التطبيع بين الفشل الاستراتيجي وهواجس النظام السياسي المغربي / د. تدمري عبد الوهاب

د. تدمري عبد الوهاب ( المغرب ) – الأحد 5/12/2021 م …




لا يختلف إثنان حول الاتفاقية الأخيرة بين المغرب والكيان الإسرائيلي، والتي نقلت عملية التطبيع من مجرد إعتراف  دبلوماسي متبادل إلى حالة من التنسيق المتقدم، بل إن المغرب ومباشرة بعد الاعتراف المشروط  لأمريكا  بسيادة هذا الأخير على منطقة الصحراء، قام بتسريع هذه العلاقة ودفع بها إلى مستويات متقدمة فتح  من خلالها المجال للكيان الإسرائيلي للتواجد عسكريا واستخباريا في منطقة تبعد بألاف الكيلومترات عن حدوده ولا تشكل عمقا إستراتيجيا ولا تهديدا أمنيا له.  لذلك  فإن  تمكين إسرائيل من موقع جيو-استراتيجي هام في منطقة الشمال الغربي لإفريقيا، التي تقع في صلب اهتمامات الدول الكبرى المتصارعة، وهو في تقديري يفوق قدرات هذا الكيان،  لا يمكن فهمه إلا من خلال التقاطبات الحادة التي تشهدها العلاقات الدولية  التي تتأطر ضمن استراتيجية صراع  المحاور التي يشكل المغرب طرفا فيها بعد انحيازه البين لأمريكا التي تشترط البوابة الإسرائيلية كمدخل لتطوير اي علاقات ثنائية معها، وذلك  على حساب حلفائه التقليديين من  الأوروبيين.

لكن إذا كان التطور المتسارع لهذه العلاقة  قد أثارت  اهتمام وسائل الإعلام الدولية والعربية بما يمكن ان ينتج عنها  من انعكاسات إقليمية ودولية وعلى القضية الفلسطينية، فانها من ناحية أخرى  نسفت العديد من المسلمات لدى المجتمع المغربي وتعبيراته السياسية لا سيما بعد زيارة لوزير دفاع دولة تعتبر تاريخيا غاصبة لحقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة التي كانت تشكل بوصلة النضال السياسي الوطني، باعتبارها قضية مركزية ووطنية. وقد تجسد ذلك في  ردة الفعل الضعيفة  لهذه القوى بمعارضاتها وموالاتها وبرلماناتها، باستثناء بعض البيانات الضعيفة والوقفات الخجولة التي تم قمعها سريعا. ولم نشهد تلك المظاهرات المليونية المنددة كما كان الشأن لسنوات مضت عندما كان يتعلق الأمر بدعم  القضية الفلسطينية، بل برزت أقلام و منابر كثيرة  مدافعة عن الزيارة وعن التوجهات الرسمية للدبلوماسية المغربية التي تشتغل كحكومة مستقلة عن الحكومة المنتخبة.

 إن ما يسري على الأحزاب السياسية بمختلف تلاوينها  يسري كذلك على  عموم الشعب المغربي الذي بدا منهكا بمشاكله الذاتية وظروف عيشه القاسية، إذ أن ما شهدناه من مسيرات احتجاجية طلابية وشعبية على فرض جواز التلقيح وبعدها على قرارات وزير التعليم التي تزامنت مع الزيارة المشؤومة لوزير الدفاع الاسرائيلي غابت عنها المواقف المنددة والأعلام الفلسطينية.

