كيف أحيت ثورة اليمن روح حركات التحرّر؟ / قاسم عز الدين
الثورة اليمنيَّة التي يقودها الجيش واللجان ضد الاحتلالين السعودي والاماراتي، تواجه العدوان الأميركي – الإسرائيلي على خطى حركات الاستقلال اليمنية في سياق حركات التحرّر العالمية.
اليمن الموصوم بالتخلّف عن “التنمية” الرأسمالية هو مهد الإنسانية التي تشهد عليها فنون العمارة التاريخية وحضارات سدّ مأرب ومملكة سبأ وغيرها الكثير في عصور الظلام الغربي والشرقي، فالنقوش والدلائل الأثرية تشير بقوّة إلى ظهور قدس إبراهيم وأنبياء التوراة، وإلى ينابيع الحضارات القديمة في اليمن (فرج الله صالح، التوراة العربية وأورشليم اليمنية. أبحاث فضل الربيعي وعالم الآثار اليمني يوسف محمد عبد الله…).
هو ملتقى الحضارات الشرقية ومحرّك تفاعلها التاريخي في موقع الثقل الاستراتيجي على بحر العرب المطلّ على المحيط الهندي، وعلى خليج عدن والبحر الأحمر ومضيق باب المندب، فالسكّان يتحدّر بعضهم من أصول صومالية وإثيوبية وهندية… كما يتحدّر من أصول يمنية أقوامٌ من العرب، و5 ملايين إندونيسي، وسكانٌ في ماليزيا وسنغافورة والهند والفلبين… وكان اليمن على مرّ التاريخ سدّاً منيعاً ضد القرصنة البحرية، وقلعة حصينة في مواجهة الغزوات العثمانية والاستعمارية الغربية (ستويانكا كيدريوفا، محفوظات المكتبة الوطنية، صوفيا، 2012).
بريطانيا تعتمد السّعودية لتفتيت اليمن
الإمبراطورية البريطانيّة الساعية لوراثة الإمبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، تقع مع اكتشاف النفط على الرجعية العربية والحركة الوهابية للسيطرة على الجزيرة العربية وإجهاض الحركة الاستقلالية في اليمن تحت قيادة الإمام يحيى الذي عقد اتفاقية تعاون وصداقة مع الاتحاد السوفياتي في العام 1928 (تاريخ اليمن المعاصر من 1917 حتى 1981، مجموعة من الباحثين السوفيات).
منذ العام 1918، دعمت بريطانيا إمارة الأدارسة الانفصالية في اليمن، التي سلّمت آل سعود أراضي جيزان ونجران وعسير اليمنية، بينما دعمت بريطانيا الحكم السعودي للسيطرة على آل الرشيد ونجد والحجاز، وإحكام القبضة الوهابية على الجزيرة العربية.
على الرغم من إلحاق الهزيمة بالحكم السعودي ووصول الحركة الاستقلالية اليمنية إلى الطائف في العام 1934، عقد الإمام يحيى اتفاقية الطائف القاضية بتأجير أراضي جيزان ونجران وعسير لمدة 20 سنة، حتى تتفرّغ الحركة الاستقلالية لتوحيد اليمن ضد بريطانيا في الجنوب اليمني. وبقيت السعودية إلى اليوم متيقّنة بأنّ شرذمة اليمن ووأد حركته الاستقلالية هما السبيلان للاستيلاء النهائي على الأراضي اليمنية وترسيخ سيطرة الملكية السعودية على شعوب الجزيرة والمنطقة العربية.
حديقة خلفية بالحديد والنار
لم تنقطع أشكال الغزو السعودي لليمن في مواجهة طموح الاستقلال والتحرّر. وقد سعت السعودية على الدوام لتقسيم اليمن إلى 6 أقاليم، وتوزيعه على زعماء القبائل المرتشية، لضعضعة الحركة الوطنية والسيطرة على اليمن، ليكون حديقة خلفية.
