التجليات الفلسفيّة للتصوّف – التصوّف الإسلاميّ أنموذجاً … (الحلقة الأولى) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الجمعة 10/12/2021 م …
* مفكر وباحث سوري …
مدخل:
يشكل التصوّف الإسلاميّ بشقيه الطرقيّ والعرفانيّ ماضياً وحاضراً, جزءا أساسيا من تاريخنا الفكري, كونه تبوأ مكاناً هاماً في الفكر التراثي العربيّ الإسلاميّ ، فالتصوّف قطاع أساس من قطاعات من هذا التراث، والاهتمام بالتصوّف قديم، تناوله المؤرخون والعلماء العرب والمسلمون: كالطوسي والكلاباذي والقشيري وغيرهم. كما ألف فيه الفلاسفة كابن سينا والغزالي وابن خلدون، وتجادل فيه الفقهاء وعلماء الكلام، إضافة إلى جهود المستشرقين أمثال نيكلسون، وماسينيون وغيرهما. (1)
والتصوّف في سياقه العام, منهج أو طريق يسلكه المتصوّف قكراً وممارسة للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات, واجتناب المحرمات التي حددها النص الدينيّ المقدس, وتطهير القلب من كل ما هو سيئ في العرف الدينيّ، وتحليته بالأخلاق الحسنة, أو بتعبير أكثر تكثيفا هو تربية وتطهير النفس والجسد من كل ما يقهما من الوصول إلى الله ممثلاً للخير المطلق. وهذا المنهج يقول دعاته إنه يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبويّة واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص، فهو عند دارسيه علم له مذاهبه ومدارسه ومجتهديه وأئمته الذين شيدوا أركانه وقواعده – كغيره من العلوم الدينيّة – جيلاً بعد جيل حتى جعلوه علما سموه بـ علم التصوّف، وعلم التزكية، وعلم الأخلاق، وعلم السلوك، أو علم السالكين إلى الله. فألفوا فيه الكتب الكثيرة التي بينوا فيها أصوله وفروعه وقواعده، ومن أشهر هذه الكتب: الحِكَم العطائية لابن عطاء الله السكندري، قواعد التصوّف للشيخ أحمد زروق، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، والرسالة القشيريّة للإمام القشيري، والتعرف لمذهب أهل التصوّف للإمام أبي بكر الكلاباذي وغيرهم.(2).
لقد انتشر التصوّف في العالم الإسلاميّ في القرن الثالث الهجريّ كنزعات فرديّة تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفيّة, كالقادريّة والجيلانيّة والرفاعيّة والشاذليّة وغير ذلك الكثير. والتاريخ الإسلاميّ زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا للتصوّف مثل: الجنيد البغدادي، وأحمد الرفاعي، وعبد القادر الجيلاني، وأبو الحسن الشاذلي، وأبو مدين الغوث، ومحي الدين بن عربي، وشمس التبريزي، وجلال الدين الرومي، والنووي، والغزالي، والعز بن عبد السلام كما القادة مثل: صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح والأمير عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعز الدين القسام. (3).
على العموم, لقد دخل في التصوّف ماضياً وحاضراً جمهور غفير من الناس في العالمين العربيّ والإسلاميّ لظروف كثيرة اقتصاديّة (الفقر), وسياسيّة (الاستبداد), واجتماعيّة (غياب فكرة المواطنة والمساواة بين الناس) وثقافيّة (انتشار الجهل وسيطرة الخرافة والأسطورة على وعي المواطنين). (4). هذا وقد نتج عن كثرة دخول غير المتعلمين والجهلة في طرق التصوّف, عدد من الممارسات الخاطئة عرّض هذه الطرق الصوفيّة وخاصة الطرقيّة منها (كالقادريّة والشاذليّة والرفاعيّة وغيرها) مع بداية القرن الماضي, للهجوم من قبل الفكر التنويريّ العقلانيّ باعتبارها ممثلة للثقافة الدينيّة التي تنشر الكرامات والزهد في الحياة من جهة، ثم من قبل المدرسة السلفيّة السنيّة التي اعتبرت هذه الطرق وما تمارسه بدعة دخيلة على الإسلام, وخاصة التصوّف العرفانيّ الذي يمثله الحلاج والبسطامي وبن عربي وذو النون وغيرهم ممن طرحوا فكرتي (وحدة الوجود – والتوحد), اللتين تنفيان فكرة التوحيد التي يؤمن بها التيار السلفيّ. بينما كان هناك تناغم بين التيار الأشعري والتصوف الطرقي بعد أن أدخل أبو حامد الغزالي التصوف إلى العقيدة الإسلاميّة, وكان للسلطة السلجوقيّة الدور الكبير في دعم الفكر الأشعريّ والتصوف الطرقيّ لمواجهة الفكر الشيعيّ الذي مثلته الدولة الفاطميّة آنذاك, حيث انتشرت التكايا بدعمهم وأصبح لها دورها في نشر الفكر الصوفيّ الطرقيّ المحابي للسلطان, أو الذي لا يتدخل بشؤون السلطان. (5).
