رمزية فلسطين والرهان العربي على التطبيع




سامح المحاريق ( الأردن ) – الجمعة 3/12/2021 م …

قدمت قطر احتفالاً مبهراً في افتتاح بطولة كأس العرب، وكان بين فقراته استعراض غنائي للأناشيد الوطنية والأعلام لكل البلدان العربية، وكان الصمت يسود المدرجات المليئة بالمشاهدين المأخوذين بالحفل، إلا أن الفقرة التي شملت استعراض العلم الفلسطيني على أرض الملعب وتزامنت مع مطلع النشيد الوطني الفلسطيني «فدائي» أخرجت الجمهور من صمته، وتصاعد صوت التصفيق بحماس في المدرجات، في موقف لم يكن ليمر على ملايين المتابعين عبر شاشات التلفزيون.
اعتمدت فقرات الحفل على الشحن المعنوي المتمركز حول فكرة العروبة، وثيماتها الخاصة عبر التاريخ، وهو الأمر الذي لحقه الخفوت منذ نحو عقدين من الزمن، عندما انطلقت مجموعة من الأوبريتات الغنائية مثل «الحلم العربي» وكان طبيعياً أن تدفع تفاعلات المحاور العربية وصراعاتها، بأفكار مثل العروبة إلى الوراء، وتسبب الربيع العربي في وجود مناطق تماس ساخنة كثيرة بين البلدان العربية، حولت القوميين الممارسين سياسياً إلى أقلية حالمة، وأضرت بالنزعة العروبية لدى الأجيال الصاعدة، وكانت القضية الفلسطينية الأكثر تضرراً بوصفها القضية العربية المركزية.
تمكنت المنظومة الإعلامية العربية من تشويه الحقائق، وترتيب الأولويات الخاصة بالقضية، وقامت من وقت إلى آخر، بنقل أعبائها على أكتاف الشعب الفلسطيني لتبرير وتسويغ التحركات التطبيعية، التي أصبحت تياراً سائداً، لدرجة تقاطر الوفود العربية لتوقيع اتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، قبيل نهاية الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، لمنحه منجزاً في السياسة الدولية قبيل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، واستمرت عملية تسويق التطبيع خلال الأشهر الأخيرة، لدرجة عزلت الشأن الفلسطيني عن محيطه العربي، وأعطت إسرائيل صك براءة عن جرائمها التاريخية، ونقلتها إلى مرتبة الشريك الموثوق، لكن هذا كله في مصلحة أي نظام عربي؟ اعتادت الأنظمة العربية على الدفع بالقضية الفلسطينية إلى قمة الأولويات، وكانت تبرر أي تقصير أو فشل أو تباطؤ بالانشغال بمعركة الكرامة، بالإضافة إلى ذلك، أتى تضخم الجيوش والإنفاق العسكري المفرط، وهذه المعادلة وجدت من يتبناها بين الشعوب العربية، فالعرب يخوضون معركة الكرامة التي تؤجل معتركات التنمية، لدرجة أن الحديث خارج هذا التيار كان مكلفاً على المستوى الاجتماعي والسياسي، فما الذي يمكن أن يحل مكان المسألة الفلسطينية في الوجدان العربي، ليصبح بديلاً في ترسانة المبررات التي تقدم لتغطية الواقع البائس؟ هل يمكن أن تحقق إسرائيل الأمن للمنطقة العربية؟ هذا أمر مشكوك فيه، ولو تحقق فلن يكون إلا ضرباً من فرض الحماية المهينة والمذلة والمكلفة، التي تسعى للاحتفاظ بالتفوق والهيمنة، ومن يلجأون للتحالف مع (اسرائيل) يجدون أنفسهم في تناقض صارخ بين سلوكهم في إدارة الدفاع والأمن وتكلفته الباهظة، وطلب اللجوء إلى العدو التاريخي، وإن لم يكن الأمن، فهل يمكن للاقتصاد أن يلعب دوره؟ تاريخياً، خرجت الدول التي وقعت اتفاقيات السلام مع اسرائيل بمحصلة بائسة من المكاسب الاقتصادية، فالوعود التي ينتجها سلام غير عادل وغير شامل زائفة شكلاً وموضوعاً، وهي مجرد إعلانات تكلف المليارات، يدفعها الجانب العربي، من أجل بضاعة لا تساوي إلا القروش. لماذا تراهن الدول العربية على التطبيع مع إسرائيل؟ ألم تدرس الهوة التي تحدثها مع المزاج التاريخي لشعوبها؟ هل تدرك عملياً جسامة الآثار الاجتماعية والسياسية المترتبة على ذلك؟ هل افترضت أن الشعوب مجرد عوامل ساكنة، لا يمكنها أن تصنع التاريخ؟ وأن كل ما بوسعها أن تفعله هو أن تعيش على هامش التاريخ في أقفاص من الأفكار الجاهزة، التي تعلبها السلطة وتدفعها لأكلها واجترارها بوصفها الغذاء الوحيد المتوفر، طالما أن السلطة هي التي تمتلك ذلك الغذاء وتحتكر توزيعه.

