أن نقرأ ستالين وماو اليوم: مقدّمة / عامر محسن

 

عامر محسن ( الإثنين ) 27/6/2016 م …

بصراحة، والمسألة قد تكون جيليّة أساساً، لم يثر الجدال حول ستالين وشخصيته اهتمامي واهتمام أكثر أترابي. لمن نشأ في عقد التسعينيات، كانت نماذج مثل ستالين وماو تبدو ــ حتى لو لم نعتمد النظرة الغربية اليهما ــ «خارج السياق»؛ شخصيات جاءت من زمنٍ عنيفٍ وخيارات مرعبة، لا يبدو أن لها علاقة بواقعنا اليوم أو أنّه يمكننا أن نتعلّم منها شيئاً (والحروب الأهلية والهندسة الاجتماعية والاستعداد للإبادة النووية هي، لأيّ عاقلٍ، أمورٌ لا يريدها في عالمه).

ما يعقّد المسألة أكثر هو أنّ الكثيرين من «محبّي ستالين» في بلادنا لا يخرجون عن الرواية الغربية التي تشيطن ستالين، وتحوّله الى سفّاحٍ بلا عقلٍ أو عقلانية، بل هم يعتنقون هذه الصورة النمطية تحديداً، بلا نقدية أو معرفة حقيقية بالرجل وبسياقه، ثمّ يرفعون ويجلّون ويمدحون هذا الـ»ستالين» الذي قدّمه لهم أعداؤه ــ وذلك لأنّهم، في العمق، أشخاص كريهون وشرسون وبلا أخلاق، يعشقون العنف والقتل لذاته، ويعتقدون أن في ذلك راديكالية و»ذكورة» (تماماً كالأناس الكثر في بلادنا الذين يسرّون اليك ــ بحبور ولدى كلّ فرصة ــ بأنّهم لو كانت لهم السلطة، لأبادوا وقتلوا ورشوا الكيماوي في وجوه الناس، وهم يعتقدون أنهم وقعوا على حلٍّ فريدٍ وأنّهم هكذا «راديكاليون» ويفكرون خارج الصندوق).

المعضلة الثانية هي في صعوبة تعقّب «ستالين الحقيقي»، أو فهم العقلانية التي تحرّك ماو، فيما الأكاديميا الغربية (والمصادر السوفياتية)، وهي مراجعنا الوحيدة عن الموضوع، مؤدلجة الى حدٍّ لا يطاق. والكثير منها يكتب سيرة الرجلين ويحلّلها من منطلق «الشرّ» أو «الجنون» ومعايير أخلاقية أخرى، كتفسيرٍ وحيدٍ لخيارات الرجلين اللذين بنيا في القرن الماضي أنجح نموذجٍ تحدّى الغرب، وقد ينهي هيمنته في حالة الصين. حتّى ستيفن كوتكين، المؤرّخ الأميركي البارع، لم يخرج في سيرته الجديدة عن ستالين (صدر منها الجزء الأوّل) عن تفسيراتٍ ترتكز على العقد النفسية وهوس السيطرة والتحكّم وأمراض الطفولة.

في هذا الإطار، لا بدّ أن نشرح أنّ تأثير «الخطاب العام» حول ماو وستالين، والذي أنتجه الغرب خلال الحرب الباردة عن ألدّ أعدائه، قد يفوق بكثير أهمية النقاش الأكاديمي أو التحقيق التاريخي أو الوقائع المجرّدة. منذ سنوات، كتب طالبٌ في الفلسفة السياسية في جامعة كاليفورنيا رسالة بحثية مثيرة، تناقش تحديداً هذا الإطار «الأخلاقي» الذي تبنيه المؤسسة الأميركية، عبر الإعلام والثقافة، حول مواجهاتها مع أعدائها. درست الرسالة التغطية الإعلامية لهجوم 11 أيلول وما بعده، وحلّلت كيف يقدّم التلفزيون أميركا وأعداءها عبر «نسق» مألوف يشبه، بالمعنى السردي وقوس الأحداث، أفلام هوليوود: صور «الأعداء» ــ كأسامة بن لادن ومنفذي الهجوم ــ محاطةٌ بظلالٍ قاتمة، فيما الشخصيات الأميركية محاطة بإطارٍ فاتح وألوانٍ زاهية؛ والدراما المتصاعدة في ساعات الهجوم مستوحاةٌ من طريقة سرد الأفلام لأحداثها (حيث يحصل «الشرير» على نصرٍ مؤقّت، تتبعه وثبةٌ لـ»الأخيار» وهجومٌ مضاد، كاجتياح أفغانستان وضرب «القاعدة»، ثمّ تعود أميركا معافاة وأقوى من السابق في «النهاية السعيدة»). لا يمكن تقدير التأثير التراكمي وغير الواعي لهذه الثقافة السياسية، وكيف تجعل النقاش الموضوعي مستحيلاً. فأشخاصٌ كماو وستالين يصبحون «رموزاً»، بالمعنى السلبي، تختزن مخاوف الغرب ورهابه، وتدخل في عملية تعريف الغرب لنفسه عبر «خلق» ــ ثم مسخ ــ أعدائه.

