الفلاحة من مُقوّمات الإستقلال الإقتصادي / الطاهر المعزّ
الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 20/2/2022 م …
* مقال مُتَمّم لمقال سابق بعنوان “رأس المال الإحتكاري خطر على الأمن الغذائي” …
تُرَكِّزُ العديد من المُنظّمات السياسية والنقابات والجمعيات الحقوقية بالمغرب وتونس ومصر وغيرها، على تراجع مستوى الحُرّيّات الفردية والجماعية، بعد عشر سنوات من الإنتفاضات التي شكّلت تلك الحُرِّيّات أهم مكتسباتها، ويُؤَشِّر هذا التراجع على سَطْحِيّة التّغْيِير الذي حصل سنة 2011، والمُتمثّل في تبادل المناصب بين الأفراد وبعض الفئات، وتَعَزّزت فئة البرجوازية الكمبرادورية (وكيلة مصالح رأس المال الأجنبي ) ببعض الشرائح الجديدة، لكن بقي النّظام على حاله، بين أيدِي نفس الطّبقة الطُّفَيْلِية ( على هامش الإنتاج) التي أغرقت هذه البُلدان بالدُّيُون الخارجية، وسَمِحَ بعضُها باستحواذ الشركات الأجنبية على الأراضي الفلاحية، ما يخلق مخاطر جديدة، ولم تنل مواضيع السيادة الغذائية أو التنمية بواسطة الإنفاق الحكومي في مجال الزراعة، حظّها من النّقاش، رغم أهمّيتها لحاضر البلاد ولمستقبلها ومستقبل الأجيال اللاحقة…
أُحاول من خلال بعض النُّصُوص القصيرة، التنبيه إلى هذه المخاطر وطرح بعض المُقترحات للمساهمة في نقاش مسائل مكانة الفلاحة في بناء اقتصاد وطني، وفي تحقيق الأمن الغذائي في مرحلة أولى، ثم السيادة الغذائية، في إطار بناء مجتمع أكثر عدالة واحترامًا للمواطن…
الغذاء الصّحي، حق من حقوق الإنسان:
في سياق ندرة الأراضي الزراعية وارتفاع أسعار المواد الخام ، تحرص الدول الغنية على تأمين إمداداتها الغذائية من خلال شراء الأراضي الخصبة في إفريقيا لإنتاج الذرة وزيت النخيل والوقود الحيوي أو غيرها من المنتجات التي لن يتم استهلاكها في القارة الأفريقية، وتؤدي هذه الزراعات المكثفة إلى تدهور أدِيم الأرض وتلوث المياه والهواء والبيئة بأكملها، واعتبر المدير العام السابق لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إن هذا التدافع من قبل الدول الغنية على الأراضي الأفريقية هو شكل من أشكال الاستعمار الزراعي الجديد، فالدول الفقيرة توفر الغذاء للدول الغنية، على حساب صغار مزارعيها وشعوبها الجائعة. أما في الدّول الرأسمالية المتطورة، منشأ الشركات العابرة للقارات، التي تستحوذ على الأراضي الزراعية بإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، فقد ساد الغذاء غير السّليم، من خلال تعدّد محلات اللّمجات الرّديئة، فانتشرت معها العديد من المساوئ، ومنها السّمنة وأمراض القلب والشّرايين…
يجب أن يتكون النظام الغذائي “الأمْثَل” من الناحية الصحية من البقوليات والحبوب الكاملة والمكسرات (الجوز والبندق واللوز …) كل يوم ، لأنها غنية بالألياف والأحماض الدهنية الجيدة والتي تقي من السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية، بالتوازي مع الإقلاع عن استهلاك التبغ والكحول والمشروبات الغازية مع تقليل استهلاك المنتجات الدهنية والسكر والملح …
يمكن تفصيل النظام الغذائي النموذجي الذي يرفَعُ متوسط العمر المتوقع كالتالي:
استهلاك 200 غرام من البقوليات (عدس ، بازلاء ، فاصوليا مجففة) أو 225 غرام كل يوم من الحبوب الكاملة (الخبز الكامل ، أرز الحبوب الكاملة ، المعكرونة الكاملة ، الشوفان ، إلخ) الغنية بالألياف والبروتين والتي تحمي من السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية بالإضافة إلى تناول 50 غرام يوميا (كحد أقصى) من الحبوب المكررة (الخبز الأبيض، الأرز الأبيض، إلخ) ، التي تحتوي على نسبة أقل من الألياف والبروتين، والتي ترفع نسبة السكر في الدم بقوة أكبر.
يتطلب هذا النظام الغذائي التخلص من اللحوم الجافة والمجمّدة الغنية بالدهون “السيئة” والأملاح التي يزيد استهلاكها من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، وكذلك التخلص من اللحوم الحمراء الغنية بالدهون “السيئة” والتي يزيد استهلاكها من الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وربما السرطان، وبالمقابل يمكن المحافظة على حجم استهلاك الدواجن والأسماك والبيض.
