تونس في السنة الحادية عشر بعد الإنتفاضة / الطاهر المعز

الطاهر المعز( تونس ) – السبت 15/1/2022 م …

يتميّز الوضع، بنهاية سنة 2021 باحتداد الأزمة الإقتصادية، وانخفاض قيمة الدّينار، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار، فضلاً عن نقص السيولة والعجز المتزايد في الموازنة، بالتوازي مع أزمة سياسية حادّة يَقُودُها طَرَفَن من السّلطة: الإخوان المسلمون الذين كانوا يقودون البلاد، منذ الربع الأخير من سنة 2011، بتحالف مع بعض القوى الأخرى، ويتمثل الطّرف الثاني في الرئيس قيس سعيد، الذي حاز على نسبة 72% من أصوات المُشاركين في انتخابات 2019، وفاز على رجل أعمال مُتّهم بالفساد، وهو حليف الإخوان المسلمين بالبرلمان المُنْحَلّ…




تهتم وسائل الإعلام السّائد بهذا الجانب من الصّراع، وتُهْمِلُ قضايا مُعظم التّونسيين الذي تجمعهم مسائل المعيشة اليومية والإرتفاع المُشِطّ لأسعار الغذاء والطاقة والسّلع والخَدَمات الأساسية، وهو انعكاس للتّضَخُّم الذي يعصف بالرواتب التي انخفضت قيمتها الحقيقية، فَضْلاً عن عجز الحكومة على تأمين تسديدها، أمّا من ليس له راتب أصْلاً فقد أصبح يُصارع من أجل القوت اليومي، وأهْمَل كلَّ ما عدا ذلك…

سبق أن مرّت البلاد، منتصف ثمانينيات القرن العشرين بصعوبات تأمين الميزانية، وبأزمة سُيُولة حادّة وحالة عجز عن تسديد الدّيون، وهي الحالة التي تمر بها تونس حاليا، غير أن الدّيُون الخارجية مُرتفعة ومُستوى عجز الميزانية قِياسي، وأصْبَحَ من العسير على الحكومة البحث عن قُرُوض بفائدة منخفضة، بعد تخفيض التّصنيف السيادي من قِبَل الوكالات المتختصة (وجميعها أمريكية، باستثناء وكالة واحدة)، وتَوَقُّعات حصول مأزَق اقتصادي في ظل انسداد الآفاق.