إنها  مؤشرات دالة  على تحولات  عميقة في المزاج الشعبي العام إزاء القضايا التي طالما اعتبرتها الأحزاب الوطنية  واليسارية والإسلامية  قضايا قومية ووطنية. كما أن اختيار  الدولة لتوقيت الإعلان على التطبيع ولاحقا واستقبال وزير الدفاع الإسرائيلي، لا يمكن عزله عن إدراك الدولة لعدم قدرة هذه التنظيمات السياسية والمدنية المعارضة للصهيونية أو المناهضة للإمبريالية على تعبئة الشعب من أجل مناصرة قضية عادلة طالما اعتبرتها في صلب اهتماماتها، وبعد أن تيقنت من تلاشى دورها التأطيري والتعبوي  في جميع حقول الفعل الجماهيري، النقابية والعمالية والجمعوية نتيجة عملية الإحتواء والتهميش الممنهجة التي مارسها النظام السياسي إزاءها  من جهة، وفقدان غالبية المجتمع المغربي الثقة في الأحزاب والمؤسسات، مما دفع به إلى اعتماد  آلياته الذاتية في المقاومة والدفاع عن مصالحه الفئوية والآنية دون أن  يلتفت إلى قضايا وطنية وقومية من هذا الحجم، رغم عدالتها ، حيث تم استنزاف مخزون التضامن الشعبي ازاءها لغايات سياسية سواء من أجل  الظفر بمواقع تؤهل  بعضها لتبوء مناصب في  السلطة السياسية او باعتبارها موضوعة لتأجيج  الصراع  مع الدولة بالنسبة لأطراف أخرى، ولنا العبرة في المسيرات المليونية الداعمة مثلا للقضية الفلسطينية التي كانت تتصدرها  قيادات الصف الوطني واليساري والإسلامي،  لتتحول خلالها ساحات التظاهر الى فضاء لإبراز القوة والتفوق خاصة من طرف  حركات الإسلام السياسي بحضورها المكثف واللافت  والمنظم.

إنطلاقا مما سبق، واعتبارا لكون المغرب قد حسم داخليا موضوعة طالما أزعجت النظام السياسي  بتمريره لعملية التطبيع دون مشاكل داخلية  تعكر صفو العلاقات المغربية الإسرائيلية للأسباب التي ذكرناها، كان لزاما علينا التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء تمكين المغرب لإسرائيل من هذا الموقع الجيو- سياسي الهام بمنطقة الشمال الغربي لإفريقيا  الذي يفوق في حجمه قدرات الكيان الاسرائيلي العاجز عن فرض إرادته في محيطه الإقليمي سواء على  إيران أو على حركات المقاومة التي تطوقه من داخل أراضي فلسطين التاريخية أو من الحدود اللبنانية والسورية.

لكن إذا كان حجم القوة والتأثير لدى إسرائيل لا يتناسب  والأهمية الاستراتيجية  للمنطقة في معادلة الصراع الدولي، فما هي القيمة المضافة لهذه العلاقة  إن لم تكن إرضاء لأمريكا ؟. وهل توطيد العلاقة العسكرية والأمنية  بالكيان الاسرائيلي ومن خلاله أمريكا على حساب شركائه الاقتصاديين من الأوروبيين، هو مؤشر على قوة الدولة المغربية ونظامها السياسي، أم يعتبر مؤشر ضعف ينم عن تخبط السياسة الخارجية للمغرب التي بارتمائها في المحور الأمريكي الإسرائيلي تعطي الأفضلية للحماية الأمنية في مقابل الشراكات الاقتصادية؟.

