الدّيون، ميراث سَلْبِي للأجيال العربية / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 6/3/2022 م …

ارتفع حجم الدين الخارجي للبلدان “النامية” (أي الفقيرة) بشكل قياسي، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، لتتضاعف المديونية بمقدار مَرّتَيْن ونصف ( 2,5 ضِعْفا )، ومنذ سنة 2008، ارتفعت حصة السندات الحكومية من هذه الدّيون، وهو ما تبيعه أو تَرْهَنُهُ حكومات هذه البلدان من المُمتلكات العمومية، أي من ممتلكات الشُّعُوب، وتزامن ارتفاع حجم الدّيون الخارجية (أي بالعملات الأجنبية) مع ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض قيمة عملات هذه البلدان مقابل الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي والين الياباني (العُمْلَات التي تُقَوَّمُ بها القُرُوض )، مع عدم استقرار أسعار صادراتها من المواد الخام، وارتفاع قيمة وارداتها من الغذاء والدّواء والسّلع المُصَنَّعَة، ما يُخفّض احتياطي العملات الأجنبية…




 بهذا الصّدد، نشرت صحيفة “فاينانشال تايمز” يوم 18 كانون الثاني/يناير 2022 تحليلاً يتوقّع ارتفاع مدفوعات دُيُون الدّول الفقيرة بقيمة أحد عشر مليار دولارا، سنة 2022، لتبلغ نحو 35 مليار دولارا، وجب تسديدها قبل نهاية سنة 2022، بزيادة نسبتها 45% مقارنة مع سنة 2020، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وزيادة تكلفة إعادة تمويل الدين، وارتفاع أسعار المنتجات المستوردة مما يزيد من فاتورة الواردات بالعملات الأجنبية، خصوصًا خلال سنوات الجفاف والكوارث، وانخفاض عائدات الصادرات، وأعرب خُبراء البنك العالمي عن تخوفاتهم من “مخاطر” تخلُّف بعض الدول عن سداد الدّيون، من بينها زمبيا وغانا وسلفادور وتونس وسريلنكا، وبلدان أخرى، واضطرار ما لا يقل عن خمسين دولة إلى إعادة هيكلة ديونها، فيما يرفض البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي والدّائنون الآخرون تَلْيِين أو تخفيف الشُّروط المُجْحِفة المُرافِقَة للدُّيُون، في ظل ارتفاع عجز ميزانيات أكثر من سبعين دولة فقيرة، وانكماش النمو منذ 2020، سنة انتشار وباء “كوفيد-19″، بل لم يتَعافَ اقتصاد العديد من البلدان منذ أزمة 2008، ما زاد من مصاعب الحياة لأغلبية سُكّان البلدان الفقيرة، وارتفاع حجم البطالة، وإعادة إنتاج الفقر وارتفاع حجمه، بدل الحد منه، وزيادة عدم المساواة، وتدهور الظروف المعيشية لغالبية سكان العالم، بالتوازي مع ارتفاع قياسي لثروات الأثرياء، بحسب وثائق رسمية عديدة، منها وثائق مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية…  

 

الوضع الإقتصادي العربي سنة 2020:

يُصدر صندوق النقد الدّولي تقريرَيْن نصف سَنويّيْن، بنهاية الربع الأول والربع الثالث، من كل سنة، كما يُصدر البنك العالمي وفُروعه (مثل المعهد الدّولي للتمويل) تقارير عديدة، عن وضع وآفاق الإقتصاد العالمي، وأورد تقرير البنك العالمي (تشرين الأول/اكتوبر 2021) بيانات عن تطور الديون العُمومية التي ارتفعت خلال جائحة كوفيد 19 بنحو 36 تريليون دولارا، ليبلغ حجمها الإجمالي 296 تريليون دولارًا، بنهاية الربع الثاني من العام 2021، أو ما يُعادل نسبة 353% من الناتج الإجمالي العالمي، وفي تفاصيل التقرير وردت بيانات تفيد ارتفاع دُيُون الدول المُصَنَّفَة “منخفضة ومتوسطة الدخل”، بنسبة 12% سنة 2020، لتبلغ 860 مليار دولارًا بنهاية 2020، وفي الدّول العربية تُعتبر مصر أكبر مُقترض، وأشارت النشرة الشهرية “للمؤسسة العربية لضمان مخاطر الاستثمار”، بنهاية سنة 2020، إلى ارتفاع العجز الكلي بالموازنات العربية من مُعدّل 3,3% من الناتج المحلي الإجمالي، سنة 2019،إلى 10,8% سنة 2020، وإلى ارتفاع معدلات التضخم من 2,7% إلى 7,1%، أما الدّيون العمومية العربية فقد ارتفعت من 47,3% سنة 2019 إلى 59,1% من الناتج الإجمالي المحلي، سنة 2020، وهي جزء من الدّيون الخارجية العربية (دُيُون الحكومات والشّركات) التي ارتفعت نسبتها من 53,5% إلى 64,4% من الناتج المحلي الإجمالي، خلال نفس الفترة، ليتحول الفائض في الميزان الجاري العربي بقيمة 37,3 مليار دولارا سنة 2019، إلى عجز بقيمة 114,1 مليار دولار سنة 2020.