لم يكُن النظام قبل 2011 مُسْتَقِلاًّ، قادرًا على اتخاذ قرار سياسي أو اقتصادي سِيادي هام، انطلاقا من مصلحة الشعب والبلاد، ولم يُصبح القرار مُستقلاًّ بعد فرار بن علي في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، بل لا تزال الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، ومُؤسّساتهُما المالية (صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ) تتحكّم بالقرار، وتُظْهِرُ قراءة عاجلة لوسائل الإعلام التونسية، خلال الرّبع الأخير من سنة 2021، تواتُرَ زيارات المسؤولين الأوروبيين، باسم الإتحاد الأوروبي أو باسم ألمانيا وفرنسا وغيرهما، وتوجيه الأوامر، في شكل “نصيحة”، ما يُشِير إلى الإبتزاز والضّغُوطات العديدة، بِدَعْمٍ من قُوى سياسية داخلية، من اليمين (الإخوان والدّساترة ومن يدور في فَلَكِهِما) أو من اليسار الإنتهازي الذي قام بدَوْر “المغْسَلَة” لتطهير الإخوان المسلمين من التّطرّف اليميني ومن الإجرام، في عدّة مناسبات، منها تحال “18 اكتوبر 2005” والتّحالفات الحالية باسم “عودة الحياة الدّيمقراطية”، مع إهمال مصالح الفُقراء والكادحين، ويدعم البرلمان الأوروبي مثل هذه التحالفات، وخصّص جلسةً للوضع بتونس. أما الكونغرس الأمريكي فقد هدّدَ بقَطْع “المُساعدات العسكرية” إذا لم تُنفّذ السلطة المنبثقة عن 25 تموز/يوليو 2021، الشروط الأمريكية وأهمها عودة الحياة البرلمانية، ما يُفيد أن شُرُوط الدّول الإمبريالية ليست اقتصادية فحسبُ، بل سياسية أيضًا تَخُصُّ المواقف الخارجية، وكذلك السياسة الدّاخلية، ما يجعلها تُقَوِّضُ السّيادة الوطنية، وما يُهَمِّشُ الأحزاب التّونسية التي شكّلت جبْهَتَيْن، أهَمُّهُما “مواطنون ضد الإنقلاب” التي يُشكّل الإخوان المُسلمون نَواتَها الصّلْبَة، بالتّحالف مع الإحزاب الليبرالية المنبثقة عن الحزب الذي حكم البلاد من 1956 إلى 2011، وتُعارض الجبهتان حلّ البرلمان وتركيز السّلطات لدى رئيس الجمهورية، وتتخوف من مشروع القانون الإنتخابي الجديد الذي سوف يُهَمِّشُ دَورَها لأنه يعتمد ترشيح الأفراد، بَدَل القائمات الحزبية. أمّا بالنّسبة للمواطن غير المُتحزّب فإن ذلك لن يُغَيِّرَ شيئًا، فالحياة البرلمانية والإنتخابات لم تمنع الإغتيالات السياسية لِرَمْزَيْن من رُمُوز “الجبهة الشعبية” سنة 2013 (شكري بلعيد – شباط/فبراير، ومحمد البراهمي – تموز/يوليو 2013)، ولم يكن الصّراع داخل البرلمان بين برامج وخطط اقتصادية مُختلفة، بل صراعًا “عشائريًّا” تستغل أطْرافُهُ الحصانة للإعتداء بالشتائم وحتى بالضّرب…

يتميز النّظام السياسي التونسي (وهو ليس الوحيد في العالم ولا في الوطن العربي) بتَبَعِيّتِهِ، ما يسمح “للدّول المانحة” (وكأن الرأسمالية تمنح شيئًا بالمَجان، ودون شُرُوط) باشتراط “احترام المسار الديمقراطي”، أي احترام شكل الدّيمقراطية، وتنظيم انتخابات دورية يفوز بها من يمتلك المال ووسائل الإعلام، وما يسمح لصندوق النّقد الدّولي باشتراط تسريح عشرة آلاف من موظفي القطاع العام سنويا، طيلة خمس سنوات، وخفض حجم القيمة الإجمالية للرواتب بنسبة 10%، قبل التفاوض من أجل احتمال حصول الحكومة التونسية على قَرْضٍ جديد، ليس من أجل استثمار قيمته في مشاريع مُنْتِجَة، وإنما لتستديد دُويون قديمة، ولسدّ عجز الميزانية، وهي نفس المُمارسة التي دأبت على تنفيذها حكومات بورقيبة وبن علي وحكومات ما بعد انتفاضة 2010/2011.

كتبت وكالة الصحافة الفرنسية (15/12/2021) ما يُفيد التّدخّل المباشر للقوى الخارجية في الشؤون الدّاخلية للبلاد: رحبت الخارجية الأمريكية بخارطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس سعيّد، على أن تكون عملية الإصلاح شفّافة وأن تشمل تنوّع الأصوات السياسية والمجتمع المدني، وأكدت أن الولايات المتّحدة تدعم تطلّعات الشعب التونسي إلى حكومة فعّالة وديمقراطية وشفّافة تحمي الحقوق والحريات.

