تيارات الحركة النّسوية، بين التّنَوُّع والإختلاف / الطاهر المُعز
الطاهر المُعز ( تونس ) – السبت 5/2/2022 م …
تَعَدُّدُ أَوْجُهِ اضطهاد النّساء:
يُمكن اعتبار الحركات النسوية، حركات اجتماعية، مُنحازة إلى صف النساء في المجتمع، وتتبنى قضيتهن، من أجل إصلاح الخلل بين الرّجل والمرأة، في مجمل المُجتمعات، وتعديل ميزان القوى بواسطة التّوعية وبواسطة الفعاليات والتّظاهرات التي تُصمّمُها النساء، وتشارك في تنفيذها، وتختلف مختلف المجموعات النسائية في الأهداف والوسائل، ولكنها تتفق في العديد من المواقف والقواسم المُشتركة المتعلقة بضرورة مقاومة الظّلم المُسَلّط على النّساء…
تتفق منظمات الحركة النسوية المُعاصرة بأن المنظمات والتّيارالت النسائية التي تُوصف بعبارة ( Feminism ) انطلقت من الولايات المتحدة، خلال القرن التّاسع عشر، أي إن “فيمنيزم” هو تَيّار “غَربي”، والغرب مصطلح يُشِير إلى الدّول الرأسمالية الإمبريالية، وأصبحت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك بريطانيا، مركزًا لهذا “الفيمنيزم”، الذي يهدف الحصول على بعض الحقوق الفردية للمرأة التي كانت خاضعة لسلطة الذّكُور، ولم تكن تمتلك حق التّصرُّف في ممتلكاتها ومالها، ومحرومة من التّعليم ومن العمل، ثم حقّقت الرأسمالية بعض المطالب التي تجعل من المرأة عاملة بأجْر، لكنها مُستَغَلَّة أكثر من الرّجل العامل، ما جعل الحركات النّسْويّة ترفع شعار المُساواة الكاملة في كافة المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، من خلال سن تشريعات جديدة والقيام بحملات توعية وحث المواطنين على تغيير نظْرَتِهم وسُلُوكهم تُجاه المرأة…
نحاول في الفقرات الموالية إبْراز تَنَوُّع الحركات النسائية واختلاف المُنظمات المُهيْمِنَة مع منظمات البلدان الفقيرة، أو الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، كما تظهر الإختلافات كذلك داخل الدول الرأسمالية نفسها، باختلاف تياراتها الفكرية، من ذلك ظُهُور تيارات النساء السود الأمريكيات أو نساء الشُّعُوب الأصلية، ونُخصّص فقرة موجزة لمكانة ومقاومة النساء ضمن “كومونة باريس”، وفقرة عن النساء السود في الولايات المتحدة، وفقرة موجزة لأهم محطات تاريخ الحركة النسوية العربية…
يُمْكن وَصْفُ الحركات النّسوية بأنها مُتَنَوِّعَة، ومُتأثِّرَة بمختلف التّيّارات الفكرية السياسية والإجتماعية، لأن النّساء مُختَلِفات، تمامًا كما الرجال، ولا تُواجه النساء نفس الظّروف ولا نفس المَوْرُوث الإجتماعي والثقافي، بحُكْم الموقع الإجتماعي والطّبقي والفِكْري، فَمنْهُنَّ الفقيرات والثّرِيّات، والتقدّمِيّات والرّجْعِيّات، لكن يتمثّلُ القاسم المُشترك لهذه الحركات في النّضال ضد التمْيِيز والإضطهاد الذي تتعرض له النّساء بسبب أُنُوثَتِهِنَّ، ثم اختلفت التّيّارات النّسْوِية بشأن تحديد أسباب القهر والإضطهاد، وكذلك بشأن الحُلُول النّهائية والتّحَرُّر الكامل للنساء، مرورًا بالحلول المَرْحَلية، والنّضال من أجل حق النساء في التعليم والعمل واختيار شريك الحياة، أي المُساواة في الحقوق، مع الرّجل…
هيمنت الحركات النسوية بالبلدان الرأسمالية الإستعمارية والإمبريالية على الحركة النّسْوِيّة العالمية، وتمكّنت من فَرْض رُؤْيَتِها لحقوق المرأة، التي تَمَّ حَصْرُها لفترة طويلة في الحقوق القانونية، ومن ضمنها حق التّصْوِيت، وتغيير وضع المرأة بواسطة التّشْرِيعات، كما حَصَرَتْ مكان وتاريخ ظُهُور الأفكار المُدافعة عن حُقُوق النّساء، في أوروبا والولايات المتحدة، منذ القرن التاسع عشر، مع إهْمال نضال النّساء الواقعات تحت الإستعمار ونضال النساء السود في الولايات المتحدة ونضال نساء الأقليات والأثنيات والأعراق المُضْطَهَدَة، ونساء الشّعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية والشمالية، ونضال نساء الشعوب الواقعة تحت الإستعمار في آسيا وإفريقيا، ومنهن النساء العربيات (الجزائر وفلسطين، على سبيل المثال)، وأهملت الحركات النّسْوِية الليبرالية (المُتَبَرْجِزَة)، لعدة عُقُود، الحقوق الإقتصادية والإجتماعية للنساء في الأرياف وفي المصانع والأحياء الشعبية…
كان ظُهُور تيار “نسوية ما بعد الاستعمار”، بمثابة ردّ الفِعْل على هذا التّيّار النّسْوِي الليبرالي “الغَرْبِي” المُتّهَم بالتّرْكيز على تاريخ وتجارب ووضْع نساء أوروبا وأمريكا الشمالية، وإهمال دَوْرِ الإستعمار في نَشْر العُنْصُرِيّة وفي طَمْس ثقافة الشعوب المُستَعمَرة، والمُتَّهَم بإهمال ما يُنْتِجُهُ الإستعمار من تشوُّهات في المُجتمعات الواقعة تحت الهيمنة، وبرزت بعض الباحثات والمناضلات النّسْويات المُدافعات عن حقوق الشّعُوب المُسْتَعْمَرَة والمُضْطَهَدَة، نذكر منهن الهنديات “أرونداتا روي” و”أنوراها غاندي” ( 1954 – 2008) وهي مناضلة شيوعية ونسوية، وزعيمة ثورية في قيادة الحزب الشيوعي الهندي (المَحْظور)، نَقَدَت بشيء من الحِدّة