 ففي العلاقات المغربية الإسرائيلية وجهة الصحراء، يظهر ان الدولة المغربية بما انتهجته من تطويع للمعارضات السياسية، خلقت من خلالها حالة إجماع مرضية لم يسبق لها مثيل في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، بموازاة ما اعتمدته كذلك من سياسات عمومية جعلت الشعب غارقا ومنشغلا في همومه اليومية وأعبائه الحياتية، فتكون بذلك قد مهدت  الطريق لآلتها  الدعائية  لتزكية عملية التطبيع وإظهارها للشعب المغربي كضرورة  للدفاع عن الوحدة الترابية، معللة ذلك بتوتر العلاقات المغربية الجزائرية وإصرار هذه الأخيرة على دعم جبهة البوليساريو، رغم أن الجميع يعلم أن هذا التوتر ليس وليد اللحظة، وأن معركة الصحراء قد سبق للمغرب ان حسمها على الارض،  وهو يمارس السيادة الفعلية عليها منذ عقود  وكل القضايا العالقة من الملف تتم معالجتها داخل  أروقة الأمم المتحدة ومجموعة الدول الخمس، وأن  سعي بعض الدول لجعله ورقة ضغط لتحسين شروطها التفاوضية مع المغرب في بعض الملفات التجارية والاقتصادية كان من الأجدى تدبيره برؤيا ديبلوماسية وسياسية متوازنة في العلاقات الدولية دون هذا الانبطاح الكلي لأمريكا  وحليفتها  إسرائيل.

كما أن ما يعمل الإعلام الرسمي على إظهاره كمكتسبات لهذه العلاقة  في مجالي التسليح والدفاع ، كان من الممكن تحقيقه من خارج هذا التوجه المستبيح لقضية الشعب الفلسطيني، وأن ما يروج   كسبق يخص صناعة الطائرات المسيرة بشراكة مع الكيان الاسرائيلي، كان من الممكن إنجازه مع أية دولة أخرى غير غاصبة لحقوق الشعب الفلسطيني، خاصة وأن تكنولوجيا هذه الصناعات، بحكم التطورات الحاصلة في هذا المجال لم تعد خفية على أحد، بل أضحت في  متناول  حتى بعض الحركات المسلحة سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن إلخ …

~ في مسألة الإنحياز للتحالف الأمريكي الإسرائيلي

إن التطور المثير والسريع  في العلاقات المغربية  الإسرائيلية  التي يتم  تبريرها بشتى الذرائع ذات الصلة أساسا بالضرورة الأمنية والدفاعية ضد المخاطر المهددة للوحدة الترابية سواء من الجيران أو إيران البعيدة عنا بآلاف الكيلومترات والمشغولة بالعقوبات القاسية ضدها، يدفع أي متتبع موضوعي للشأن السياسي المغربي إلى البحث عن السياقات الحقيقية الكامنة وراء  هذا التقارب المثير للجدل، والمتمثلة في :

*  الأوضاع الداخلية للمغرب.

إن حالة الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي التي يشهدها المجتمع المغربي الذي  ترشحه تقارير العديد من معاهد الدراسات الدولية للدخول في حالة تجاذب قوية مع الدولة ونظامها السياسي، خاصة مع ما يعرفه المشهد السياسي والمؤسساتي من حالة ركود انتفت معه دور  مؤسسات الوساطة التي تشكل صمام أمان إستقرار الأنظمة السياسية والاقتصادية للدول، حيث أضحت هذه المؤسسات في المغرب في مواجهة مباشرة مع  المجتمع الذي ازدادت فيه معدلات الفقر والهشاشة والبطالة والغلاء  وتدهور الأنظمة الخدماتية كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، هذا بالاضافة الى استشراء منظومة الفساد  التي جعلت المغرب يتذيل ترتيبها الدولي بالرتبة 123، دون احتساب باقي مؤشرات التنمية التي تعكس الواقع المر لغالبية الشعب المغربي. كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بالنظام السياسي المغربي إلى الارتماء في أحضان الحلف الأمريكي الإسرائيلي.