يمكن أن يوفر اتباع هذا النظام الغذائي زيادة في متوسط العُمر المتوقع تتراوح بين سبعة أشهر و 42 شهرًا، كما يجب أن نتجنب المنتجات الغذائية الصناعية فائقة المعالجة، لأنها تحتوي على العديد من الإضافات التي لا يزال تأثيرها على صحة الإنسان غير معروف.
تدعم نتائج هذا البحث التوصيات الرسمية لأخصائيي التغذية في أوروبا وأمريكا الشمالية، الذين يشجعون على زيادة استهلاك المكسرات والبقوليات والحبوب الكاملة والخضروات وتقليل تناول اللحوم الحمراء واللحوم الباردة، وسبق أن نشرت المجلة الطبية البريطانية ( “The Lancet” )، سنة 2019، دراسة حولالعلاقة بين النظم الغذائية الصحية والمحافظة على الطبيعة، وصاغ الباحثون قائمة من الأغذية تدعم المحافظة على الطبيعة والمحيط مع إطعام سبعة مليارات شخص بشكل سليم وصِحِّي، وينصح الباحثون سكّان الدول الغنية بخفض استهلاكهم للحوم الحمراء إلى النصف (أقل من شريحة لحم واحدة في الأسبوع) والسكر، ومضاعفة استهلاك الفاكهة والخضروات والبقوليات والمكسرات.
الزراعة المُستدامة في خدمة الفُقراء:
من مساوئ مثل هذه البحوث، عدم اهتمامها بالعديد من العوامل، منها مستوى الدخل والظروف المعيشية أو سعر هذه المنتجات في الأسواق، ونادرًا ما يتم التطرق إلى مثل هذه العراقيل، وعلى سبيل الذّكر، نشر موقع مجلة ( Nature ) بَحْثًا اهتم بدراسة المؤشرات المتعلقة بالتغذية والبيئة وتأثيراتها الاقتصادية، سنة 2020، وأفاد البحث إن الحد من اللحوم، وزيادة تناول البقوليات وتفضيل النظام الغذائي النباتي الذي يعتمد على الزراعة العضوية والتقليدية هو نظام غذائي مفيد للصحة والبيئة ، لكنه أغلى ثمناً ويتطلب طهيه وتحضيره وقتاً أطول في المطبخ، وهو مرتفع التكلفة للأفراد والأُسر، حيث يتطلب إنفاقًا إضافيا بحوالي 1,2 دولارا يوميا لغذاء الفرد الواحد، أي ما يُعادل متوسط إجمالي الدّخل اليومي للفقراء، لكنه مفيد للمجتمع، حيث يمكّن من خفض عدد الوفيات ومن استهلاك الطاقة بالمزارع ومصانع تحويل فائض الإنتاج الغذائي، ويُخفّض من مخاطر التعرض لمبيدات الحشرات والأعشاب الطّفَيْلِيّة، لذلك وجب على أجهزة الدّولة تشجيع ودعم الزراعة العضوية، وتشجيع العمل التّشاركي وتعاونيات الإنتاج والتسويق والإستهلاك لاستدامة النظام الغذائي، وللمحافظة على صحة المواطنين، دون اللجوء لمنظومة الرعاية الصّحّية، ووجب دعم أسعار السلع الغذائية، لأن الغذاء الصحي قد يساهم في الوقاية من الأمراض المزمنة وأمراض الشرايين والقلب…
يتطلب اعتماد هذا النظام الغذائي أنظمة زراعية مستدامة، ويفترض وضعًا اقتصاديا واجتماعيا مُريحًا للأفراد والأُسَر، ويفترض الوصول إلى المعلومات التي تتعارض مع الرسائل الإعلانية (الإشهار) التلفزيونية، ولذلك فإن هذه المُخطّطات والتوصيات تستثنى الفقراء والمُعَطَّلين عن العمل والمشردين، لأن الغذاء الصحي أغلى ثمناً، كما يتم استثناء العاملين الذين يضطرون إلى تناول الغداء في الخارج، لأنهم لا يعودون إلى ديارهم حتى نهاية اليوم …
يُمكن لمعظم البلدان العربية إنتاج غذاء صحِّي، انطلاقًا من الإنتاج التقليدي للنباتات (كالحبوب والخُضروات) والفواكه، والأشجار (التمر والزيتون…) ومن تربية الحيوانات لإنتاج اللحوم والألبان ومشتقاتها، وأشارت بعض الدّراسات الصادرة عن كلية الطب بجامعة “برْغن” (النرويج) وعن مجلة “ذا لانسيت” ( The Lancet ) الطبية البريطانية، والوكالة الوطنية للأمن الصّحّي والغذائي ( Anses ) بفرنسا، أن تناول الغذاء الطبيعي والصّحّي بشكل يومي، مع الحركة، كالمَشي والتمارين الرياضية لمدّة نصف ساعة يوميا على الأقل، قد يُطيل عُمُرَ سكّان البحر الأبيض المتوسط لمُدّة قد تصل إلى 13 سنة إضافية، وهذا من شأنه المُساهمة في صحة ورفاهة المواطنين، وتجنّب بعض الأمراض المُزمنة.