 

كيف تَرُدُّ السّلطة الحالية، والتي سبقتها على تساؤلات المواطنين الذين انتفضوا بالحوض المنجمي سنة 2008 وبمناطق أخرى خلال الرّبع الثالث من سنة 2010، ومئات الآلاف الذين تظاهروا بين 17 كانون الأول 2010 و14 كانون الثاني 2011، والشباب المعتصمين بالقصبة، أو الذين بادروا بتأسيس لجان حماية الثورة والأحياء الشعبية، وهم يَرَوْنَ “غُرَباء عن الإنتفاضة” يحكمون البلاد ويُغرقونها في الدّيُون الخارجية المَشْرُوطة، ومُرْتَفِعة الفوائد، وفي البطالة والفَقْر، ما رَفَعَ حجم الإقتصاد الموازي من نحو 40% سنة 2010 إلى أكثر من 50% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2019  (وهي تقديرات قد تختلف من دراسة إلى أخرى)،

 

خُلاصة:

قد يكون إسم رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو رئيس الحُكُومة، أو إسم حِزْب كل واحدٍ منهم مُهِمًّا، إنما الأهَمّ هو برنامج ومُمارسات الشّخص أو المَجْمُوعة أو الحِزْب، وهذا ينطبِق على الوضع السّابق للخامس والعشرين من تموز/يوليو 2021، وعلى الوضع اللاّحِق، ولا يُمْكِن تبرير دعم الرئيس “قيس سعيد” بذريعة “تخليص البلاد من حُكْم الإخوان المسلمين”، لأن الإخوان المسلمين والتيارات “الدُّسْتورية” واليمينية الأخرى (أو اليسارية الإنتهازية) موجودة ولها قاعدة في المجتمع، ويُمْكِن مكافحتُها عبر مُقارعتها بالحُجّة، وإقرار برنامج إعادة توجيه الإقتصاد نحو الإستثمار في القطاعات المُنْتِجَة وفي الصحة والتعليم والبحث العِلْمي، ومكافحة الفساد عبر استرداد الأموال المُهَرَّبَة والمَسْرُوقَة والمُمْتَلَكات المَنْهُوبَة، ومُكافحة التّهرّب الضريبي والتّهرّب من تسديد رُسُوم الحماية الإجتماعية للعاملين…    

إن الصّراع الحالي الذي يُبْرِزُهُ الإعلام، بين داعمي الرئيس “قيس سعيّد” (الشخص والرّمز ) والمُعارضة، بزعامة الإخوان المسلمين، يُهْمِل مصلحة أغلبية المواطنين، من عُمّال ومُزارعين وكادحين وأُجَراء وفُقراء ومُعَطّلين عن العمل، ويكشِف في نفس الوقت الضُّعْف السياسي والتنظيمي لِقُوَى الثورة التي انجرّت وراء تبسيط الشعارات السياسية واختزالها في شقّ مع الرّئيس وشق ضدّه، مع إهمال الوضع الإقتصادي السّيّئ الذي أقَرّتْهُ موازنة 2022، وارتفاع الدّيون الخارجية، وتواطُؤ أجهزة الدّولة، أو عجزها عن وضع حدّ للفساد ونهب الثروات والمال العام، وعدم قُدرتها على، أو تهاونها في محاسبة اللصوص والفاسدين ومُهَرِّبِي الثروات إلى الخارج…

لقد انتفض فُقراء وكادحو تونس، عدّة مرات، من أجل مطالب مُحَدّدة، بعضها مادّي، اقتصادي (الشّغل ) وبعضها سياسي (الحُرّية) وبعضها يتعلق بالكرامة، كرامة الإنسان والوطن، أي أن يعيش الشعب الكادح سيدًا في وطنه، ولا يُمْلِي صندوق النقد الدّولي (والقوى الإمبريالية التي يُمثّلها) على حُكُومته برنامجًا يُشَرْعِنُ الإستغلال والنّهب…

أين نحن من مطالب المُنتَفِضِين؟ ماذا تحقّقَ وما لم يتحقّقْ، وما العمل لضمان كرامة الإنسان والوطن؟  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.