مرايا فكرية (6) / د. عدنان عويّد
د. عدنان عويّد* ( سورية ) – السبت 26/2/2022 م …
* مفكر وباحث …
** مراد غريبي يحاور الباحث الأكاديمي النهضوي د. عدنان عويّد.
خاص موقع صحيفة المثقف: يستضيف موقع صحيفة المثقف, الباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور عدنان عويّد، ضمن مرايا فكريّة، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول قضايا الفكر والهوية واللغة والنهضة في العالم العربي، فأهلا وسهلا بهما:
المحور الأول: قضايا الفكر والهويّة والتراث:
س7: ا. مراد غريبي: السياق الجدليّ حول الحريّة في الفكر العربيّ لأكثر من خمسة عقود تراوح بين ثنائيات الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة ، التراث والحداثة، كيف يمكن العبور من الجدل إلى التأسيس الثقافيّ لفعل الحريّة؟
ج7: د. عدنان عويد: لقد تكلمنا عن الحريّة وواقعها في الخطاب السياسيّ عند إجاباتنا السابقة، أكثر من تكلمنا عنها في الجانب الفكريّ، وقد كان للقوى الحاكمة في وطننا العربيّ الدور الكبير في الْحَجِرِ على حريّة الفرد والمجتمع، والنيل من الفكر العقلانيّ ومحاسبة حوامله الاجتماعيين من غيلان الدمشقي وجعد بن درهم, مروراً بابن رشد حتى حامد أبي زيد. لذلك دعنا نجيب على هذا السؤال الذي ركز على الحريّة في الجانب الفكريّ، والتي تجلى الصراع حولها من خلال الصراع بين الأصالة والمعاصرة.. بين التراث والتجديد.. بين العقل والنقل.. وغير ذلك من مفاهيم تدور حول علاقة الفكر المعاصر مع التراث بكل ما يحمله هذا الفكر بشقيه المادي واليقمي من دلالات.
نقول: مع بدء حركة التحرر العربيّة من الاستعمار الغربيّ في عالمنا العربيّ، بدأت تظهر لنا حركة فكريّة جديدة ذات توجهات يساريّة وليبراليّة في العديد من الأنظمة العربيّة وخاصة في الأنظمة التي انتهجت الخط القوميّ الاشتراكيّ طريقاً لها، أو الأنظمة التي تأثرت بعلمانيّة أتاتورك والفكر الليبراليّ عموماً. ففي هذه المرحلة الممتدة من ستينيات القرن الماضي حتى نهاية العقد التاسع من القرن ذاته، أي حتى قيام الثورة الخمينيّة في ايران وبدء تأثيرها على الساحة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة، كان هناك حراك ثقافيّ تنويريّ مشبع بالفكر اليساريّ والليبراليّ، الذي ترك أثره المباشر حتى على فكر المفكرين الإسلاميين الذين راحوا يعيدون قراءة النص التراثيّ قراءة معاصرة تسعى إلى فتح النص الدينّي على العقل، كما عمل حسن حنفي في كتابه التراث والتجديد، وعلي عون قاسم، وحسن صعب في كتابه الإسلام وقضايا العصر, ومصطفى السباعي في كتابه الاشتراكية والإسلام, وغيرهم من المفكرين الذين وجدوا في انتشار الفكر اليساريّ ومنهجه الماديّ التاريخيّ، تحديّاً حقيقيّاً للخطاب الإسلاميّ في صيغته الوثوقيّة السلفيّة المتمسكة بالنقل والرافضة لاستخدام العقل وفتح النص المقدس على مخزونه الدلاليّ الإنسانيّ.
