بوتين بين الدبلوماسية وحرب الضّرورة / المهندس ميشيل كلاغاصي

المهندس ميشيل كلاغاصي  ( سورية ) – الجمعة 18/2/2022 م …

ما زالت واشنطن تتمسَّك بسلاح الحملة الإعلامية المكثفة حول “الغزو الروسي الوشيك” لأوكرانيا، على الرغم من قيام موسكو بتنفيذ انسحابٍ جزئي من منطقة الحدود مع أوكرانيا، لإفساح المجال أمام الدبلوماسية لإيجاد الحلول، وسط توقعاتٍ روسية بعودة مطالبها الأمنية إلى الواجهة، لكنَّ واشنطن شككت في الانسحاب، وكذلك فعل الرئيس الأوكراني. ويبقى من الثابت إعلان موسكو عدم وجود مخططات روسية لـ”غزو” أوكرانيا، في وقتٍ تهتمّ لأمر جمع واشنطن قوات الناتو في شرق أوروبا.  




من خلال التهويل وإشاعة الخوف، وضعت واشنطن كييف وكل العواصم الأوروبية في الحد الأدنى أمام احتمالٍ وحيد، وهو “الغزو الروسي”، بتأكيد الرئيس بايدن، وبتحديد موعده الثلاثاء الماضي، لكن الرئيس الأوكراني فجر قنبلةً من حيث يدري أو لا يدري، وطالب من يملكون الأدلة بتقديمها للحكومة الأوكرانية، وسط تراجع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان عن تأكيد موعد الهجوم. وقد وصل به الحال أمس إلى أن يعتبر أنَّ الحديث عن “الغزو الروسي” مبكراً، إضافة إلى التفاؤل الحذر الذي أطلقه الأمين العام للناتو، جراء اللقاءات والقمم والزيارات التي تمت مؤخراً.  

يبدو أنَّ الجميع ينتظرون قرار الرئيس بوتين وما يمكن أن يُقدم عليه لضمان حق بلاده بالحصول على الضمانات الأمنية والتعهدات من كييف وواشنطن والناتو، في حين طالبت واشنطن روسيا، عبر سفيرتها لدى الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد، “بتقديم دليل على أنها لن تغزو أوكرانيا”، لكنَّها تلقت برقيةً ردٍ عاجلة من المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، جاء فيها: “عزيزتي ليندا، سأقول من امرأة لامرأة، حتى عندما يكون هناك احتمال، فإنَّ الرغبة في الغزو لا تظهر تلقائياً”. وفي ظل هذه التعقيدات، ما القرار الذي سيتخذه الرئيس بوتين؟  

وبالنظر إلى مجمل ما يحصل، هل استطاعت الحملة الإعلامية تكبيل يد موسكو أو أنَّ التدخل العسكري الروسي سيبقى أمراً وارداً؟ وماذا عن حصيلة القمم والزيارات واللقاءات ورسائل التدريبات والمناورات العسكرية المتبادلة؟ إذا كانت الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات، فإنَّ خيارات الكرملين والرئيس بوتين تبدو مقيّدة إلى حدٍ ما.  

إنَّ حشدَ عددٍ كبير من القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا لم يساعد موسكو، في نظر البعض، بل زاد من تعقيد الموقف. في المقابل، إن انسحابها الكامل من دون تحقيق نتائج ملموسة سيشكل ضربةً قوية لسمعتها وهيبتها، فما يدور في القمم والزيارات واللقاءات الحاصلة حالياً هو تفاوض صريح بكلِّ معنى الكلمة، بدليل امتعاض الرئيس بايدن من نتائج لقاء الرئيس بوتين والمستشار الألماني، وتهديده بأنَّ “مشروع نورد ستريم 2 سيتوقف”، في وقتٍ لم تحمل بعض اللقاءات القدرة على التأثير الفعلي في الأحداث والمجريات… وتبقى موسكو وواشنطن اللاعبين الرئيسيين بامتياز.  

هل سيختار الرئيس بوتين سيناريو الزحف نحو أوكرانيا أو سيمزج حشد القوات بالضغط والدبلوماسية، والتمسك بالمطالب الأمنية وبضبط العلاقة مع الناتو، والبحث عن صيغ حلولٍ تكون مرضية لجميع الأطراف، أو سيكون هناك اتجاه روسي مباشر نحو طرح الثوابت الروسية وثوابت حلفائها عبر مؤتمر “يالطا 2” على الرئيس بايدن، الأمر الَّذي قد ترحب به واشنطن، وتعتقده مناسباً لممارسة لعبتها المفضلة في بيع الملفات والمقايضة عليها؛ ربح هنا وخسارة هناك، وقد يتصدر الملف الأوكراني لائحة البازارات الأميركية، وتكون حكومة أوكرانيا الحالية أكبر الخاسرين، من دون أن ننسى زيارة وزير الدفاع الروسي شويغو أمس إلى سوريا، والتي تحمل طابعاً سياسياً أكثر مما هو عسكري تفقّدي لوحدات روسيا العاملة في سوريا، ويمكن لموسكو أن ترمي لواشنطن طوق النجاة من خلال سلة التفاوض الكبير بينهما، للخروج بماء الوجه والانسحاب من سوريا التي ستكون من أكبر الرابحين!  