الوعود التي ينتجها سلام غير عادل وغير شامل زائفة شكلاً وموضوعاً، وهي مجرد إعلانات تكلف المليارات، يدفعها الجانب العربي

في الدوحة استغرقت رسالة الشعوب العربية بضعة ثوانٍ، وبقيت آلية الدرس الفكري العربي معطلة، لم تستطع أن تلتقط هذه اللحظة التاريخية، لكن آلافاً ممن عرضوا المشهد على مواقعهم وصفحاتهم التقطوا الرسالة، هي ليست عالية أو متحدية، مثل الذي يقدم في الملاعب الجزائرية أو المغربية، لكنها، واضحة وصريحة وعفوية، فلسطين وضعٌ مختلف، فلسطين هي الابن المريض في الأسرة، وذلك يبرر العناية الزائدة به، ولا يغضب الشعب العربي في صورته الكلية، كان الاستاد، مثل الدوحة، مليئاً بالقطريين والسعوديين والمصريين والأردنيين والمغاربة والسوريين، وغيرهم من الأقطار العربية الأخرى، وجميع الدول وجدت فرصة لنشيدها وعلمها، لكن الجسد الكلي للشخصية العربية المتكون من الجنسيات العربية كافة، لم يتوقف سوى عند اللحظة الفلسطينية.
هذه اللحظة بدت مركزية وطاغية وإجماعية، ولو افترضنا أن التحية الجماهيرية التي بذلت لفلسطين هي تحية منبتة عن التكوين العربي، لقام بقية ممثلي الشعوب العربية بتصرف مماثل في الأناشيد التي أتبعت النشيد الفلسطيني، لكن ما حدث هو تعبير عن الشخصية العربية في أحد ركائزها المقدسة، وقناعة الشعوب العربية بامتدادها وتجسدها على الأرض والمكان وموقعها من التاريخ وسياقاته.
الكثافة الترويجية للتطبيع تقف اليوم أمام معضلة تاريخية، فهي لن تستطيع أن تربح الجانب الإسرائيلي الذي يمتلك داخل تكوينه الأساسي، المناهضين أصلاً لفكرة الوجود العربي، والمتعالين بصورة مزعجة على العرب، بوصفهم جنساً أدنى، أو بالمصطلح التوراتي المتغلغل في منظومة الدولة الاسرائيلية في نسختها اليمينية، أبناء الجارية، وهم أيضاً سيخسرون شعوبهم وربما سيهددون العقد الاجتماعي القائم مع المواطنين، الذين لا يمكن فصلهم خارج مكونات الشخصية العقائدية والتاريخية، لمجرد سلام شكلي لا يوفر الحد الأدنى من الإشباع المعنوي بأن ينتزع حقاً للفلسطينيين، أو يكون بدايةً فعليةً لوضع نهاية لمأساتهم المستمرة منذ عقود، وذلك هو الحد الأدنى الذي يمكن على أساسه بناء معادلة بديلة للإقليم العربي وامتداده التاريخي والحضاري، وسوى ذلك، هو مجرد مشروع تجاري اسرائيلي يلتحف بالأوهام السياسية، ويقوم على حسابات الربح والخسارة التي يجب أن تؤول قيمتها الصافية لمصلحته في النهاية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.