التصوف لغة:
إنّ الباحث عن جذر التصوّف في اللغة العربيّة سوف يجد أنّ الجذر هو “صوف”، فالكلمة قد تكون آتية من الصوف الذي يكسو ظهر الضّأن ونحوه، غير أنّ الإمام القشيري – وهو من أئمّة الصوفيّة الكبار- يرى أنّ لفظة الصوفيّة والتصوّف مُوَلَّدة وغير مشتقّة من أيّ جذر من اللغة العربيّة؛ فهي عنده لفظة تدلّ على الصوفيّة أو المتصوفة, وقد اصطلحوا على التسمّي بها. بينما يخالفه ابن خلدون الذي يرى أنّها, إن كانت مشتقّة من اللغة العربيّة, فهي من لبس الصوف الذي اشتُهر به أهل هذا الطريق ومعناه الابتعاد عن زينة الدنيا في ظل إقبال الناس عليها. وقال أيضاً في (المقدمة): (إن قيل بالاشتقاق فإنها مشتقة من الصوف لأنهم في الغالب مختصون به). وقال الجوهري في (الصحاح): (الصوف للشاة). وكبش صافٍ أي كثير الصوف. وصاف السهم عن الهدف يصوف ويصيف عدل عنه. ومنه قولهم صاف عني شر فلان وأصاف الله عني شره. وذهب أحمد بن علي المقري في (المصباح المنير) إلى أن كلمة صوفيّة كلمة مولدة لا يشهد لها قياس ولا اشتقاق في اللغة العربيّة. (6) .
التصوّف اصطلاحًا:
إنّ لمعنى التصوّف في الاصطلاح كثير من التعريفات قد وضعها أئمة التصوّف الأوائل كالجنيد, والداراني, وسهل التستري, وسمنون وغيرهم؛ إذ قد أحصى له الباحثون ما يربو على ستين تعريفًا قالها أولئك العلماء، وكلّها تدور حول مفهوم واحد هو: إنه طريقة لعبادة الله, قوامها الخروج من الملذات والتلبّس بأخلاق الإسلام التي كان عليها النبي وصحابته، والأخذ بجوهر الشريعة الإسلاميّة وحقيقتها، ومن ذلك ما قاله معروف الكرخي: (التصوّف هو الأخذ بالحقائق واليأس ممّا في أيدي الخلائق)، وأيضًا ما قاله بشر الحافي: (الصوفيّ من صفا لله قلبه). (7). وعرفه الجنيد بما يلي فقال: (التصوّف أن تكون مع الله بلا علاقة) أو في قوله أيضاً: (التصوّف تصفية القلب عن موافقة البريّة ومفارقة الأخلاق الطبعيّة وإخماد الصفات البشريّة ومجانبة الدواعي النفسانيّة ومنازلة الصفات الربانيّة والتعلق بعلوم الحقيقة واتباع الرسول في الشريعة). . (8).
المصادر التاريخية للتصوف:
يقول الكثير من الذين اشتغلوا على قضية التصوّف: لو تتبعنا وبحثنا في المصادر التاريخيّة التي قام عليها التصوف, فسنجد أن الفكر الصوفيّ أستمد من فلسفات أجنبيّة كالهندوكيّة والبوذيّة والفارسيّة, كما أنها استمدت برأيي الكثير من مفاهيمها أيضا من خلال تأويلات وتفسيرات للنصوص المقدسة في الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة بعيدة عن دلالاتها الحقيقيّة. فالمتصوّفة المسلمون قد أدخلوا في الإسلام ما ليس منه في جميع جوانبه سواء كان في جانب العبادة, أو في جانب العقائد والأخلاق, حتى أصبحت معرفة الصوفيّة في عمومها معرفة فلسفيّة أو إشراقيّة لا معرفة دينيّة ترجع إلى محض التمسك بالكتاب والسنة. فالإشراق الفلسفيّ الذي عرف من قبل عند سقراط وأفلاطون وغيرهم من فلاسفة اليونان والهند والفرس، والذي يصل فيه المرء بعد مرحلة التجرد والرياضة والعبادة إلى مرحلة الكشف والإخبار عن المغيبات, هو غاية التصوف الإسلامي في منهجه الفلسفيّ. (9) .
كاتب وباحث من سوريّة
التعليقات مغلقة.