الحركات النّسوية الأوروبية والأمريكية، والحركات المُتَغَرْبِنَة في “العالم الثالث”، ولخّصت ذلك النّقد في كتابها “الإتجاهات الفلسفية في الحركة النّسوِيّة”، وهو مُحاولة جادّة لإرساء حركة نسْوية طَبَقِيّة ( بروليتارية ) بديلة، تنطلق من واقع النّساء الكادحات والفقيرات بالهند، وبالبُلدان الواقعة تحت الإستعمار والهيمنة الإمبريالية، وتجدر الإشارة كذلك إلى “تشاندرا تالباد موهانتي”، وهي باحثة أمريكية من أصول هندية، كرّست بحوثَها لِتوضيح تأثير الإستعمار في المجالات الإقتصادية والثقافية والإجتماعية، للشعوب المُسْتَعْمَرَة، بينما تقتصر الحركات النسوية “الغربية” على اعتبار نساء “العالم الثالث” (التّعبير لتشاندرا تالباد موهانتي) “ضحية مجتمع السلطة الأبوية”، دون إعارة أي اهتمام للتأثيرات السلبية للإستعمار في هذه المجتمعات…
التيار الإشتراكي وتجذّر نضالات النّساء
أثار “توماس مور” ممثل التيار الطوباوي في إنغلترا، منذ القرن السادس عشر، و “جون ميلليه” ( Jean Meslier ) الذي كان رجل دين في فرنسا (1664 – 1729)، واكتشف النّاس إلْحادَهُ بعد وفاته، من خلال كتاب كان أعدّه في أكثر من ستمائة صفحة، ولم ينْشُرْهُ، وكذلك “سان سيمون” (1760 – 1825) الذي عاصر الثورة الفرنسية ويُعتبر رائد تيار “الإشتراكية الطوباوية”، وأثار هؤلاء الثلاثة وغيرهم، قضايا مُرتبطة بخصوصية الفكر النّسوي، ضمن المَشاريع الطّوباوية التي دَوّنها هؤلاء، ما جعل بعض الفلاسفة اللاحقين يعتبرونهم من رُوّاد الإشتراكية بأوروبا، ومن أوّل المُعتَرِفِين بالإضطهاد الذي تُعاني منه النّساء، ضمن الحُدثود التي يفرضها محيطهم، فالفكر الإشتراكي يعتبر أن اضطهاد المرأة مرتبط أساسًا باحتكار ملكية الأرض وأدوات الإنتاج، لتَتَحَوّل من مِلْكٍ مشاع إلى ملكية خاصة، وما نتج عنها من ظهور المجتمعات الطّبَقِيّة، وعلى استغلال من لا يمتلك أدوات الإنتاج، من قِبَلِ من تَمَلَّكَ وسائل الإنتاج، وبالتّالي فإن المجتمع الإشتراكي المَنْشُود يُلْغِي جميع أشكال التمييز بين البشر، ومنها المَيْز الجنسي بين الرجل والمرأة…
يعتبر نسويو ونسويّات التيار الإشتراكي أن الإرث عَزَّزَ مكانة الرجال وحطّ من قيمة النساء، داخل نفس الأُسْرَة، وزاد من حدّة قمع واضطهاد النساء، قبل ظُهُور النظام الرأسمالي، وشَكّلت المِلْكِيّة الخاصة “أكبر هزيمة للنّساء”، بحسب تعبير “فريدريك إنغلس” ( 1820 – 1895 ) في كتابه “أصل العائلة والمِلْكِيّة الخاصّة والدّولة” (1884). أما النّظام الرأسمالي فقد دعم اضطهاد المرأة من خلال تقسيم العمل بين “عمل مُنتج مدفوع الأجر” خارج المنزل، وعمل مجاني “غير منتج” وغير معترف بقيمته الإجتماعية، وهو عمل النساء داخل المنزل، لكن انخراط النساء في العمل المأجور، الصناعي أو الزراعي أو في قطاع الخدمات، ومُشاركتهن في النضالات النقابية والعُمّالية، ليس كافيًا للقضاء على خُصُوصِيّة الإضطهاد المُسَلّط على النّساء، ولذلك ظهرت أدبيات نسوية اشتراكية تضيف خصوصية المَيْز الجِنْسي “البطريركي (الأَبَوي، أو الذُّكُوري)، الى الإستغلال الطّبقي الرّأسمالي، وانقسم التيار النّسوي الإشتراكي إلى تيارَيْن:
“النسوية الشعبية” تكافح لكي يترافق النضال من إجل المساواة بين الجنسين مع النضال ضد الفقر والتهميش والعنصرية.
أما تيار “الأجر مقابل العمل المنزلي”، فيحاول إبراز حجم العمل غير المُعْتَرَف به وغير الظاهر في دفاتر المحاسبة وتكاليف إنفاق الأُسْرة، ويتمثل في العمل المنزلي المجاني وإعادة إنتاج النوع البشري (أي الحَمْل والولادة وتربية الأطفال)، ضمن منظومة الإقتصاد الرأسمالي، أو اقتصاد السُّوق الذي يُحدّد سِعْرًا لكل شيء، ولكل ساعة عمل، ويُهْمِلَ تقدير القيمة المادّيّة لعمل النّساء في المنزل، ولصالح أفراد الأُسْرَة ولصالح المُجتمع…
جذور الثامن من آذار/مارس:
يُشكّل الإستغلال الطبقي والإضطهاد المَبْني على أساس الجنس، قاسمًا مُشتركًا للعاملات وللفُقيرات من النساء، وتُضاف إلى ذلك عوامل أخرى، مثل الإضطهاد الإستعماري والإمبريالي، أو الإضطهاد بسبب المُعتَقَد والعِرْق واللّون وما إلى ذلك، ما يفرض مراعاة تعدد أشكال الاضطهاد الذي تُعاني منه النّساء المُهاجرات أو النساء ذات البُشرة السّوداء في الولايات المتحدة، ليُشكّل الإضطهاد والتّمْيِيز مجموعة من الضّغُوط ومن العَقبات في الحياة اليومية، ما يَخْلُقُ فُرُوقات إضافية بين النّساء، البيض والسّود في أمريكا الشمالية، على سبيل المثال، ودافعت رائدات تَيّار “النّظَرِية التّقاطُعية”، مثل “كيمبرلي ويليامز كرينشو” (أستاذة قانون أمريكية) و “كريستين ديلفي” ( عالمة اجتماع فرنسية)، منذ أكثر من ثلاثة عُقُود، عن ضرورة تضامن النساء الأوروبيات والأمريكيات مع النساء المُهاجرات والدّفاع عن المشاكل الخُصُوصِيّة لنساء الشعوب الأصلية والأقليات، والإنخراط في النضال المشترك بين جميع النساء من أجل تحقيق العدالة والحرية للجميع.