الرئيس الوطني إبراهيم الحمدي الذي حاول توحيد الشمال والجنوب وضمان العدالة الاجتماعية والتقارب مع دول البحر الأحمر… في مواجهة الاستراتيجية الأميركية – البريطانية لتفكيك الاتحاد السوفياتي ودفن حركات التحرّر، قتلته السعودية مع شقيقه في العام 1977، لرفضه التوقيع على التنازل عن المحافظات الثلاث وعدم قبوله الانتداب على اليمن.
دعمت السعودية مدبّري المقتلة أحمد الغشمي، ثم علي عبد الله صالح في سدّة الرئاسة في العام 1978 حتى 2011، فشدّد سطوته على اليمن بالتحالف مع الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح بزعامة آل الأحمر). ورعى علي عبد الله صالح مع علي الأحمر، وبالتبعية للسعودية، أثناء دعم أسامة بن لادن في أفغانستان لمصلحة أميركا، الاحتراب القبلي والزبائنية وتوسّع “القاعدة” في حضرموت والبيضاء وأبين ومأرب…
خاض صالح وآل الأحمر و”القاعدة” 5 حروب ضد صعدة الرافضة للوصاية السعودية بين العامين 2004 و2011. وفي العام 2009، غزا الملك السعودي عبد الله صعدة، فتقدّم اليمنيون إلى 50 بلدة في الأراضي اليمنية المحتلّة، وكاد فشل الغزو السعودي يطيح وزير الدفاع خالد بن سلطان.
حرب الاستعمار والأمراء ضد ثورة الفقراء
في حمأة المتغيرات الاستراتيجية الأميركية نحو الاستدارة شرقاً، والثورات الملوّنة الأميركية لإجهاض طموحات الشعوب العربية ضد أنظمة التبعية والقهر الوطني والاستغلال الطبقي، تدخّلت السعودية مع أتباعها في اليمن “بمبادرتها الخليجية” لمنع تغيير نظام علي عبد الله صالح، ولتأمين مصالح الدول الغربية الاستراتيجية في تقسيم اليمن وفرض الاستتباع والوصاية بتفويض مما يسمى “المجتمع الدولي”.
تكفّلت السعودية بإجهاض طموحات الشعب اليمني بالسيادة الوطنية والتحرّر من التبعية والهيمنة الاستعمارية، فأشعلت أوار الصراع القبلي والانقسام بين الشمال والجنوب، واصطنعت حرباً طائفية عبر الإخوان والوهابية “الجهادية”.
نصّبت السعودية عبد ربه منصور هادي نائب صالح “رئيساً شرعياً” مع حكومته تحت قبضتها في المنفى، ملغّمة بأتباع السعودية وأتباع الإمارات الطامعة مع “إسرائيل” بالاستيلاء على الموانئ والسواحل اليمنية واليمن الجنوبي.
وفي هذا السّبيل، جمعت السعودية والإمارات مقتسمي الغنائم حول مائدة “الحوار الوطني” في العام 2013، والتي أقرّت تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم وإخضاع اليمن للانتداب “العربي” ووصاية البنك الدولي و”الدول المانحة”. وأثناء سير “الحوار”، اغتال حزب الإصلاح مندوبي صعدة عبدالكريم جديان وأحمد شرف الدين.
اندلعت الثورة ضد تقسيم اليمن إلى أقاليم غنية لمصلحة السعودية، وأقاليم فقيرة على حساب حفاة اليمن، وضد الانتداب السعودي والهيمنة الأميركية والغربية، فرفض الثوار “مخرجات” الأقلمَة ووصاية البنك الدولي (جرعة التخدير بالتعبير اليمني)، ودعوا إلى حوار تحرّري يمني – يمني، ودخلوا إلى العاصمة صنعاء من دون قتال، بتأييد غالبية الجيش الوطني والشعب اليمني.
