داعش بعد القرشي: 4 سيناريوهات / قتيبة الصالح
قتيبة الصالح ( سورية ) – السبت 5/2/2022 م …
لم يكن لزعيم “داعش” المقتول، أبي إبراهيم القرشي، أو قرداش، تلك الكاريزما أو الحضور الذي تمتّع به الزعيم السابق أبو بكر البغدادي. هذا الأمر بدا جلياً، سواء في صورة التنظيم الخارجية، أو في أثره داخل صفوفه. لم يكن قرداش معروفاً بكونه رجل تخطيط أو قيادة واستراتيجيات. كان رجلاً أمنياً صرفاً. وحتى هذه الصفة سقطت بعد الوصول إليه في بلدة أطمة، في ريف إدلب السورية.
لكنّ ذلك لا يعني أن الضربة التي تلقّاها “داعش” تُقاس بحجم حضور المقتول، أو أثره. فوفق أدبيات التنظيم، فإن الحديث هنا ليس عن قائد أو زعيم، بل عن “خليفة المسلمين”. ووفق هذا المستوى، يُقاس حجم الضربة التي تلقّاها “داعش”، وارتدادات الأمر أيضاً في المرحلة المقبلة.
منذ انتهاء “دولته” المزعومة، مع سقوط آخر معاقله في الباغوز في سوريا، تعرّض “داعش” لضربة قاتلة. أدّى ذلك إلى نهاية الآلية التي عمل بها التنظيم خلال فترة سيطرته على مساحات شاسعة من سوريا والعراق، ناهيك بالتحول الذي طرأ على استراتيجية الانتشار والتمدد، بالإضافة إلى الصعوبات التي بات يعانيها التنظيم في ملف التجنيد الأساسي بالنسبة إليه.
عاد “داعش”، في إثر ذلك، إلى حالة اللامركزية، ليس إدارياً فحسب، وإنما استراتيجياً أيضاً، إذ انتقل التنظيم من التركّز في بقعة جغرافية، وفق ميزانية كبيرة ودواوين تشرف على الولايات، إلى مفارز تنتشر بسرية من دون تنسيق أو تواصل تقريباً.
بمقتل البغدادي عام 2019، انتهت رسمياً فكرة “الخلافة” وتأسيس الدولة في أذهان فكر عناصر التنظيم. ومع تولّي القرشي خلَفاً للبغدادي، زاد مشهد التنظيم تعقيداً تبعاً للتململ الداخلي من شخص “الخليفة” وتاريخه.
شخصية القرشي، ذات الخلفية الأمنية لا الاستراتيجية أو القيادية، بالإضافة إلى تاريخه المطعون فيه، وعدم الإجماع عليه داخل التنظيم، أنهت حالة الكاريزماتية التي تمتّع بها هذا المنصب في عهد البغدادي، وقاد ذلك القرشي إلى القيام بعملية إعادة هيكلة داخلية، مدفوعاً بمحاولة إحكام قبضته، ومنع أيّ تحركات قد تؤدي إلى إطاحته، أو شق صفوف التنظيم.
أنشأ القرشي، بمجرد تولّيه، لجنةً مفوَّضة إلى جانب مجلس الشورى، بالإضافة إلى جهاز أمن سّماه قوات النخبة. وضمن الغطاء الهرمي للتنظيم، انقسمت القيادة إلى 4 مجالس: المجلس العسكري، والمجلس الشرعي، والمجلس الأمني (الإداري)، بالإضافة إلى المجلس الإعلامي. ويمتدّ هذا التقسيم نزولاً إلى أسفل الهرم في المفارز أو القواطع، بحيث يوجد مسؤول عسكري وآخر أمني وثالث شرعي ورابع إعلامي. تتولى القواعد، عبر مسؤوليها الأربعة، اتخاذ القرارات والتنفيذ بمعزل عن القيادة التي لا اتصال مباشر بها، بينما تتولى المستويات العليا التخطيط العام والنشر الإعلامي المركزي وإدارة عمليات الأذرع حول العالم، انطلاقاً من سوريا والعراق.