يُعْتَبَر التّيّار النّسوي الإشتراكي من أقدم التيارات النسوية بالدّول الصناعية، ويمكن اعتبارُهُ الإبن الشّرْعي لنضال النّساء العاملات، منذ 1820، بمدينة “نيو إنغلند” (ولاية ماساتشوستس)، حيث تظاهرت النساء العاملات بقطاع النّسيج في مدينة نيو إنغلاند بولاية ماساتشوستس احتجاجا على ظروف العمل وضُعف الرواتب، وكانت المصانع تُشغِّلُ النساء لأكثر من 12 ساعة يوميا، في ظروف سيئة، مقابل أجر زهيد أقل من رواتب الرّجال، وكانت هذه المظاهرة نقطة انطلاق لاحتجاجات أخرى عديدة، أهمها إضراب عاملات القُطن بمصنع “لوريل”، سنة 1834، من أجل أُجُور مُتساوية مع الرّجال، وكانت هذه الإضرابات مُنْطَلَقًا لإنشاء أول جمعية نسوية بالولايات المتحدة، سنة 1844، وفي 1857 احتجّت آلاف النساء في مدينة نيويورك على ظروف عمَلِهِنّ، غير الإنسانية، وقمعت الشُّرْطَةُ بعنف شديد هذه التظاهرة التي نجحت في إزعاج السّلطة، وطرح مسألة ظروف عمل النّساء على طاولة نقاش السّلُطات المحلية والإتحادية، وأدّت هذه الإحتجاجات إلى تأسيس أول نقابة نسائية لعاملات النسيج بالولايات المتحدة، سنة 1859…
في الثامن من آذار/مارس 1908، شاركت نحو 15 ألف امرأة في مسيرة نسائية بمدينة “نيويورك”، من أجل خفض عدد ساعات العمل، وظروف عمل ورواتب أفْضَل، ووقف تشغيل الأطفال، والمُساواة مع الرجال في الرواتب، وكذلك في الحقوق السياسية، ومنح النساء حق الإقتراع، ونُظِّمَت المظاهرة تحت شعار “خُبز ووُرُود”، حيث رفعت النساء المُتظاهرات قطعا من الخبز اليابس وباقات من الورود، وشكلت هذه المظاهرة بداية نشوء حركة نسوية عُمّالية، انضمّت إليها نساء من الفئات المتوسطة، واختصرت نضالها في المطالبة بالمساواة والإنصاف.
بعد ذلك بسنة واحدة خاضت نحو ثلاثين ألف عاملة نسيج أضخَم إضراب عن العمل، استمر لأكثر من 13 أسبوعا، من أجل تحسين ظروف العمل وزيادة الرواتب، وتمكّنت المُضْرِبات من تحقيق بعض المكاسب الجزئية، رغم اعتراض أصحاب مصانع النسيج ورغم انحياز جهاز القضاء، بل اعتبَر أحد القُضاة أن النساء المُضربات “خالَفْن القوانين الإلهية”…
في الثامن والعشرين من شباط/فبراير 1909، نظّم الحزب الإشتراكي الأمريكي “اليوم الوطني للمرأة”، ودعا إلى مظاهرة يوم الثامن من آذار/مارس 1909، تخليدًا للذّكرى الأولى لمسيرة “خُبز ووُرُود”، ودعت “كلارا زيتكن”، المُشرفة على قسم حقوق المرأة بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الألْماني إلى جعل يوم الثامن من آذار/مارس يومًا عالميا نضاليا، من أجل فَرْض مطالب النساء، وذلك خلال مُشاركتها في المؤتمر الدّولي للمرأة العاملة (كوبنهاغن – دنمارك 1910) الذي جمع النساء العاملات من 17 دولة من أوروبا وأمريكا الشمالية، وأقَرّ المؤتمر هذا المُقتَرَح وتم الإحتفال به يوم 19 آذار/مارس سنة 1911، بكل من ألمانيا وسويسرا والنمسا ودنمارك، ولكن لم يقع الإعتراف بذلك سوى بعد موافقة الأمم المتحدة سنة 1977، وتم الإتفاق على يوم الثامن من آذار/مارس…
انطلق حريق بمصنع نسيج بنيويورك، يوم الخامس والعشرين من آذار/ مارس 1911، أودى بحياة أكثر من 146 عاملاً وعاملة، من إجمالي خمسمائة عاملة وعامل، بسبب افتقار المصنع لوسائل الوقاية والسلامة المهنية، وغياب التهوئة ومنافذ الطوارئ، وشارك عشرات الآلاف من العمال في جنازة الضحايا، ما اضطر السلطات إلى تغيير قوانين العمل، ودلقيت النساء المُضربات بعض الدّعم من الحركة النسوية النّاشئة، وتمَكّن اتحاد النّقابات النّسائية من جَمع مبلغ الكفالات المالية لإطلاق سراح العاملات اللائي تعرضن للاعتقال خلال الإضراب...
شكلت مُظاهرات “الخبز والورود” بداية وجود حركة نسوية مناضلة بالولايات المتحدة، ضَمّتْ نساء من الفئات المتوسّطة، وأطْلَقت حركة واسعة تُطالب بالمساواة والإنصاف، وبالحقوق السياسية، وفي مقدّمتها حق الإقتراع، تحت اسم “سوفراجيستس” ( Suffragists ) التي تُشير إلى نضال الأميركيين السود ضد العبودية، ومن أجل حقهم في الحرية والعتق من العبودية…
الرابطة النسائية النقابية:
تعود الجذور التّاريخية لفكرة تأسيس النقابات الُعُمّالية النّسائية إلى نهاية القرن التّاسع عشر، ببريطانيا، بالتّزامن مع بدايات انتشار الفِكر الإشتراكي الأُمَمِي، خصوصًا بعد انعقاد المؤتمر الأول لجمعية الشغيلة الأُمَمِية، المعروفة باسم “الأُمَمِيّة الأولى” (1864 – 1876) بمشاركة كارل ماركس وفريدريك إنغلس، وساندت الرابطة البريطانية، سنة 1890، فكرةَ إنشاء حركات عمالية للمرأة، في أوروبا وأمريكا، بدَعْمٍ من الأحزاب الإشتراكية في بريطانيا والولايات المتحدة.