ارتفعت الدّيون الخارجية لمعظم البلدان العربية، منها الدول مرتفعة الدّخل فبلغت الدّيون الخارجية للإمارات 106 مليارات دولار، سنة 2020، وللسعودية 93,4 مليار دولارا (وهما من كبار زبائن السلاح الأمريكي، ومتورطَيْن أكثر من غيرهما في اليمن وفي العدوان على مجمل الشعوب العربية) وقطر 63,4  مليار دولارا والكويت 46 مليار دولارا وعُمان 45 مليار دولارا، والبحرين 37,4 مليار دولارا، وهي دُوَيْلات نفطية، لا تُواجِهث صعوبات كبيرة، لولا تَوَرُّطُها في تكديس السّلاح وتدمير الجمهوريات العربية، أما في الدول العربية منخفضة الدّخل فبلغت الديون الخارجية لمصر 133 مليار دولارا، ولبنان 68,8 مليار دولارا والمغرب 65,6 مليار دولارا وتونس 41 مليار دولارا، بحسب تقديرات البنك العالمي، بنهاية 2020، واعتبرت دراسة نشرتها لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) بعنوان “نقص السيولة وارتفاع الدَّيْن – عقبات على مسار التعافي في المنطقة العربية”: إن زيادة الدَّيْن العام العربي، قِياسية، وغير مسبوقة، خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، خصوصًا في مصر والأردن وتونس، وفاقمت جائحة “كوفيد -19” حاجة الدّول للسيولة النقدية، ليرتفع حجم الدّيْن العام العربي إلى 1,4 تريليون دولارا، وكان يُشكل 25% من الناتج الإجمالي العربي، سنة 2008، ليرتفع إلى 60% سنة 2020، ولتوضيح الصُّورة نُشير أن ثماني دول عربية اقترضت، من 2001 إلى 2019، ما يُعادل 35 مليار دولارا من صندوق النقد الدّولي، وشكّلت الفوائد و”خِدْمة الدّيْن” 15 مليار دولارا، أي قراية 43% من حجم المبلغ المُقْتَرَض، وتضاعفت قيمة خدمة الديون لثلاثة عشر دولة عربية خلال نحو عِقْدَيْن، وارتفعت من 15,2 مليار دولارا إلى 28,65 مليار دولارا، وخصصت عشْرُ دُولٍ عربية ما بين 10,6% و 41,2% من الإيرادات الحكومية لخدمة الديون، ما لا يترك مجالاً للإنفاق على الصحة والتعليم والزراعة والمسكن اللائق، بينما قَدَّرَت لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) نسبة البطالة في مجمل البلدان العربية بنحو 12,5% من قُوّة العمل (القادرين على العمل) بنهاية سنة 2021، بمعدّل 22% بتونس و 21% بالأردن، وارتفاع نسبة بطالة الشباب لتبلغ حوالي 27%، فيما تُقَدّر الفجوة (عدم المساواة ) بين الجنسين بنسبة 40%، وهي الأعلى في العالم، بحسب التقرير الذي قدّر ارتفاع نسبة الفقر سنة 2021، لتصل إلى 32% أو حوالي 116 مليون شخص، في ظل استمرار حالة الركود الاقتصادي التي قد تزيد الطّينَ بَلّةً.

انخفضت قيمة عُملات الدول العربية خلال الفترة من الأول من آذار/مارس 2020 إلى الواحد والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر 2020، أي فترة انتشار فيروس كورونا والإغلاق الإقتصادي والحجر الصحي والحبس المنزلي وتوقف حركة السّفر والسياحة والتجارة، فهبطت قيمة الدّرهم المغربي بنسبة 8,4% مقابل الدّولار، والدينار التونسي بنسبة 5,7% والدينار الجزائري بأكثر من 9%، وخلال سنة 2019، قبل الجائحة، كرست نصف الدول العربية مَوَارِدَ لخدمة الديون تفوق قيمتُها حجم الإنفاق على الصحة، في المنطقة العربية التي قَدّرت الأمم المتحدة عدد سُكّانها، بنهاية سنة 2019، بنحو 456 مليون نسمة، لكن الإقتصاد الهش، الذي تُديرُهُ حكومات عميلة، لا يُخطّط للإستثمار المُنتج ولا لاستيعاب المُعَطّلين عن العمل، ولا لانتشال 116 مليون عربي من الفقر…

