د. مصطفى اللداوي يكتب: ” فلسطينُ ليست قضيتي ” … فيروسٌ خطرٌ ووباءٌ ينتشرُ
د. مصطفى يوسف اللداوي ( فلسطين ) – الخميس 3/1/2022 م …
نخطيء كثيراً إذا أغفلنا المتغيرات الحادثة، وأهملنا المستجدات الطارئة، وتجاوزنا الحقائق والوقائع الدامغة، وأغمضنا عيوننا عما يجري في منطقتنا العربية والإسلامية، وظننا أن الأمور بخير، وأن أوضاعنا تسر الصديق وتكيد العدو، وأنه لا خطر يتهددنا، ولا متغيراتٍ ضدنا، ولا تحدياتٍ تواجهنا، وأن قضيتنا المركزية العربية والإسلامية #فلسطين مطمئنةً وأنها بخيرٍ، وأن تحريرها بات قريباً، ودحر العدو عنها أصبح ممكناً، وأن #الأمة_العربية و #الإسلامية تقوم بواجبها ولا تتأخر، وتقدم ما عليها ولا تتلكأ، وتساهم بجهودها ولا تقصر، وتدعم بأموالها ولا تبخل، ولا تتوانى في تقديم الدعم المالي والسياسي والإعلامي.
لكننا جميعاً نعلم أن الحقيقة هي غير ذلك تماماً، وأن الواقع الملموس يشي بما يخزي، ويفضح بما يندى له الجبين، فواقعنا أليم، وحالنا بئيس، وظروفنا صعبة، وكثيرٌ من الآمال تبخرت، والشعارات القديمة اندثرت، والعواطف التي كانت جياشة انطفأت، والروح القومية التي كانت سائدة تراجعت، وربما تغير العدو وتبدل شكله واسمه، ولم تعد إسرائيل هي العدو والخصم، والخطر الداهم والكيان المتربص، واستبدلته بعض الأنظمة العربية، وهو الكيان الصهيوني الاستيطاني اللقيط، الذي نال منهم جميعاً، قتلاً واختراقاً واستباحة، بأعداء جدد من أبنائها المخلصين وجيرانها القريبين.
يجب علينا أن تعترف بأن المناخات التي كانت قد تغيرت، وأن السياسات التي سادت قديماً قد تبدلت، وغدت القضية الفلسطينية لدى أغلب الأنظمة العربية والإسلامية آخر همومها، وأقل اهتماماتها، وبات ما يشغلها عنها أكبر، وتقدم عليها كثيرٌ غيرها أخطر، وصورت بعض الأنظمة العربية الفلسطينيين بأنهم الخطر، وأن قضيتهم هي التي أضرت بهم وأوردتهم المهالك، وأنها استنزفت خيراتهم وعطلت قدراتهم، ووصفتهم بأنهم مارقين فاسدين، كاذبين منافقين، بواقين غير مخلصين، ينقلبون على من وقف معهم، ويعضون اليد التي أحسنت إليهم، ويتنكرون لمن أيدهم وساندهم، وبذا فإنهم لا يستحقون وداً ويستأهلون تعاطفاً.
تعلن هذه الأنظمة مواقف وتبطن أخرى، فهي تهاجم الفلسطينيين وقضيتهم وعيونها على الكيان الصهيوني، تريد مهادنته ومصالحته، وتسعى للاعتراف به والاتفاق معه، وتتهم الفلسطينيين وتشيد بقدرات العدو وإمكانياته، وتبرؤه من أفعاله وتشرع له إجراءاته، وحقيقة الأمر أنها تبحث عن حليفٍ يحميها، وقوةٍ تدافع عنها، وجدارٍ تتكئ عليه وتركن إليه لضمان مستقبلها، وحفظ أنظمتها، واستمرار حكمها، وتأييدها في الوقوف في وجه رغبات شعوبها وحقوقهم.
انساقت وراء هذه الأنظمة وصدقتها، نخبٌ سياسية وإعلامية وثقافية واقتصادية، من المثقفين الجدد، المستغربين المهجنة عقولهم، الذين تدعمهم السلطات وتؤيدهم الحكومات، وتسهل عملهم وتهيؤ لهم الفرص، وتوفر لهم الإمكانيات، فأخذوا يمهدون للتغيير، ويجملون السقوط، ويعددون فضائل الاعتراف ومحاسن التطبيع، ويسلطون الضوء على عيوب المقاومة وأخطاء الفلسطينيين، ولعل بعضهم مقتنعٌ بما يقول، ولكنهم وغيرهم يتقاضون الكثير على ما يشيعون، ويتلقون الهدايا والمغريات على ما يروجون ويبثون، الأمر الذي جعلهم أخبث الأدوار وأقذر الأدوات المستخدمة في إشاعة روح الذل والاستسلام في الأمة.