مثّلت “الرابطة النّسائية النّقابية” (الولايات المتحدة الأمريكية) جانبًا من تنوّع واختلاف الحركة النّسوية بالبلدان الصناعية، تأسّست سنة 1903، بدعم من بعض النساء الميسورات، بهدف تنظيم النّساء العاملات من أجل تحسين ظروف العمل، وزيادة الرواتب، ودعمت الرابطة العاملات المُضربات خلال العقدَيْن الأوّلَيْن من القرن العشرين، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى، والأزمة التاريخية في فترة ما بيْن الحَرْبَيْن (أزمة 1929 – 1933) عرقلت جهود النقابات العمالية لتغيير أوضاع الطّبقة العاملة، وتحقيق المُساواة في الأجُور…
تمكّنت الرابطة من تحشيد النّساء العاملات في فضاء نقابي مُناضل، خصوصًا خلال الفترة بين 1907 و 1922، حيث اهتمت قيادة الرابطة النسائية النقابية تنظيم النساء العاملات في النقابات، وناضلت من أجل تأمين التشريعات التي تحمي المرأة العاملة، واهتمت بالجانب الإعلامي، لتحسيس مجمل المواطنين بمشاكل واحتياجات المرأة العاملة، وأحسنت استخدام الإكتشافات الجديدة مثل “التلغراف” (سنة 1907)، لدعم إضراب أكثر من عشرين ألف عاملة بمصانع النسيج والملابس، بنيويورك وفيلادلفيا، تمكنت الرابطة من توفير محلات لعقد اجتماعات عامة ومناقشة سير الإضراب، كما تمكنت من جمع الأموال لصندوق الإغاثة ولتغذية المُضْرِبات، وللدفاع عن المعتقلات من المُضربات وتوفير مبالغ الكفالة المالية، ونظمت الرابطة لقاءات جماهيرية ومسيرات لدعم مطالب العاملات…
لعبت الرابطة النسائية النقابية دورا مماثلا في إضراب عُمّال وعاملات الملابس، ما بين سنتَيْ 1910 و 1912، بنيويورك وشيكاغو وكليفلاند وإيوا وماساتشوستس وميسوري وويسكونسن، لكن توترت العلاقات مع الإتحاد الأمريكي للعمل، سنة 1912، عندما طالب الإتحاد بوقف إضراب عُمّالي لأنه خَرَجَ عن سيطرته، وبدأت الرابطة تُركّز على الاصلاحات التشريعية، بعد الحرائق الضخمة التي راح ضحيتها المئات من العاملات والعُمّال، بمصانع النسيج والملابس، وطالبت بتحديد عدد ساعات العمل بثمانية يَوْمِيًّا، وتحديد أَجْرٍ أدْنَى، وقوانين لحماية العُمال، في ظل عداء أعضاء المحكمة العليا الأمريكية للطبقة العاملة، وللنساء بشكل خاص، ولخّصت العاملات الخلفية العقائدية لأعضاء المحكمة العُليا بجملة “إن قيمة حياة العاملات والعاملين رخيصة جدّا، مُقابل قَداسَة المُمتلكات ورأس المال”، وأطْلَقَتْ الرابطة النسائية النقابية، سنة 1920، حملة من أجل حق الإقتراع للنساء الأمريكيات، بالتحالف مع جمعيات أخرى…
اتسمت مجمل الحركات النسائية التّقليدية بالتركيز على المساواة بين الرجل والمرأة في مجال التعليم والعمل والرواتب، وفي شغل المناصب العليا للسّلطة، وهي حقوق مَشْرُوعة لكنها لا تقضي على استغلال المرأة العاملة في مواقع العمل، ولا تقضي على استغلال المُهاجرات وعاملات المنازل، بينما يعتبر التيار النّسوي الماركسي أن المنظومة الإقتصادية والسياسية الرأسمالية عدو مُشترك للنساء والرجال، من العاملين والعاملات، ويرى ضرورة إنهاء النظام الرأسمالي والملكية الفردية، كخطوة لتحرر المرأة من الإستغلال والإضطهاد، كما اعتبر “فريدريك إنغلس” في كتابه “أصل العائلة والمِلْكِيّة الخاصة والدّولة” ( 1884 ) أن المرأة تُعاني من اضطهاد مُزْدَوَج، من قِبَل النظام الرأسمالي، ومن قِبَل نظام السّلْطة الأبوي (patriarchal authority system )، وتتقاسم السُّلطتان الأدوار، فيتولّى الرّجل الوظائف القائمة على الإنتاج الاجتماعي والعمل مدفوع الأجر، بينما تتولى المرأة الأعمال المنزلية والمادية المجانية، ذات المكانة الإجتماعية المُتَدَنِّيَة، ولكي تتحرّر المرأة، وجب النضال المُشترك من أجل تحقيق المُساواة الكاملة والعدالة الإجتماعية والإقتصادية، فالرأسمالية تستغل جهود الطّبقة العاملة، من النساء والرّجال، فيما تستغل المنظومة البطريركية جهود النّساء عبر العمل المنزلي وعبر إعادة إنتاج المُجتمع، من خلال الحَمْل والولادة وتربية الأطفال، وتُواصِلُ التيارات النّسْويّة الإشتراكية تَوْضِيح العلاقات المتبادلة بين الرأسماليَّة والسلطة الأبويَّة، التي نشأت اجتماعيًّا مع تطور نظام الملكيَّة الخاصة، الذي سمح بنقل الملكية بواسطة الإرث، وتأسيس علاقات غير متوازنة، وتوزيع للمهام وللوظائف على أساس من التمييز الجنسي، فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المعترف بها ضمن منظومة الإنتاج الرأسمالي، كالحمل والإنجاب ورعاية الأطفال والمُسِنِّين (بسبب غياب أو شح الخدمات العمومية لرعاية الأمهات والأطفال والمُسنّين)، وإقصائها من الفضاء العام ومن المُشاركة في الحياة الثقافية وفي الإقتصاد وإعادة إنتاج المعرفة والفُنُون، وحرمانها من المُشاركة في المنظومة السياسية والتّشريعية…
الوجه المخفي لانخراط النّساء في النضال الثّوري
نساء كومونة باريس:
بدأت ثورة سُكّان الأحياء الشعبية بباريس، بعصيان مدني، ثم بثورة شعبية ضد الحصار والإحتلال البروسي (الألماني)، وضد تعميق الفجوة بين الأثرياء والفُقراء العاملين والمُعَطّلين عن العمل والمُحاصَرِين، بعد هزيمة فرنسا، سنة 1870، وضد حكومة قَصْر “فرْسَايْ”، بداية من يوم 18 آذار/مارس 1871، واستولت الطبقة العاملة على السّلطة، ولم يستمر وُجُودُها سوى حوالي شَهْرَيْن يومًا، قبل أن تسقط تحت نيران التّحالف الألماني الفرنسي، يوم 28 أيار/مايو من العام 1871، لكن صداها وتأثيرها تجاوز مدينة باريس، وبقيّة مناطق فرنسا، التي حاول بعضها إقامة “كمونة” مماثلة، وبلغ صداها كافة أرجاء العالم، لأن الطبقة العاملة أصبحت تُدِيرُ مدينة باريس ومنطقتها، قبل أن يتحالف الأعداء، أي القوة الألمانية المُحتلّة والقوة الفرنسية، ضدّ “كومونة باريس” التي انهزمت وتم اعتقال وإعدام وتشريد قادَتها نحو المُستعمَرات كالجزائر وكاليدونيا وغويانا…