ومما قام به القرشي أيضاً في إطار إعادة الهيكلة، المحافظة على دائرة ضيّقة حوله، تتألف من عدد محدود جداً من الأشخاص الذين تنتمي أغلبيتهم إلى الجنسية العراقية. كانت هذه المجموعة، التي شكّلت اللجنة المفوضة للتنظيم، مؤلفة من: جمعة عواد البدري (شقيق البغدادي) وأبي حمزة القرشي، الذي شغل منصب الناطق باسم التنظيم، وأبي محمد المصري وأبي هاشم الجزراوي، بالإضافة إلى نايف حمد شياع، وأبي سعد الليبي.
السيناريوهات الأربعة
1- للتنظيمات الشبيهة بـ”داعش” عادة شخصٌ جاهز في حال مقتل “الخليفة”، فتعمد التنظيمات إلى اختيار خليفة للزعيم خلال حياته. ويرتبط ذلك، بصورة كبيرة، بمحاولة إظهار الاستقرار والمحافظة على كتلة التنظيم، بالإضافة إلى منع أّي خلاف مستقبلي. على هذا الأساس، من المرجَّح أن يكون الاختيار وقع فعلاً على خليفة للقرشي، ويبقى أن تعلن اللجنة المفوضة اسم البديل.
أمّا بشأن شخص الاسم المقبل، فتلك مشكلة كبيرة يعانيها التنظيم. يحتاج “داعش” إلى اسم من العيار الثقيل للمحافظة على تماسك التنظيم. لكن ذلك لا يبدو مهمة بسيطة، إذ إن الجيل المؤسِّس، في أغلبيته، إمّا قُتِل وإمّا اعتُقِل. وبين 48 شخصية ممّن يُسَمّون رفاقَ أبي مصعب الزرقاوي، تبقّى اثنان فقط، هما: أبو يزيد العراقي وإياد الجميلي، على الرغم من أن أنباء تواردت عن مقتلهما في وقت سابق. وتتداول بعض المصادر اسم “والي العراق”، أبي ياسر العيساوي أيضاً، لكن الأخير كان أُعلن مقتلُه مطلع العام الماضي قرب كركوك في العراق.
وفق كلّ ما سبق، يكتنف الغموض مصير التنظيم وقيادته. وتبعاً للسرية المحكمة التي ينتهجها التنظيم، تتضارب التكهنات بشأن اسم “الخليفة” المقبل. على أن التنظيم، تبعاً للتحولات التي عاشها خلال السنوات الماضية، قد يفاجئ الجميع في اختيار اسم من الصف الثاني أو الثالث حتى، مع ترجيح أن يكون عراقياً، من أجل تأكيد مرجعية التنظيم، وإبقاء فكرة “الخلافة” حيةً في أذهان عناصره.
2- بصرف النظر عن اسم الشخصية، التي سيتمّ إعلانها لخلافة القرشي، فإن تصفية زعيم التنظيم تفتح الباب للنقاش الداخلي بشأن آلية عمله الحالية. وكما مثّلت تصفية البغدادي انتقالاً من التركيز إلى التشتت، قد تدفع تصفية القرشي التنظيم إلى تعزيز اللامركزية.
يواجه “داعش”، في المرحلة المقبلة، تحدي السيطرة على أذرعه المنتشرة حول العالم؛ تلك الأذرع التي بات بعضها أقوى من التنظيم الأُم، وتنشط في ساحات أكثر اشتعالاً وجذباً في الوقت ذاته، كـ”ولاية خراسان” في أفغانستان، و”ولاية غرب أفريقيا” في الساحل الأفريقي.
بناءً على ذلك، قد يتوجّه التنظيم إلى منح أذرعه مساحة أكبر لحرية الحركة واتخاذ القرار، بحيث يصبح قرار هذه الأذرع ليس خاضعاً لتخطيط مركزي أو لمراجعة من القيادة في سوريا والعراق، مع ترجيح أن يبقى النشر الإعلامي مركزياً، لتأكيد مركزية التنظيم، على نحو يشكّل ارتباطاً بمرحلة الخلافة السابقة، وعامل جذب أكبر لاستمرار التجنيد الذي يعتمد عليه التنظيم، بصورة كبيرة.