نعم لقد كان لانتشار المشاريع الفكريّة التي تناولت التراث وضرورة التجديد، كمشروع الطيب تيزيني من التراث إلى الثورة، أو مشروع الجابري في بنية العقل العربيّ، أو مشروع حسين مروة في النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، أو مشروع حسن حنفي التراث والتجديد، أومشروع العروي في الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة, ولا حقاً مشروع حامد أبي زيد، وغيرها من مشاريع فكريّة، أو كتب منفردة لكتاب يسارين مثل الكاتب أحمد عباس صالح في كتابه اليمين واليسار في الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، فكل هذه المعطيات الفكريّة اشتغلت على مفهوميّ الأصالة والمعاصرة، ودور القوى الاجتماعيّة في صناعة التاريخ، دون أن نغفل تلك الندوات الفكريّة التي أعدتها مؤسسة دراسات عربيّة، كندوة التراث والتجديد، أو ندوة الكويت المشهورة حول (أزمة الحضارة العربيّة). دون أن ننسى ايضاً الندوات الكيرة التي قامت حول القضايا المعاصرة كالديمقراطيّة والعلمانيّة والفكر القوميّ وربط العروبة بالإسلام، وما قدمته كذلك مجلة الوحدة من محاور كثيرة حول قضايا النهضة والتحرر والتنمية. إن كل هذا النشاط الفكريّ في تلك الفترة كان للحريّة دورها فيه، إن كان من حيث رضا الأنظمة الحاكمة في الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة على تناول هذه الدراسات والحوارات من جهة، كما هو الحال في سورية على سبيل المثال لا الحصر كالحوارات التي كانت تدور في ثمانينيات القرن الماضي بعد أحداث الإخوان في سوريّة بين محمد رمضان البوطي والطيب تيزيني على شاشات الإعلام السوري، أو على مدرجات جامعة دمشق، أو أن الحريّة راحت تدخل جوهر عالم المقدس في التراث من جهة ثانيّة، ومحاولة نقده وتبيان ما يخدم واقعنا المعاصر منه، وما يضره, وضرورة التخلي عنه، ومع ذلك كانت هناك وجهات نظر عقلانيّة من قبل ناقدي التراث لم ترفض التراث كله، بل دعت إلى استلهام التراث وضرورة توظيف ما هو إيجابي فيه لمصلحة المعاصرة ودعاتها من سياسيين ومفكرين يعملون لمصلحة الشعب وقضاياه المصيريّة.
إن كل هذا الحراك الفكريّ العقلانيّ الذي جئنا عليه راحت تخفت أضواءه، في الوقت الذي أخذ فيه الفكر الأصوليّ السلفيّ يتخذ له مواقع قويّة على الساحة الفكريّة العربيّة مع قيام الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أولا، ثم ابتعاد القوى الحاكمة في الأنظمة القوميّة الاشتراكيّة عن استراتيجياتها الثوريّة التي بشرت بها قبل وعند استلامها السلطة، وبدء التزلف للقوى الأصوليّة التي وقفت ضدها قبل قيام هذه الثورة، ثانياً، هذا التزلف الذي كانت له أسبابه الموضوعيّة والذاتية أيضاً وهي:
1- فشل الأنظمة التي ادعت العلمانيّة والتقدم في تحقيق مشاريعها التنويريّة على كافة المستويات، ومنها الاقتصاديّة والسياسيّة، وغُلْبَتْ شهوة السلطة عليها التي حولتها إلى أنظمة شموليّة استبداديّة لم يعد الشعب يثق بها.
2- الثورة الإسلاميّة في ايران وإحياء المشروع الأصوليّ السلفيّ وخاصة الإخوانيّ منه الذي لقى الدعم من قادة الثوة الايرانيّة ذاتها.
3- دور الحركة الوهابيّة والقوى السياسيّة الداعمة لها في السعوديّة بشكل خاص، لنشر الفكر الأصوليّ بصيغته السنيّة لمواجهة مشروع الثورة الإسلاميّة الخمينيّة الشيعيّة، وبالتالي ظهور ما يمكن تسميته بحمى الفكر الأصوليّ بشقيه السني والشيعي على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة.
4- انتشار الفقر والحرمان والاضطهاد السياسيّ على مستوى الساحة العربيّة، بسبب طبيعة الأنظمة الشموليّة التي فرخت قوى طبقيّة من البرجوازيّة الطفيليّة والبيروقراطيّة راحت تنهب ثروات الدولة والمجتمع، ثم ظهور النظام العالميّ الجديد بصيغته الرأسمالية المتوحشة التي راحت بدورها عبر الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على الاقتصاد العالميّ من خلال اتفاقيّة الجات وصندوقيّ النقد الدوليّ والبنك الدوليّ للإعمار والتنمية، أو من خلال دخول الرأسمال الوطنيّ المنهوب في دول العالم الثالث من قبل حكام هذه الدول وفاسديها في عالم الرأسمال الاحتكاريّ والتحالف معه ضد مصالح الشعوب.
5- تراجع الفكر العقلانيّ التنويريّ عن دوره في توعية الشعب العربيّ، وكشف دور ومكانة الفكر الأصوليّ السلفيّ، وبدء انتشار هذا الفكر بصيغته الجهاديّة التكفيريّة عبر القاعدة وفصائلها، وهذا ما رحنا نلمس نتائجه مع ثورات الربيع العربيّ الذي أَسْلَمَ هذه الثورات، وراح يتعامل مع الواقع من منطلق ايديولوجيّ جموديّ يريد للواقع أن يرتقي بحد السيف إلى النص المقدس كما فسروه هم وأولوه، وهنا رحنا نعيش ردّة فكريّة وسلوكيّة معا، اتخذت من القرون الهجريّة الثلاثة الأولى منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً لها.
كاتب وباحث من سوريّة
التعليقات مغلقة.