كانت مُشاركة النّساء كثيفة وهامّة وحاسمة، فقد حملت النّساء السّلاح، ودافَعْن عن مدينتهن، وقادت “الويز ميشال” كتيبة النساء المسلحات التي ألحقت هزيمة بالجيش النّظامي، واستولت على أسلحته، ما ساهم في تغيير ميزان القوى لصالح الثورة، ولو مُؤَقّتًا، وشاركت النساء الثوريات في إدارة حكومة “كمونة باريس” وفي الدّفاع عنها، إلى جانب وحدات “الحرس الوطني للدّفاع”، مع عشرات الآلاف من أهالي باريس، وتم انتخاب قادة الكتائب المُسَلّحة في الأحياء الفقيرة، وتمكن هذا الجيش من المُتطوّعين والمتطوعات، الذين حظوا بثقة السّكّان، خلال الإنتخابات، من الإستيلاء على سلاح المدفعية، وأعدّ المتطوعون، بإشراف نساء ثوريات، خطّة للدفاع عن باريس، ولتنظيم الحياة اليومية، لكن تحالف الأعداء تَكالَبَ على ثورة العاملين والفُقراء، وقصف جيش الحكومة المدينة – التي أصبحت تُديرها “كومونة باريس”- في الثاني من نيسان/أبريل 1971 وتعرضت باريس لهجوم وحْشِي، وتولّت كتيبة النساء إدارة الدّفاع عن مختلف الأحياء، فضلاً عن تواجدهن في مواقع العمل…
كان للنساء دَوْرٌ بارز في إقرار عدد من القوانين والإجراءات، خلال فترة إدارة الطبقة العاملة لمدينة باريس، حيث تم صَرْفُ رواتب للنّساء، خلال فترة استلام إدارة المدينة التي استمرت 60 يوماً، كما تم صَرْفُ رواتب زوجات وعشيرات الشهداء من الحرس الوطني، وإقرار تخفيض إيجارات المساكن خلال فترة الحصار، وأقرّت كومونة باريس حَظْرَ العمل اللّيْلِي بالمخابز وللنساء، وإلغاء حكم الإعدام، وحَظْر الرِّبا (الإقراض بفائدة)، وتسليم المصانع التي فَرّ مالكوها إلى الخارج، ليتولّى العُمّال إصلاحها وصيانتها وإعادة تشغيلها تحت إشراف هيئة عُمّالية منتَخَبَة، كما تم إلغاء التجنيد الإجباري واستبداله بجيش من المتطوعين…
لم تُنْشَرْ إلى غاية اليوم (2021) بيانات عن عدد ضحايا “الأسبوع الدّامي”، خلال الهجوم والقصف الذي أدّى إلى هزيمة “كومونة باريس”، وإلى فَرْض حكومة الطّوارئ التي لا يُحاسبها أحد، لفترة خمس سنوات، وقُدِّر العدد الإجمالي للضّحايا بنحو خمسين ألف، فضلاً عن المُصابين، وبعد الهزيمة، تم نَفْيُ نحو سبعة آلاف إلى مُسْتعْمَرَة “كاليدونيا الجديدة”، بالمحيط الهادئ، وبضعة آلاف إلى الجزائر، فيما لم يُعْرَف كذلك عدد المُعْتَقَلِين…
كان لنساء أحياء الطبقة العاملة الفضل الأكبر في قيادة وإدارة الأحداث التي خَلّدت “كومونة باريس”، وفي إصدار القوانين الرّائدة لصالح الأطفال والنّساء والعُمّال…
في مناطق أخرى من العالم، قاومت الشعوب الأصلية بأمريكا الغُزاة والمُستعمِرين المستوطِنين الأوروبيين، منذ القرن الخامس عشر بأمريكا الجنوبية، والقرن السابع عشر بأمريكا الشمالية، وتمت إبادة الملايين من الرجال والنساء والأطفال، وحافظ من تبقّى على قَيْد الحياة، خاصة من النّساء والمُسِنِّين، على لُغات وثقافة وتُراث هذه الشّعُوب الأصْلِيّة، التي كانت ولا تزال مُهَدّدة بالإندثار، فيما غابت الشَّواهِد والوثائق المكتوبة لتُراث هذه الشّعُوب، أو تَمَّ إتلافُها عمدًا من قِبَل المُسْتعمِرِين الأوروبِّيِّين البيض، إلى أن بدأ بعض المُتَعَلِّمين والمُتعلِّمات (في مدارس الكنيسة) من أبناء هذه الشُّعوب يُحاولون، خلال القرن التّاسع عشر، إحياء تُراث أجدادهم، ومن ضمنهم نساء ناضَلْنَ من أجل حُقُوقِهِن كَبَشر، ومن أجل حُقُوق الشُّعُوب الأصلية، ومنهُنَّ ( Zitkala – Sa ) التي وُلدت سنة 1876 وتوفيت سنة 1938، وعَرّفت نفسها، سنة 1900 بأنها “لا مُتوحِّشَة ولا مُتحضِّرَة”، بل مُناضلة من أجل حقوقها وحقوق مثيلاتها، وقبلها كانت ( Susette La Fleche ) 1854 – 1903، وبعدَها ( Laura Cornelius Kellogg ) 1880 – 1947، وهُنَّ من رائدات الحركة النسوية والنّضال من أجل المُساواة بين البشر، ولكن نادِرًا ما ذكرهُنّ ضمن البُحُوث والدراسات التي اهتمّت بتاريخ الحركة النّسْوِية أو الإجتماعية، وأهملت العديد من الدّراسات ما تعرّض له أفراد الشعوب الأصلية من عُنْف وما تعرّض له الأطفال من عُنْف في مدارس الكنيسة، وما تعرضت له النساء من الشعوب الأصلية ومن السّود، من إقصاء، بعد إقرار قانون حق مُشاركة النّساء في عملية اختيار النّواب المحلّيين ومجلس النّوّاب الإتحادي، لكن بعض النّسْوة المَقْصِيّات من الحياة العامة، من الشعوب الأصلية ومن السود، ساهمْنَ، منذ 1916، في تأسيس الإتحاد العام لنوادي النّساء، وأسّسْن ضمنه فُرُوعًا لنساء “الأقليات الإثنية” من أجل المطالبة بالمُساواة في الحُقُوق، ومن أجل “وضْعِ حدٍّ للمَيْز الذي تتعرض له الشعوب الأصلية والأقليات العرقية…”، وفق “زِتْكَلا – سا” التي حاولت وضع أُسُسٍ لتضامن النّساء، دون اعتبار الحواجز الطّبقية والعُنصرية، وفشلت في ذلك، لكن شَكّلت نُصُوصها وخطاباتها جُزْءًا من نضالات الشعوب الأصلية، ومن نضال النّساء بالولايات المتحدة…
في منتصف القرن التاسع عشر، عقدت الحركات النّسويّة الأمريكية التي تُناضل من أجل الحقوق المدنية (المساواة في بعض الحقوق) مؤتمرًا يومَيْ 19 و 20 تموز/يوليو 1848، ولكن النّضال بقي تقريبًا محصورًا في المطالبة بالحق في الإقتراع، وهو ما تم إقرارُهُ قانونًا سنة 1920. لكن الحركة النّسوية التي نشأت مُبكِّرا في الولايات المتحدة، ضَمّتْ عدّة تيّارات، من بينها تيّار يحاول ربط النضال ضد الهيمنة الذّكورية بالنّضال من أجل المساواة بين النساء والرجال، كما بين مختلف الفئات الإجتماعية والإثنية، ما يُعَرّضُ سُمْعَة مناضلات هذا التّيّار إلى التّشويه من قِبَل رجال الدّين المتحالفين مع السّلطة السّياسيّة، بذريعة “تَقْويِضِهِنّ لِقِيَم الأُسْرة والمُجتمع”.