3- لكنّ قوة الأذرع المشار إليها، بالإضافة إلى إمكان أن يكون زعيم التنظيم المقبل أحد أفراد الصف الثاني أو الثالث، يُعِيدان إلى الصورة جدل “الشرعية الجهادية”، بمعنى ادّعاء بعض الفروع الأكثر قوة في التنظيم الشرعيةَ في القيادة، وأن تستخدم هذه الأذرع قوة حضورها من أجل المطالبة بتركز القيادة لديها، وفي المنطقة التي تنشط فيها.
في هذا السيناريو، يبرز “داعش خراسان” بصورة كبيرة، وخصوصاً بسبب ما يوفره الوضعان الأمني والسياسي في أفغانستان من إمكان الوصول إليها في إطار تجنيد المقاتلين، وما توفره أيضاً في إطار تمويل التنظيم مالياً، وهو ما يعانيه التنظيم في سوريا والعراق.
فرع التنظيم في الساحل الأفريقي يبرز أيضاً في هذا السياق، بسبب مساحة الحركة الواسعة هناك، وانتشار التنظيم في عدد من الدول، وإمكان قيامه بعمليات، هي الأكثر تأثيراً حتى الآن، بالإضافة إلى سردية بدأت بعض الأوساط المتشددة ترويجَها بشأن ضرورة إحداث تغيير في صعيد تركُّز القيادة، وأن نقلها إلى بقعة جغرافية بعيدة سيوفّر للتنظيم فرصة في التقاط الأنفاس بعيداً عن المناطق الأكثر استهدافاً.
4- في جانب آخر، وامتداداً للفكرة السابقة، تفتح تصفية زعيم التنظيم للمرة الثانية الباب للصراعات الداخلية، تأسيساً على ما عاشه التنظيم خلال السنوات السابقة من حركات تمرد وانقلابات.
يمكن، في هذا السياق، أن يعود تنظيم “جند الله”، أو الحازميون، إلى الواجهة، وهم فصيل طُرد من “داعش” عام 2015. يتمتع هذا التنظيم بحضور قويّ في الساحة السورية، وقد يعمل على الاستيلاء على قيادة “داعش”، أو محاولة جذب عناصره إلى صفوفه، على نحو قد يشكّل حركة انشقاق على نطاق واسع، لم يتعرّض له التنظيم من قبلُ، ويُفسح المجال أيضاً أمام انشقاقات أخرى داخل صفوف التنظيم مع تصاعد طموح بعض قياداته ذات الرتبة الأدنى. ويتعزّز هذا الافتراض بسبب أن التنظيم يعيش، منذ سنوات، حالة من الاستقلالية على مستوى المجموعات الصغيرة، بالإضافة إلى رواج فكرة التنظيمات الصغيرة في أماكن انتشار التنظيمات المسلّحة، في إدلب تحديداً.
في كل الأحوال، تبقى الميزة الأكبر لتنظيم “داعش” هي السرية في النشاط، وكذلك الهيكل. ومع ترجيح مبادرة قيادته الحالية إعلانَ خليفة للقرشي بصورة سريعة، يبقى أن ننتظر كيف سينعكس مقتلُ “الخليفة” الثاني توالياً عليه.
لا شكّ في أن الأثر المعنوي سيكون كبيراً على التنظيم، وهو ما قد ينعكس على الجوانب العسكرية والأمنية، بصورة كبيرة. من المرجَّح أن يلجأ إلى عمليات ثأرية من أجل المحافظة على ماء وجهه، لكنّ الظروف، التي يمر فيها “داعش” في سوريا والعراق، قد يترتّب عليها أن يكون مسرحُ هذه العمليات في ساحات بعيدة.
التعليقات مغلقة.