فهْمُ ستالين وماو يبدأ من فهم سياقهما التاريخي والخيارات التي كانت تواجههما، وهي ليست مختلفة جذرياً عن سياقنا العربي اليوم، ومن هنا أهميتها. لأوّل وهلة، قد يبدو من الوحشيّ وغير العقلاني أن يقارب ماو احتمال الحرب النووية مع أميركا على أنّها أمرٌ مقبول، وأنّه قد احتسب كلفتها وتبيّن أنّ «الأمور ستكون على ما يرام» من بعدها، فلا ضير منها! كتب غاري بريكر مقالاً عن هذا الموضوع منذ سنوات: عام 1952، حين كانت الحرب الكورية مشتعلة، والقوات الأميركية تتقدّم نحو الحدود الصينية، لوّح ماك آرثر بضرب الصين بالقنابل النووية، وكان جواب ماو هو الترحيب بالأمر. فلنتذكّر هنا أنّ الصين، عام 1952، لم تكن تملك أسلحة ذريّة بعد، وأميركا كانت قد اختبرت للتو قنبلةً توازي مساحتها التدميرية، تماماً، مساحة بيجينغ. علينا أن نتذكّر أيضاً أن أميركا كانت قد استخدمت القنابل النووية منذ سنواتٍ قليلة ضد اليابان، ولا شيء يضمن أنها ستستنكف عن إعادة الكرّة. أكثر من ذلك، يقول بريكر، فإنّ ماو هنا لم يكن «يقامر»، معتمداً على أن واشنطن ستجبن ولن تنفّذ تهديدها ــ وهو ما حصل ــ بل كان صريحاً ومتقبّلاً ومتهيّئاً لاحتمال أن يموت مئة مليون صيني (طبعاً، مقابل النصر على أميركا). هو، ببساطة، كان يتبع قاعدته الشهيرة: «أوّلاً، لا تخف من المعاناة؛ ثانياً، لا تخف من الموت». كان ماو يرى أنه من دون الالتزام الكامل بهذه المقولة ــ ولو كانت ترجمتها العملية سنواتٌ طويلة من الحرب والتضحية والكوارث ــ فإن الصين والشيوعية لا تملكان أملاً في وجه الغرب. ماو خسر ابنه في الحرب الكورية وذلك لم يهزّه على الإطلاق، يقول بريكر، ولو أن أميركا ضربت بيجينغ بالقنبلة النووية، لاستقبل الحدث بالطريقة ذاتها.

من وجهة نظر مواطنٍ غربيّ، قد تمثّل هذه العقلية جنوناً مطبقاً، ولكن لو فهمنا «من أين جاء» ماو وستالين، وما هي احتمالات الهزيمة يومها، لتغيّرت الصورة. خلف الصين الشيوعية، مثلاً، كان يقف قرنان من الإذلال والفوضى لا يمكن لأوروبي أن يتخيلهما. على مدى أكثر من مئة عام، كانت القوى الغربية، وبعدها اليابان وروسيا، تنتهك الصين كما تشاء، وغالبية الناس تعيش حياةً قصيرةً وعنيفة في ما يشبه العبودية. دعك من الحروب والاحتلالات والأحداث الكبرى، يكتب بريكر (ثورة تايبينغ في القرن التاسع عشر، وحدها، أودت بحياة عشرات الملايين)، في تلك المرحلة كان «العنف اليومي»، الشائع والاعتيادي، «كالمجاعة ووأد الأطفال والحروب المحلية»، ذا بشاعةٍ تفوق أيّ مفهومٍ غربي عن «الحياة الصعبة» (بحسب بريكر، قال ماو للأميركيين ما معناه: نحن خسرنا العديد من أفراد عائلاتنا في وجه الكيومنتانغ والأميركيين الامبرياليين. أنتم تربيتم على أكل العسل، ولا تعرفون، حتى الآن، معنى المعاناة الحقيقية. لو أصبحتم ــ في المستقبل ــ وسطيين بدلاً من أن تكونوا يمينيين، فسأكون راضياً، انتم لم تعانوا أبداً، كيف يمكن أن تصبحوا يساريين؟).

نحن هنا لا نتكلّم على أناسٍ اعتنقوا إيديولوجيا «مثالية» وأرادوا فرضها على المجتمع بأيّ كلفة، كما يتمّ تصويرهم، بل أيضاً على جيلٍ تشكّل وعيه عبر تجربةٍ طويلةٍ من الهزيمة والدونيّة والإذلال الجماعي، وهم كانوا مستعدّين لفعل أيّ شيء، ودفع أي كلفة، حتى لا تعود تلك الأيام. من هنا نفهم قيمة أن نقرأ ستالين وماو وتجارب الناس الذين مرّوا بظروفٍ تشبه سياقنا العربي الممزّق، وأن نتعلّم كيف فهموا واقعهم وتعاملوا معه وغيّروه. حين تكون تجربتنا تجربة حروبٍ وتهجيرٍ وضعفٍ وإذلال، فما هي الأدبيات التي تحاكي تحدياتنا ويمكن أن نستوحي منها أفكاراً وحلولاً؟ روسو ومونتسكيو؟ أم البنك الدولي؟ في أيّامٍ كالتي نمرّ بها، قد يكون من المفيد أن نجلس وأن نعود، بعينٍ جديدة، لنقرأ ماو وستالين.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.