تُزرع المنتجات الأساسية الضرورية لغذاء صحّي في معظم الدول العربية، بما في ذلك البقوليات (البازلاء ، العدس ، الفاصوليا ، إلخ) ، والمكسرات غير المملحة (الجوز ، البندق ، اللوز ، إلخ) ، والحبوب الكاملة، ويتطلّب تشجيع زراعتها ودعم الفلاحين والمستهلكين إنفاق مبالغ تقل عن قيمة استيراد الحبوب والزيوت والسكر ومنتجات الألبان من الدول الأجنبية، بالعملات الأجنبية، فضلا عن الفوائد الأخرى، من تشغيل المُعَطّلين عن العمل، وتصنيع الإنتاج الذي يزيد عن الإستهلاك المَحَلِّي، وبالخصوص تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، كخطوة نحو تحقيق السيادة الغذائية
تحافظ الزراعة التقليدية للمساحات الصغيرة على خصوبة التربة وعلى البُذُور التي تكَيَّفَت على مَرّ العصور مع التُّربة والمناخ الغابات، لتتمكّن من مقاومة الآفات مقاومة طبيعية، لكن شُرُوط صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي تفرض على الدُّوَل المُقْتَرِضَة اعتبار الأراضي الفلاحية سلعة، يمكن للشركات الرأسمالية الأجنبية تداولها (شراؤها وبيعها) كأي سلعة أخرى، بدون قُيُود، فاحتكرت هذه الشركات خلال أقل من عِقْدَيْن (2001 – 2018) إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية كالحبوب والخضروات والفواكه ومنتجات الألبان واللحوم والزيوت، فضلا عن استخدام ملايين الهكتارات بالدّول الفقيرة لإنتاج أعلاف الحيوانات والوقود الحيوي، والأرز وقصب السكر وزيت النخيل، إلى جانب الحمضيات والمطاط والبن والكاكاو والموز وفول الصّويا بتكلفة رخيصة، لتصدير مجمل هذه المنتجات إلى أسواق الدّول الغنية، لتُباع بأسعار مرتفعة. أما الدّول الفقيرة فأصبحت تستورد الغذاء، من حبوب وزيوت نباتية وسكّر ولحوم ومشتقّات الألْبان، ما يُشكّل تهديدًا للأمن الغذائي، بالإضافة إلى مخاطر استخدام الشركات العابرة للقارات والمزارع الكبرى مختلف أنواع المبيدات الزراعية، ما يُشكل خطراً على السكان وعلى الطبيعة، من إندونيسيا إلى البرازيل ومن مدغشقر إلى هندوراس، مرورًا بمجمل البلدان الفقيرة ومتوسطة الدّخل بآسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، حيث يتم طرد الفلاّحين من المساحات المخصّـصة لزراعة المحاصيل الغذائية، ما يؤدّي إلى اندثار البذور التقليدية وإعاقة تأمين الغِـذاء للسكان، كما عَمّمت هذه الشركات العابرة للقارات (بتوطؤ محلي رسمي) الفساد والتّهرّب من تسديد الضرائب، وتهريب الثروات إلى الخارج…
تُشكّل عملية استحواذ الشركات العابرة للقارات على الأراضي الزراعية في الدّول الفقيرة، شكلاً من أشكال الإستعمار الذي يُقَوِّضُ أُسُسَ الأمن الغذائي للدّول الفقيرة التي أصبحت من الدول المستوردة للحبوب والزيوت والسكر، بالتّوازي مع الحَدّ من قُدْرَتها على إنتاج الغذاء ويؤدِّي إلى عجز الميزان التّجاري، حيث لا تتجاوز قيمة الصادرات الغذائية للعديد من الدّول (منها تونس ومصر) 25% من قيمة الواردات الغذائية، فضلاً عن صُعُوبة التّصدير إلى أسواق الدّول الغنية بسبب المَعايير التّعجِيزِية التي تفرضها بذرائع صِحِّيّة أو أمْنِيّة، بحسب “المعهد الدّولي لبحوث برامج الغذاء” ( IFPRI ) الذي نَبَّهَ منذ 2009 إلى ظاهرة الإستعمار الزراعي الجديد…
في البلدان الفقيرة، ومنها البلدان العربية غير النفطية، وجب حَظْر بَيْع الأراضي الفلاحية، الصالحة للزراعة ولتغذية الحيوانات، وإيجار الأراضي غير المُستَغَلّة بأسعار رمزية للفلاحين بدون أرض وللمعطّلين من أبناء الريف، لأن الإستثمار في قطاع الفلاحة، بهدف تحقيق الأمن الغذائي، ثم السّيادة الغذائية، أمْرٌ حَيَوِي، اقتصاديًّا وصحّيًّا، فالفلاحة ركيزة الإستقلال الإقتصادي والسياسي في البلدان الفقيرة، فضلا عن توفير الغذاء الصّحِّي للمواطنين، وبدل إنفاق احتياطي العملة لتوريد المواد الغذائية، يتم استخدام هذه المبالغ لتوريد آلات وتجهيزات لا يتم تصنيعها مَحَلِّيًّا…
التعليقات مغلقة.