ماكرون يحلم أن يكون صانعاً للسلام عبر البوابة الأوكرانية / ميشيل كلاغاصي
ميشيل كلاغاصي ( سورية ) – الثلاثاء 15/2/2022 م …
من خلال لقاءٍ احتاجه وأراده أن يكون تاريخياً، وبكلماته العاطفية المنمّقة، وعلى وقع سحر العاصمة موسكو، عاش الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ساعات رائعة وواعدة في ضيافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقتٍ لم تستطع السّاعات الست التي جمعت الرئيسين أن ترفع المستوى المنخفض لنتائج الزيارة، والذي كان سائداً قبل اللقاء. أما بعد اللقاء، فقد اعتبر الكثيرون أنّ الرئيس بوتين أضاع وقته، وكرر مواقف بلاده فحسب.
استغلَّ الرئيسان الروسي والفرنسي لقاءهما في الكرملين مؤخراً لحلِّ الكثير من الأمور العالقة بين البلدين. أرادها ماكرون أن تكون زيارةً تاريخية قبيل الانتخابات الفرنسية، ومن بوابة الأزمة الأوكرانية ومحادثاته في موسكو، ومن ثم في كييف.
وقد ثمّن الإعلام الغربي اللقاء بين بوتين وماكرون، واعتبره أهمّ لقاء يُعقد حول “أمن أوروبا”، وأشارت “لوفيغارو” إلى أنه “اللقاء الأهم لمستقبل أوكرانيا وأمن أوروبا”، ورأت “نيويورك تايمز” أنه “غير عادي” من حيث المدّة والشكل، فيما أكّدت الصحف الروسية أنّ “القادة تحدثوا وجهاً لوجه”، وكتبت بوليتيكو: “دخل ماكرون إلى عرين الدب، وتمزّق إلى أشلاء”.
ومن الأهمية بمكان بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي عقد قمّة كهذه قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إذ إنها قد تساعد في تكثيف أصوات الفرنسيين يوم الاقتراع أكثر فأكثر، وخصوصاً أن ماكرون لا يحظى، بحسب استطلاعات الرأي، بنسبة تأييدٍ شعبي كبيرة، بفعل سياساته الداخلية التي ألغت عدداً من المكاسب الاجتماعية في الظروف الصّعبة، ووعوده بإصلاحاتٍ اقتصادية لم تُنفذ بعد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سياساته الخارجية التي تنساق وراء الخيارات الأميركية، والسلوك الفرنسي في مالي وعموم القارة الأفريقية، وهي أمورٌ مهمَّة تركها ماكرون خلفه، وجاء ليمنع “الهجوم الروسي الوشيك” على أوكرانيا، حالماً بجني حصاد سياسيّ، وتحصيل أكاليل الغار، وتقديم نفسه على أنه “صانع السلام”.
وبعد 3 محادثاتٍ هاتفية، اتجه الرئيس الفرنسي إلى موسكو، على أمل أن يعلن والرئيس بوتين السلام في أوكرانيا، لا أن يعلنه الرئيسان بوتين وبايدن. وقد تحدَّثت “الفايننشال تايم” عن صفقة روسية – فرنسية تسحب موسكو من خلالها حوالى 30 ألف جندي من بيلاروسيا بعد نهاية التدريبات المقررة في 10 – 20 شباط/فبراير، لكنَّ الرواية الأميركية لم تتوقّف هنا، بل تحدَّثت عن هجوم روسي بعد انتهاء أولمبياد بكين، وتحديداً من الأراضي البيلاروسية.
ومن خلال المؤتمر الصّحافي، فإنَّ أهمّ ما قيل هو أنَّ المحادثات كانت “بنّاءة” و”مفيدة”، ولم يتطرّق أحدهما إلى الإعلان عن التوصل إلى اتفاق حول هندسة الأمن في أوروبا الشرقية وتوسع الناتو شرقاً، ففي الوقت الذي تدرك موسكو ضرورة الحوار مع فرنسا، فإنّها تدرك ضرورة الحوار مع دول أخرى.
وبحسب المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “فرنسا عضو في الاتحاد الأوروبي ورئاسة الاتحاد والناتو، والقيادة تنتمي إلى دولة مختلفة تماماً في هذه الكتلة”، ويقصد دول تحالف “أوكوس”، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. وبناء عليه، قال الرئيس بوتين لضيفه: “لا أعتقد أن حوارنا ينتهي هنا”، في حين شدَّد ماكرون على أنه لا يتوقع نتائج فورية للمحادثات في موسكو.