كذلك، قد يكون لحلف الناتو رأي آخر، وقد يصبّ تركيزه على إبقاء الحال على ما هو عليه الآن، وإبقاء القوات الروسية داخل حدودها لأطول فترة ممكنة. وبناء عليه، قد يدعم المماطلة وتهريب الحلول والتحضير للمزيد من العقوبات على موسكو وربطها بحدوث الغزو الجزئي أو الكبير، على الرغم من تأثّر الجانب الأوروبي بها أيضاً، وخصوصاً الدول صاحبة الاقتصادات المرتبطة بروسيا. وهنا، يطرح هذا السؤال نفسه: هل سيوافق الغرب على فرض العقوبات في ما لو أتى “الغزو” محدوداً ومتفقاً عليه بشكل سري؟  

لقد ألقى الرئيس بوتين خصومه في دوامة الحسابات، فماذا سيكون موقف من تعهّدوا بدعم أوكرانيا في حال تم “الهجوم الجزئي”، مثل بريطانيا والولايات المتحدة أو جمهورية التشيك؟ هل سيرسلون لها المزيد من السلاح من بوابة الدفاع عنها أم من بوابة توسيع الناتو؟  

من الجدير ذكره أنَّ الرئيس بوتين لا يفكّر في حلٍّ مؤقت، بل يحاول تغيير النظام الأمني في المنطقة بأسرها وتثبيته، وهو لا يفكّر في حشد القوات مؤقتاً وسحبها نحو ثكناتها وقواعدها لاحقاً. وفي حال تبيَّن له استحالة فعل ذلك، فسيزداد احتمال شن “الهجوم” الروسي الجزئي، على الرغم من وضوح موسكو في عدم التخطيط لأيِّ غزو، وسيصبح الهجوم في هذه الحالة “هجوم الضّرورة”.  

خيارات بوتين  

الخيار الأول هو الضغط على الغرب للدخول في مفاوضات مباشرة وتقديم تنازلات أساسية طالبت بها موسكو سابقاً قبل التصعيد، في ما يتعلّق بوجود حلف الناتو في أوروبا الشرقية، وعلى وجه الخصوص في أوكرانيا، فضلاً عن عضوية أوكرانيا في الحلف والهياكل الغربية الأخرى، وهو ما يقلق روسيا وتتحدّث عنه صراحةً.  

الخيار الثاني هو فرض جزء من المطالب الروسية على الأقل بالقوّة إذا فشل الخيار الأول، ما يعني تنفيذ هجوم جزئي محدود على أوكرانيا، رغم ترحيب الرئيس بوتين بإجراء تغيير في النظام الأوكراني، وبإنتاج نظامٍ يرفض من تلقائه الانضمام إلى الناتو، ويوافق على توسيع الحكم الذاتي للمناطق الشرقية، ويضمن بذلك مستقبل أوكرانيا وبقاءها في دائرة النفوذ الروسي وعدم انضمامها إلى الغرب.  

الخيار الثالث هو أن تقرّر موسكو قبول التهدئة وإفساح المجال للدبلوماسية، الأمر الَّذي سيفرض عليها القبول بحلول وسطية تضمن لها ما يمكن أن تسمّيه نصراً سياسياً مهماً، والأهمّ أن تُناقِشَ تلك الحلول بجدية هواجس موسكو حيال نزع السلاح النووي، ونشر الأسلحة القصيرة والمتوسطة المدى، بما يعزّز الأمن في أوروبا.  

الخيار الرابع أن تعرض موسكو على واشنطن عقد قمة “يالطا 2 “، ولا يمكن التكهّن سلفاً بما قد تسفر عنه.  

بالطبع، لن يكون من السّهل التوصّل إلى تسوية سياسية في الوقت الحالي، إلى أن يتمّ التوصل إلى اتفاق عسكري بشأن الأسلحة أو نشر القوات والتدريبات، بما يتيح للرئيس بوتين إعلان انتصاره السياسي – الأمني الذي سعى إليه، وهو تشكيل “هيكل أمني أوروبي جديد”، وهو ما تحدث عنه أيضاً وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا مؤخراً.  

في الخلاصة، لقد تمّ كسر اتفاقيات الأمن الأوروبي السابقة في عهد إدارة الرئيس ترامب، فتسبّب ذلك بقلقٍ روسي حيال تداعيات التوسّع المستمر للناتو واقترابه وأسلحته من الحدود الروسية. من خلال هذه الأجواء، من الصعوبة بمكان توقّع ما ستؤول إليه الأمور، لكن يبدو أنَّ موسكو تدرس عدة خيارات في وقت واحد.  

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.