وقد بتنا نسمع ونقرأ عبر مختلف وسائل الإعلام العربية، الرسمية والخاصة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي العديدة والمتنوعة، أصواتاً غريبةً وأفكاراً شاذةً، لكنها قطعاً لا تعبر عن الأمة ولا تنطق بضمبرها، ولا تعكس إرثها الحضاري وقيمها الوطنية والقومية، وثوابتها العقدية والدينية، فالذين يروجونها ويبثونها في الأمة، بدعمٍ من بعض أنظمتها، وتشجيعٍ من أصحاب السلطة فيها، مارقين منها، ومندسين فيها، وخائنين لها، قد ارتضوا على أنفسهم أن يكونوا أداةً بيد العدو يستخدمها، ودميةً يعبث بها ويحركها، وبوقاً يطلقه وقت شاء أو يسكته، ويعلي صوته ويرفعه متى أراد، خدمةً لأهدافه، ودفعاً لسياسته.
لكننا رغم علمنا أن هذه الحفنة المتفيقهة والشرذمة المجعجعة لا تعبر عن الأمة، ولا تعكس حقيقتها، إلا أننا لا نستطيع أن نغفل الشعار “الهاش تاغ” الذي نشروه في أوساط الأمة، وعمموه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، “فلسطين ليست قضيتي”، أي أنها ليست شأنهم ولا تعنيهم، ودعوا شعوبهم لاعتماد هذا الشعار المضلل وتبنيه، والإيمان به وعدم الخجل منه، ظناً منهم أنهم يستطيعون تغيير هوية الأمة وطمس تاريخها، وتغيير ثقافتها وتزوير وعيها، والانسلاخ عن جلودها والتخلي عن آبائها وأجدادها، ولعن ماضيها وشطب صفحاتها منه، قربى لأصحاب السلطة والجاه، الخائفين على مناصبهم، والوجلين على مستقبلهم، والمرعوبين من مصيرهم إن سقط حكمهم وانتهى ملكهم، الظانين أن بقاء ملكهم يتحقق في رضا “إسرائيل”، ويثبت بدعها، ويبقى بإسنادها، ويدوم بمباركتها.
رغم أن هذه المجموعة لا تمثل أمتنا العربية والإسلامية، ولا تنطق باسمها، ولا تعكس حقيقتها، ولا تعبر عما يجول في خاطرها ويجيش في قلبها، وأنها شرذمةٌ قليلةٌ، ضالةٌ مضلةٌ، منبتةٌ منقطعةٌ، مأجورة ومرهونة، ومنتفعة ومستفيدة، إلا أنه لا يجوز الصمت إزاءها أو السكوت عنها، فهي تعمل بنفسٍ بطيءٍ وخططٍ مدروسة، وتغير بالتدريج وتؤمن بسياسة الطرق، وتعتقد أن مراكمة الخطوات انجازٌ، والمزيد من نشر الأفكار سيحدث التغيير في الأمة، خاصةً لدى الأجيال الشابة والطالعة، التي سمعت بالحروب ولم تعشها، ورأت صورة العدو ولم تعرف حقيقته أو تطلع على تاريخه.
فلا نضعف أمامهم ولا نيأس، ولا تخور قوانا وتفتر عزائمنا، أو يتسلل الشك إلى قلوبنا ويتزعزع اليقين في نفوسنا، ذلك أن سواد الأمة الأعم، وجمهورها الواسع الكبير، المؤمن الصادق، الواثق المطمئن، يرفضهم ولا يعترف بهم، ولا يقبل بشعاراتهم ولا يؤمن بها ولا بهم، ولكنه يدرك أن الظروف تخدمهم والسلطات تحميهم، والمنابر مسخرة لهم، وأبواب الفضائيات ووسائل الإعلام مشرعة لهم وموصدة في وجوه خصومهم، ولكن هذا الحال لن يدوم، وهذا الاستخذاء لن يستمر، فالعدو سيبقى عدواً وإن غير جلده، والذئب سيبقى يتربص بالحمل ليفترسه، وإن صادقه حيناً أو واعده مرحلةً.
بيروت في 2/2/2022
التعليقات مغلقة.