اندلعت الثورة لمواجهة إحياء نظام صالح واستيلاء السعودية على الأراضي اليمنية والثروة الوطنية، ومن ضمنها مدّ أنبوب النفط السعودي إلى المهرة اليمنية، كما اندلعت ضد انفصال الجنوب بدعمٍ من الإمارات الطامعة بالاستيلاء على ميناء عدن وأرخبيل سقطرى وجزيرة ميون المطلّة على المحيط الهندي… في إطار تبعيتها لـ”إسرائيل” والدول الغربية، وتخريبها دول الجنوب ومجتمعات اليمن والصومال وأرتيريا والسودان وليبيا والقرن الأفريقي والبحر الأحمر…
للقضاء على الثورة، لم يسبق في تاريخ مجلس الأمن تفويض دولة من خارج الأعضاء الدائمين الخمسة بـ”حفظ السلم العالمي”، فالحروب الإمبريالية الأميركية، بذريعة “السلم العالمي” في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان، لم تبلغ وحشية الحرب السعودية – الإماراتية في الحصار البحري والبرّي والجوي المطبَق، وفي منهجية سادية من دون قفازات، بتدمير المنشآت والمدارس والمزارع والمستشفيات وصالات الأفراح على رؤوس الأبرياء.
ولم تبلغ الدّول الاستعماريّة بربرية السعودية “عقيدة دينية” قتلاً وتجويعاً (تسميه السعودية “القتل تعزيراً”) في أكبر مأساة إنسانية تحت أنف العالم، وبمشاركة الدول الغربية الحريصة على استراتيجية الهيمنة ونهب الثروات على مصالح شركاتها النفطية وشركات السلاح والأسهم المالية.
قاومت الثورة اليمنية بالسلاح، استناداً إلى مخزون نضال الشعب اليمني الطويل في مواجهة غزو الإمبراطوريات العثمانية والغربية والسيطرة السعودية على حديقتها الخلفية، فأدركت قيادة الثورة في انتمائها إلى عالم الجنوب أنَّ الإمبريالية الساعية لتطويع الناس بأوهام “نبذ العنف” والتسامح… هي أوّل من يلجأ إلى السلاح للقضاء على حركات التحرّر، كما واجهت إصلاحات مصدّق قبل الحرب على الثورة الإيرانية، وواجهت أحمد سوكارنو وجمال عبد الناصر ولوممبا وسانكارا وتشي غيفارا وثورات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية…
عظمة الثورة تتجسّد في تحطيم الوصفة الأميركية – الدولية التي تطفئ جذوة التغيير الثوري في أنابيب “حقوق الكيانات والمكوّنات” الطائفية والإثنية والقبلية… فالزيدية لم تدخل إلى سوق الرشوة في وصفة تقسيم النفوذ والحصص، وحملت قيادة “أنصار الله” الثورية على عاتقها طموحات الشعب اليمني وأحلام فقرائه المعذّبين. وفي هذا السّبيل، تعتمد في تسطير البطولات الخارقة على موروث الشعب اليمني ونضالات الجيش الوطني وتضحيات المقاومين الأشاوس، في مواجهة نظام التبعية والهيمنة والاضطهاد ومنظومة النهب والرشوة والفساد.
تتجسّد عظمة الثورة في استعادة روح حركات التحرّر التي اختطفتها العبودية الجديدة إلى مقبرة النموذج الأميركي في التعويل على “المرحلة الانتقالية” والحريات الفردية و”التنمية” النيوليبرالية في نهب الثروات وغزو الأسواق… ففي مقاومتها المسلّحة في مواجهة غابة التوحّش الأميركي وأغلال العبودية و”اتفاقيات أبراهام”، تحمل الثورة اليمنية نداء فلسطين للتحرّر من نير الاغتصاب والاحتلال.
تقاوم الثورة بالسّلاح الهيمنة الأميركية بالتجويع والحصار، وتحمل شعلة ضوء على طريق الشعوب العربية التوّاقة إلى التحرّر من العبودية وأنظمة الاستتباع والاستغلال والفساد، وتصدح بصوت أحرار العالم وثوّار كوبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا… معبّرة عن المعذّبين في الأرض من فقراء المزارعين في هايتي والهند إلى “حياة السود مهمة” في أميركا، وإلى السكان الأصليين في البرازيل… لا إذعان لبربرية غابة التوحّش الهمجية، أملاً بعقلانية إنسانية تحفظ الوجود والبقاء.
التعليقات مغلقة.