في القرن التاسع عشر، كما في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، تمكّن هذا التّيار من دَمج النضال من أجل حقوق المرأة بنضال الجماعات الأخرى المُضْطَهَدَة والواقعة تحت المهيمنة ، ولا سيما الأمريكيون السود والعمال، وبدأت الإتصالات بين بعض تيارات الحركة النّسوية وأعضاء الطبقة العاملة والمناضلين من أجل حُقُوق السّود والأقليات، اقتداء برائدات الحركة النسوية الأمريكية (سوزان ب. أنطوني وإليزابيث كادي ستانتون وغيرهن ) من الدّاعيات إلى دعم نساء الطّبقة العاملة، وشارك بعضهُنّ في تأسيس حركة “اتحاد العمال الوطني” منذ عام 1868.
اقتنعت مناضلات هذا التيار “الراديكالي” بالتقاطع بين الاضطهاد الاجتماعي والعنصري، الأمر الذي سمح (منذ ستينيات القرن العشرين) بتعدّد اللقاءات وتبادل الأفكار بين هذه التيارات المختلفة التي تناضل من أجل قضايا المساواة، وتوحيد الصّف ضد نفس العدو الطبقي والإجتماعي، والمتمثل في السّلطة السياسية والإقتصادية والدّينية…
الحركة النسوية السوداء بأمريكا:
في حزب “الفُهُود السُّود” (تأسّس سنة 1966، للدّفاع عن حقوق السّود الأمريكيين) كانت الوجوه المعروفة لدى الجمهور هي وجوه بعض القادة المُؤسّسِين من الرّجال، مثل (Huey Newton و Bobby Seale و Eldridge Cleaver )، لكن في واقع الأمر، شكّلت النّساء نسبة 60% من مناضلي الحزب الذي كان يَضُمُّ في صُفُوفه عشرات الآلاف من المناضلين، ومن المناضلات، وأشْهَرُهُنَّ زوجات هؤلاء القادة الذّكور ( Elaine Brown – Kathleen Cleaver – Erika Huggins )، وكذلك (-Tarika Lewis Assata Shakur ) ، فضلاً عن “أنجيلا ديفيس” التي تَخَطّت شُهرتُها الولايات المتحدة…
أشرفت النّساء الثّوريات بحزب الفُهُود السّود على تأسيس “حركة تحرير النّساء”، وعلى تنظيم وتنفيذ البرنامج الإجتماعي للحزب في أحياء الفُقراء، من كل الألوان والأجناس، وتضَمّن هذا البرنامج: الغذاء المجاني للأطفال، والتعليم والعلاج المجاني للفُقراء والمُسِنِّين، ودعم المساجين وأُسَرهم، وكان الرجال يتقاسمون المهام تحت إشراف النّساء، وكانت “إيريكا هغينز” تُردّدُ “إن المرأة التي تنتمي إلى حزب الفُهُود السّود، هي بالضّرُورَة مناضلة نسْويّة”، فيما كانت “كاتلين كليفر” تُردّد: “تتمثّل مطالب النّساء والرجال السود في تحقيق العدالة، التي تعني كذلك المُساواة”، وكانت “إلين براون” أمينةً عامةً للحزب، سنة 1974، عندما كان القادةُ الرجالُ رهن الإعتقال أو التّشْريد، وكتب السّجين السياسي “موميا أبو جمال”: “إن المناضلات دَفَعْنَ القادة الرجال إلى التّفكير بجدّية في دور النّساء، في الحزب، كما في المجتمع، فقد كان الرجال يتوقّعون في البداية أن تُعاضدهم النّساء، لا أن تَقُودهم، ولكنّهن أظْهَرْن جدارة وبراعة فائقَتَيْن وأبْدَعْن في كافة المجالات…”، لكن هؤلاء القادة من الرّجال أدركوا مكانة المناضلات، فبفَضْل إشراف نساء حزب الفهود السود على مقاصف مدرسية لأطفال مَعازل السّود، وتأسيس جمعيات المستأجرين وإدارة المستوصفات المَجانية وتوزيع الملابس، وغيرها من الأنشطة الإجتماعية، تمكّن حزبهم من استقطاب ما لا يقل عن خمسة آلاف مُناضل جديد بين عامي 1967 و 1971 ، وتجاوز صيت الحزب أحياء السُّود الفُقراء، واكتَسَبَ صورة إيجابية جيدة في أوساط فُقراء معظم المُدن الأمريكية…
بيّنت هذه المدرسة الفكرية ترابط قضايا المَيْز العُنْصُرِي على أساس الجنس أو العِرْق، والإستغلال الطّبقي، ليتقاطع الإضطهاد مع الإستغلال، أما المُشرفون عليهما فهم من نفس طبقة الرأسماليين الأثرياء الذين يُمسِكون بزمام السلطة السياسية والإعلام، بالإضافة إلى السلطة الإقتصادية والمالية، وكانت “كيمبرلي كريشنو” من رائدات نظرية “التّقاطُع”، تقاطع التفرقة العرقية والجندرية التي تواجهها النساء الملونات، على مستوى القانون، ثم على مستوى الفعل، أي الحصول فِعْلِيًّا على الخدمات العامة والقدرة على النفاذ إليها، ثم شَمِلَ هذا الطّرح، في فترة لاحقة، إبراز تقاطع كافة أشكال وأنظمة القهر والهيمنة والتمييز، لتشمل الجنس والعِرْق واللون والطبقة…
تمكنت الحركة النسائية السوداء من اكتساب شعبية، منذ عقد الستينيات من القرن العشرين، خلال فترة تصعيد العدوان على فيتنام (العَدُوّ الخارجي)، وتصعيد القمع ضد العديد من الفئات الإجتماعية (العدو الداخلي) داخل الولايات المتحدة، ونمت الحركة النسوية السوداء مع حركة الحقوق المدنية والنضال ضد المَيْز القانوني وضد العنصرية، وشكّلت خلال عِقْدَيْ السبعينيات والثمانينيات، رافعة ومُحَفّزًا لتحرّر مجموعات أخرى من الأقليات مثل الشعوب الأصلية، والنساء الفقيرات من البيض…