لذلك، استخدم بوتين المؤتمر الصحافي للحديث عن موقف روسيا حيال توسع التحالف، وخاطب الولايات المتحدة والشعب الفرنسي والعالم الغربي ككلّ من خلال الرئيس ماكرون، في ظل تجاهل واشنطن وبروكسل مخاوف موسكو الحقيقية نتيجة اقتراب الناتو من الحدود الروسية.
ولفت الرئيس بوتين نظر ضيفه إلى أنَّ القيادة الأوكرانية توجّهت إلى الانتخابات وفق شعار حلّ القضيّة في دونباس سلمياً، لكنَّها لم تكن مستعدّة للامتثال للالتزامات المنصوص عليها في حزمة تدابير مينسك واتفاقياتها لقادة الـ”نورماندي”، والتي تمَّ التوصل إليها في مؤتمري باريس وبرلين.
كما لفت انتباهه إلى الانتهاكات “الجسيمة الممنهجة” لحقوق الإنسان في أوكرانيا، وإغلاق وسائل الإعلام غير المرغوب فيها، واضطهاد المعارضين السياسيين، وحدَّثه عن قلقه من التمييز الذي يتعرَّض له الأوكران الناطقون باللغة الروسية، وحرمانهم من الاعتراف بهم كشعب أصلي يعيش في أرضه الأصلية.
كان الرئيس بوتين شفافاً وصريحاً مع ضيفه، وتحدَّث عن فرضية انضمام أوكرانيا إلى الناتو وقرارها إعادة شبه جزيرة القرم؛ فإذا حصل ذلك، فإنّ الدول الأوروبية ستنجر عبر الناتو إلى صراع عسكري مع روسيا، وهي إحدى القوى النووية الرائدة، وتساءل: “هل علينا أن نحارب الناتو؟ وهل تريد فرنسا أن تحارب روسيا؟!”.
من حيث النتيجة، استغلَّ الرئيس ماكرون القمة ليصوّر نفسه “صانع السلام الناجح”، فيما حاول الرئيس بوتين تأكيد مفهومه لبنية “الأمن الأوروبي” وتعزيزها، وسط استغلال واشنطن والناتو للبنى التحتية لدول الناتو الغربية، والتوسع نحو دول الشرق الأوروبي، والتسلل إلى حدود 1997.
انتهت قمة بوتين – ماكرون وسط شعورهما بالرضا، مع اختلاف نياتهما وأهدافهما. لم يقدّم الرئيس بوتين لضيفه شيئاً خاصاً، ولم يبِعه انتصاراً يمكّنه من النجاح في زيارته الفورية لكييف، بتأكيد ماكرون وقوله: “لم أعوِّل على أي إشارات”، على الرغم من إشارة الرئيس بوتين إلى وجود طروحات إيجابية، لكنّه يخفيها إلى أن تحين اللحظة المناسبة وتتغير مواقف واشنطن والناتو وتصريحات الرئيس الأوكراني، كتلك التي عبّر فيها عن عدم إعجابه ببنود اتفاقية مينسك، وصعوبة تقبل موسكو للتسويات، واكتفى بوتين بالتعليق عليها: “أعجبني. لم يعجبني. يجب التحلّي بالصبر”.
سيتعيَّن على الرئيس الفرنسي أداء الجزء الثاني من مهمّته في كييف، من خلال المحادثات والمفاوضات مع زيليسكي، وقد يتعيّن عليه – لإثبات قوته – اتخاذ القرار السعيد وإعلانه من كييف، أو إعلان وصول الجهود الفرنسية ومن تمثله أيضاً إلى الطريق المسدود، ما يترتب عليه “لفلفة” أوراقه والعودة إلى فرنسا بخفّي حنين، والتوقف عند حدود رغبته في صنع السلام الذي لم يتمكَّن من تحقيقه في الأزمة الأوكرانية، والتنازل عن اللقب للرئيس الأميركي جو بايدن لاحقاً.
لم يهدر الرئيس ماكرون الوقت، ووصل إلى كييف، وأكَّد بعد لقاء نظيره الأوكراني التزام أوكرانيا بوقف إطلاق النار في دونباس، وأشار إلى أنَّ خفض التوتر بات ممكناً، فيما عقد الرئيس الأوكراني آماله على عقد قمة رباعية تجمعه بقادة روسيا وفرنسا وألمانيا، وتؤدّي فيها فرنسا والرئيس ماكرون دوراً فعالاً، يكون أساسها الاتفاقيات التي تم التوصّل إليها خلال قمة باريس في العام 2019 في إطار النورماندي، الأمر الّذي دفع ماكرون إلى الإعلان عن لقاء مستشاري النورماندي السياسيين الخميس المقبل. وبناءً عليه، أصبح الطريق مفتوحاً أمام لقاء ماكرون والمستشار الألماني شولتس الذي التقى الرئيس جو بايدن قبل ساعات قليلة.
التعليقات مغلقة.