* ضعف الحلفاء التقليديين للمغرب

 أمام هذه الوضعية غير المطمئنة للدولة المغربية وأمام ضعف حلفائها  التقليديين من الأوروبيين وخاصة فرنسا الحامية للنظام السياسي المغربي، انسجاما مع منطوق وثيقة ” ايكس ليبان ” ، و عدم قدرتها على ضبط إيقاع الإتحاد  الأوروبي بالعلاقة مع ملف الصحراء ،الذي تعمل بعض دوله على  توظيفه في ملفات الصفقات  التجارية  مع المغرب، في مقابل  الاستقواء  الأمريكي الذي برز بشكل جلي مع مرحلة الرئيس الأمريكي السابق  دونالد  ترامب، الذي عمل على مزاحمة  حلفائه الأوروبيين في مناطق نفوذهم التقليدية بعد ان قزم دورهم فيها ومن ضمنها المغرب، الذي وجد نفسه مضطرا للبحث عن حماية بديلة خاصة مع الاعتراف التكتيكي لأمريكا بسيادة المغرب على صحرائه، والذي اشترط فيه تطبيع هذا الأخير لعلاقاته بحليفها الاستراتيجي إسرائيل،  مع تطوير هذه العلاقات لتشمل المجالات الأمنية والدفاعية لتؤمن له بذلك وجودا استخباراتيا  وعسكريا دائما في منطقة الشمال الغربي لإفريقيا وحوض البحر المتوسط، خاصة في هذه المرحلة الحساسة من تجاذب صراع المحاور وانشغال أمريكا في صراعها بالتحديد مع الصين وروسيا في كل من البحر الأسود وبحر الصين الجنوبي.

فبانحياز  المغرب  للمحور الأمريكي الإسرائيلي يكون النظام السياسي المغربي إذن قد  فضل الحماية الامنية على المصالح الاقتصادية للدولة  المغربية التي تربطها علاقات تجارية بعشرات الملايير من الدولارات مع دول الإتحاد الأوروبي،  هذا في الوقت الذي لا يتعدى فيه  حجم المبادلات التجارية مع أمريكا  الثلاث مليارات من الدولارات خلال سنة 2020، وأغلبها عبارة عن صفقات أسلحة. اما بالنسبة للكيان الاسرائيلي فليس لديه ما يقدمه من الناحية الاقتصادية، فهو كيان يعتمد أساسا على المساعدات الأمريكية السنوية وعلى نهب  أموال العائدات الفلسطينية وأموال بعض الدول الخليجية المطبعة معه.

خلاصة

على سبيل الختم، يمكن القول أن أمريكا حققت للكيان الاسرائيلي  خلال السنوات الأخيرة  ما لم تحققه لعقود، خاصة في ما يخص الدفع بالكثير من الدول العربية والإفريقية  لتطبيع علاقاتها بهذا الكيان الذي سيوظف وجوده دون  شك في تشتيت ما تبقى من الجامعة العربية وخلق المزيد من النزاعات بين دولها مع العمل على تغييب  القضية الفلسطينية من أجندتها السياسية.

أن ما يعمل الخطاب الرسمي على إظهاره كامتياز عسكري رادع  للجيران  لا يعدو أن يكون سوى إذعانا لرغبة أمريكا المنشغلة حاليا في شرق أوربا وبحر الصين من أجل تثبيت وكيلتها إسرائيل في منطقة شمال غرب افريقيا حتى لا تترك  الفراغ للصين وروسيا  اللتان كانتا قد عقدتا إتفاقات  تجارية واقتصادية مهمة مع المغرب توجتها زيارة الملك محمد السادس إليهما سنة 2016  بعد أن انكفأ الدور الأوروبي في المنطقة، وهو ما لم تنظر إليه أمريكا بعين الرضى.

أن التواجد الاسرائيلي في المغرب ليس لحماية هذا الأخير ولا لتهديد  اسبانيا الدولة العضوة في حلف الناتو ولا  لدعم المغرب  في مواجهة  الجزائر، بل  لتوريط المغرب في حلف محكوم عليه بالفشل استراتيجيا ولخلق المزيد من  التوتر  في المنطقة  عبر الوكيل الإسرائيلي  الذي يدرك الجميع  أنه يعيش قلقا وجوديا في مواجهة فصائل المقاومة، وليس لديه القدرة على خوض حروب إستراتيجية في مواقع  بعيدة عن محيطه الإقليمي.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.