رائدات الحركة النّسوية العربية:
صاغ الفيلسوف الفرنسي “شارل فوربييه” مُصْطَلَح “النّسْوِيّة” سنة 1837، واسْتُخْدِمَ مصطلح “النسوية” لأول مرة باللغة الإنغليزية، فيما بَعْدُ، خلال نفس القرن التاسع عشر، لِيُصْبِحَ مُصْطَلَحًا تتبَنّاهُ وتستخدمُهُ الحركة التي تدعو للمساواة بين الرجل والمرأة، في العديد من بلدان ومناطق العام، ومنها المنطقة العربية التي ظَهَرت بها، كما غيرها من مناطق العالم، نساء (ورجال أيضًا) يدعون إلى بناء مجتمع يُطبّق المُساواة بين أفراده، رجالاً ونساءً، من بينهن بعض المُتعلّمات الميْسُورات مثل الصحفية والكاتبة السورية “هند نوفل” (1860 – 1920) التي نشرت أول مجلّة نسائية عربية بعنوان “الفتاة”، سنة 1892 (تأسّست بمصر مجلة أخرى تحمل نفس الإسم من 1937 إلى 1943)، والمصرية “هدى الشعراوي” (1879 – 1947) التي ناضلت من أجل تعليم الإناث، كما أصْدَرت “لويزا حبالين”، وهي سورية عاشت بمصر مجلّة “الفردوس” النسائية سنة 1896…
من المُعاصِرات، في السودان كانت المناضلة الشيوعية فاطمة أحمد إبراهيم ( 1932 – 2017) رائدة النضال التحرري، ناضلت (مع أفراد أُسْرَتها) ضد الإستعمار البريطاني، وترأست الإتحاد النّسائي، كما ناضلت، ضمن الحزب الشيوعي السّوداني، من أجل الديمقراطية والتّحرّر الإجتماعي والمُساواة، وبعد إعدام زوجها، سنة 1971، هاجرت إلى بريطانيا، وانتُخبت رئيسةً للإتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، سنة 1993…
في مصر اشتهرت الدكتورة “نوال السّعداوي” ( طبيبة أمراض صَدْرِيّة وكاتبة 1931 – 2021 ) بكتاباتها دفاعًا عن حقوق النّساء، وفَصَلَتها وزارة الصّحّة من عملها كمديرة مسؤولة عن الصّحّة العامّة، وطردتها كذلك من نقابة الأطباء، حيث كانت أمنية مساعدة، سنة 1972، بعد الضّجة التي أثارها كتابها “المرأة والجنس”، وتحالفت ضدّها السلطات السياسية والدّينية، كما اعتُقِلَتْ وسُجنت بعد انتقادها لسُلْطة أنور السّادات، ثم سافرت للتدريس بالولايات المتحدة بعد إصدار فتاوى ضدّها وضد زوجها بتهمة الكُفْر، ثم أصبحت مُستشارة للأمم المتحدة لمنطقة “إفريقيا والشرق الأوسط”… من أقوالها الشّهيرة: “يفْقِدُ الإنسان كرامَتَهُ عندما يعجز عن الإنفاق على نفسه”…
من الرجال الذين دافعوا عن حقوق النساء، كان الكاتب والأديب المصري “قاسم أمين” (1863 – 1908) والمحامي المصري “مرقص فهمي” ( 1870 – 1955 ) والتونسي “الطاهر الحدّاد” (1899 – 1935) الذي ساهم في تأسيس أول نقابة عُمالية تونسية مستقلة عن النقابات الإستعمارية الفرنسية، سنة 1924 (وهي أيضًا سنة تأسيس الإتحاد النسائي بمصر)، ودافع عن مُساواة المرأة بالرجل ودفع ثمنًا مُرتفعًا، حيث تمت محاكمته وإقصاؤه من التعليم ومن الوظيفة لأنه عارض التوزيع التقليدي للأدوار بين الرجل والمرأة واعتبره الإستعمار وكذلك رجال الدّين التونسيين “خطراً على هوية وقِيَم المجتمع”، ولا تزال القوى الرجعية العربية تعتبر الدّعوة إلى المُساواة في الحقوق (ومنها الميراث) “مُخالفة للطبيعة” وخطرًا على استقرار المجتمع، ولا يزال رجال الدّين وتيارات الدّين السياسي تعتبر منظمات تحرير المرأة، حركات مُعادية للدّين…
خاتمة:
رغم الانتصارات التي حققتها المرأة، فإن النساء لازلن يتعرضن للاغتصاب والاتجار بأجسادهن والانتهاك و التمييز العنصري ليس فقط في البُلدان الفقيرة، كما تُشير معظم تقاريرر المنظمات “غير الحكومية” التي نشأت في الدول الرأسمالية الإمبريالية، ولكن في الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا…
أدّى انهيار الإتحاد السوفييتي، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، إلى انخرام توازن القوى بالعالم، فسادت النّيُوليبرالية، وتعاظَمَ نُفُوذ الشركات العابرة للقارات، وساد منطق القوة الأمريكية المُطْلَقَة، وساد معها وهْمُ “تجانس وضع المرأة في معظم مناطق العالم”، وما ذلك سوى تمويه لتبرير تسليع جسم المرأة، وكانت النّساء من أولى ضحايا الغطرسة الأمريكية (والأطلسية) بيوغسلافيا والعراق وأفغانستان وغيرها، وتَعَزّز دور الكيان الصّهيوني بالمنطقة، بعد رُكُوع قيادات منظمة التّحرير الفلسطينية (اتفاقيات أوسلو)، كما كانت النساء من أكْبَر ضحايا “العَوْلَمَة” الرّأسمالية، التي عَمّمت ظروف العمل الرّديئة والوظائف الهَشّة والرواتب المُتَدَنِّيَة، وأدّت إلى تغييرات سلبية كبيرة تمثّلت في تراجع الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية للفئات الكادحة والفقيرة، لا سيما لنساء الطبقة العاملة، بالمصانع والمزارع، في المُدن والأحياء الشعبية، وفي الأرياف، وكذلك للفئات المتوسطة، واستغلال النساء المتعلمات في وظائف هامشية، كالإتصالات والتّجارة والخَدَمات بعقود هشّة وبأُجُور منخفضة…
