفت باسناد المهمات الحزبية لبعض الكوادر مدفوعة الأجر. إن التنظيم القوي المبني على أسس ديمقراطية والمنظم هو بمثابة البنية التحتية الأساسية التي بدونها لا يمكن لأي حزب أو حركة سياسية أو اجتماعية أن تخرج من مكاتبها أو من إطارها النظري حتى لو كان الإطار مثاليا.
ثالثاً: على اليسار الفلسطيني أن يعيد الاعتبار لمسألة التثقيف الحزبي والفكري وبرامج التعبئة المستدامة والتي كانت إحدى تقاليده الأساسية في السابق، والتي ابقت كوادوره وقاعدته على تواصل مباشر وحيوي مع قضاياه الاجتماعية والوطنية، وعليه أيضا أن يبتدع الوسائل لتثقيف الجمهور الذي ترك لثقافة القوى الدينينة والليبرالية. إن التثقيف اليساري يحتاج إلى صحافة وأدبيات متميزة غيبها اليسار للأسف في السنوات الاخيرة.
رابعاً: على اليسار الفلسطيني أن يغادر حالة البراغماتية التي حاصر نفسه بها بعد تشكل السلطة الفلسطينية عام 1993 والتي حاصرت قدرته على وضع البرامج الوطنية والاجتماعية الواضحة والبديلة لبرامج السلطة وحركة فتح وبرامج القوى الدينية والتي أثبتت فشلها وتسببت في تراجع غير مسبوق علي المستوى الوطني والاجتماعي. اكتفى اليسار بدور مشارك ثانوي وهامشي أحياناً وبين معترض خجول، وتراوح خلافه مع تلك القوى بين ناصح وواعظ ومنتقد خجول، كما لم يطرح نفسه كبديل حتمي لتلك القوي وتحالف معها في كثير من الأحيان على حساب هويته الفكرية والطبقية ورؤيته الوطنية. هذا الدور المرتبك لليسار ربما كان أحد الأسباب الرئيسة لتراجعه وابتعاد الجماهير عنه.
خامساً: على اليسار الفلسطيني أن يدرس بشكل جاد مسألة وحدته ويطرح مسألة حضوره وبرامجه الموحدة كطرف ثالث قادر على منافسة الطرفين الأساسيين في الساحة الفلسطينية، وبغض النظر عن ما ذكر سالفاً وأهمية ما ذكر، فإن ظهور قوة موحدة ذات حجم معروف من شأنه أن يعيد ثقة الجمهور بها، فالجمهور لايثق بالقوى الصغيرة الهامشية حتى لو كانت نظرياً تمثله، ويثق أكثر بالقوى ذات الأحجام الكبيرة وهذا ما يفسر حتى هذه اللحظة حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع الفلسطيني بين القوتين الكبريين رغم فشلهما الذريع اجتماعياً ووطنياً.
سادساً: على اليسار الفلسطيني أن يعيد جدولة أولوياته الوطنية والاجتماعيية بالانتباه للشرائح الأكثر قدرة على التغيير وهي نفسها الأكثر تضررا في السنوات الأخيرة، المرأة واالشباب وعليه أن يضع البرامج العملية والحيوية لاستهداف هاتين الشريحتين وضمهما لصفوفه كأعضاء أو مناصرين بما يمكن أن تمثله هاتان الشريحتان من قوة هائلة لليسار وبما تمثله قضيتهما من مهمات أساسية لبرنامج يساري اجتماعي ووطني متميز.
سابعاً: على اليسار الفلسطيني أن يعيد الاعتبار لدوره الفاعل في النقابات العمالية والمهنية ويستفيد من خبرته السابقة في هذا المجال الذي ميزه في فترات قوته في السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي وعليه أن يرفض دوره كشريك ملحق وهامشي في قيادة هذه النقابات التي باتت تحت سيطرة السلطة المتنفذة وبقيادة حركة فتح، الأمر الذي ساهم في تراجع دور هذه النقابات كمساند رئيسي لبرامج اليسار الاجتماعية.
ثامناً: على اليسار الفلسطيني أن يعيد جدولة اهتماماته بالقضايا الأكثر ملامسة للهم الوطني والاجتماعي في المجتمع الفلسطيني وأهمها قضايا التعليم والصحة والفقر والبطالة والمرأة وأن يبدأ حملات متواصلة لتظهير هذه القضايا وتبنيها بجرأة وببرامج واضحة متميزة حتى لو استدعى ذلك صداما مع السلطة وحركة فتح والقوي الدينية، وفي نفس الوقت على اليسار أن يتبنى برنامجاً وطنياً متميزاً ومختلفاً عما تطرحه السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وبالضرورة وبطبيعة الحال متميزاً عما تطرحه القوى الدينية ويعتمد على رؤيا وطنية وسياسية جديدة تمزج بين الطرح النظري والكفاحي الميداني والذي ميز اليسار في فترة قوته.
عضو المكتب السياسي- حزب الشعب الفلسطيني
عفاف غطاشة
التعليقات مغلقة.