لا تزال الحركة النسوية تواصل النضال ضدّ المَيْز بسبب الجنس، وضد عدم المساواة بين الجنسين، لكن يبدو أن معظم الناس يعتقدون أن عمل الحركة النسوية قد انتهى، بمجرّد إقرار الأمم المتحدة، والمجالس النيابية تشريعات عن “تكافؤ الفُرَص في التّعليم والتّوْظيف” أو إدانة العُنْف ضدّ النّساء، لكن في الولايات المتحدة، قتلت أكثر من 1200 امرأة على أيد أصدقائهن أو أزواجهن في الولايات المتحدة، من إجمالي أربعة آلاف امرأة قتيلة، بسبب العنف المنزلي والأُسَري، سنة 2018، و ترتكب حوالي ثلث جرائم قتل النساء في الولايات المتحدة على يد الزوج أو الصديق، ويُتوقّع أن هذه الأرقام لا تعكس الحقيقة، فهي دون الواقع لأنها تُشير إلى الحالات المَعْلُومَة من قِبَل الشّرطة، ولا يزال قتْل النّساء على يد الزّوج أو العَشِير، من أحد الأسباب الرئيسية لوفاة النساء الحوامل، وأظْهرت الوثائق الرسمية الصادرة بنهاية 2020، تَعَرُّضَ 4,4 ملايين امرأة أمريكية للعنف والإيذاء، بحسب مؤسسة “بيثاني هاوس”، الخيرية، لمُساعدة النساء بالولايات المتحدة.
في الجيش الأمريكي الذي يحتل العراق أو أفغانستان أو غيرها، يُشكل خطر تعرّض النساء اللاتي يخدمن في الجيش للاغتصاب على يد جندي من زملائهن خطرًا أشدّ من القتل على يد المقاومة العراقية.
يتشدّق السياسيون الأمريكيون بأن وضع المرأة اليوم أفضل حالا من السابق، فللمرأة الحق في التصويت والعمل خارج المنزل، وتوجد قوانين تجرم العنف المنزلي، لكن ذلك لا يغير من واقع حياة النساء، ولا يحمي مليون امرأة، منهن الجُنديات بالجيش، من الاغتصاب، سنويا.
هناك العديد من العقبات التي تواجه المرأة الأميركية، وعلى سبيل المثال تُزَوِّرُ وزارة القضاء الأمريكية بيانات العنف المُسلَّط على النساء الأمريكيات، وفق دراسة نشرها المركز الوطني للبحوث و علاج ضحايا الجرائم، ذكرت أن العدد الفعلي لاغتصاب النساء في الولايات المتحدة سنة 2008 فاقَ مليون حالة، وليس 182 ألف كما وَرَدَ في تقرير الوزارة. من جهة أخرى، تضطر نحو 85% من النساء للعمل خارج المنزل في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتها التعليمية ولا مع خبراتها، وتشكل النساء الغالبية العظمى للفقراء في أمريكا، وتُساهم المنظومة الإقتصادية في استدامة هذا الوضع لأن معدّل رواتب النساء يُعادل نحو 75% من متوسّط رواتب الرجال، رغم تكفل حوالي 18% من النساء الأمريكيات بإعالة أُسَرِهِنّ، دون مُساعدة فرد آخر من أفراد الأُسْرة…
خلافًا لما تُرَوّجُهُ بعض التّيّارات الأوروبية والأمريكية، لم تُساهم الحركات النّسوية بالبلدان الإمبريالية في تأسيس الوعي بضرورة تحرّر المرأة في الوطن العربي، بل نشأت الحركة النّسوية العربية بفضل نساء عربيات، من الفئات المُتعلّمة، الميسورة والمتوسطة، دافَعْن، منذ النّصف الثاني من القرن التّاسع عشر، على فكرة المُساواة، وعن حقوق النساء وعن المُساواة، وانتشرت هذه الفكرة في مجمل البلدان العربية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لمّا كانت جُل البلدان العربية مُسْتَعْمَرَة، بشكل مباشر، ودعت نساء عربيات عديدات إلى المُساواة والشّراكة بين الرجال والنساء، كبديل لمنظومة الهيمنة البطريركية (الأبَوية أو الذُّكُورِيّة)، وإلى الثورة على المنظومة السياسية والإقتصادية، على البطركية والدينية التي لا تزال تَحُدُّ من مُشاركة النساء في المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية…
عُمومًا، اقتصر الخطاب الرسمي العربي على ترديد خطاب عام وفضفاض، فيما أظْهرت الممارسة تراجعًا لبعض المكتسبات، حيث ارتفع منسوب العُنف بالتوازي مع انتشار الأمّية والفقر والبطالة، حيث يتميّز الوطن العربي (كَكُتْلَة أو كإقليم) بمُستويات قياسية مُرتفعة، فضلاً عن تعدّد أوجه العدوان التي تراوحت بين الإستعمار الإستيطاني الإحلالي (إحلال مجموعة استعمارية مكان السكان الأصليين) كما في فلسطين، والعدوان المباشر، كما الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصّومال، والعدوان غير المباشر، عبر نهب الثروات واقتصار دور الدّولة على الحفاظ على أمن ومصلحة الشركات العابرة للقارات. أما الخطاب الديماغوجي عن حق المرأة في العمل، فلا يعني البتّة المُساواة بين الرجال والنّساء…
إن مسألة تحقيق العدالة بين الجنسين تتطلب إلغاء التمييز في الواقع، وليس في النصوص القانونية: التمييز على أساس الجنس وإلقضاء على العنصرية والمَيْز والأُمِّيّة والبطالة والفقر…
التعليقات مغلقة.