يعود ارتفاع حجم الدّيُون العربية ليتضاعفَ حجمها خلال عقد واحد (من 2008 إلى 2019)، إلى لجوء الحكومات لتمويل الإنفاق المُقَرّر بالميزانية، عبر الاقتراض المَشْرُوط بعدم إنفاقه في القطاعات المنتجة، ما يُعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، ويزيد من “خدمة الدُّيُون”  ومن حجم مبالغ الأَقْساط التي وجب تسديدها، ما يُعَمِّقُ أزمات المجتمع، ويرفع حجم ونسبة البطالة والفقر وما يُعَمِّق الفجوة الطّبقية بين الأثرياء والفُقراء، ويريد صندوق النقد الدّولي تعميق أزمة البلدان العربية، وإغراقها في الدّيون المَشْرُوطة، حيث أعلن خُبراؤُهُ بنهاية سنة 2021، “إن إنعاش النمو قد يتطلب تمويلاً تفوق قيمتُهُ ال170 مليار دولار التي كانت متوقَّعة لسنة 2021 ، مما يزيد من احتياجات التمويل المرتفعة جدًّا لبعض البلدان”…

بعد الإنتفاضات العربية في تونس ومصر والمغرب والبحرَيْن والأردن وغيرها، غابت أسماء بعض رُمُوز السُّلْطَة، لكن بقيت الأنظمة على حالها، وطبّقت الحكومات الجديدة نفس الوصفات النيوليبرالية، وزادت من اللُّجُوء إلى الإقتراض من الخارج، وأدّت الإجراءات التقشفية إلى تدهور مستوى معيشة معظم المواطنين، خصوصًا إثر انتشار وباء “كوفيد -19″،  وما رافقه من تدهورٍ لِحَال العاملين ومن ارتفاع لعدد الفُقراء بحوالي 8,3 مليون فقير إضافي، وارتفاع معدّل بطالة الشباب إلى 27%  ( حوالي 40% في تونس بحسب تقديرات سنة 2021) بينما يعمل حوالي 80% من الشباب (ذكورًا وإناثًا) في القطاع المُوارزي، أو غير الرسمي، وما يعنيه من هشاشة وحرمان من الحماية والتّأمين والحُقُوق…

بالمُقابل، استفاد أثرياء العالم من انتشار وباء “كوفيد -19″، ومنهم أثرياء العرب حيث قدّرت منظمة “أوكسفام” في آب/أغسطس 2020، أن ثروة 37 مليارديرًا عربيا تُعادل قيمة ممتلكات نصف المواطنين العرب من البالغين، ويحتكر نحو 10% من أثرياء العرب نسبة 64% من الثروة العربية، ما يُصَنِّفُ الإقليم (أو المنطقة العربية) بالمنطقة الأكثر تفاوتًا في العالم.

 

ضرورة إلغاء الدّيون:

يعترض البعض على مطلب إلغاء الدّيون، بذريعة أن ذلك غير واقعي، لكن يوجد تعريف مُعترف به من قِبَل الأمم المتحدة للدّيون “البغيضة” أو “الكريهة”، وحدث أن طالبت المنظّمات الأهلية في “هايتي”، بعد الإطاحة بالدكتاتور “جون كلود دوفالييه” سنة 1986، بإلغاء الدّيون لأن الدكتاتور لم يستخدمها من أجل الإنفاق على التعليم أو الرعاية الصحية أو البُنْيَة التّحتية الأساسية، بل بدّدها هو وحاشيته، وحظيت الحملة بتضامن واسع في أمريكا الشمالية وأوروبا وأمريكا الجنوبية، وتقرر إلغاء معظم الدّيون، سنة 2008، كما خاضت حكومة الأرجنتين معركة مع الدّائنين، في بداية القرن الواحد والعشرين، وأسفرت عن قبول أكثر من تسعة أعشارهم اتفاقًا يقضي خفض المبالغ الواجب تسديدها وتمديد مُدّة السّداد، أما حكومة “إكوادور” فقد خاضت معركة ضد شركة نفطية أمريكية عملاقة، ومعركة مع الدّائنين، بنهاية سنة 2008، ونجح الرئيس “رافائيل كُورِّيّا” وحكومته، في إلغاء بعضها، وتخفيض حجم “خدمة الدّيْن”…

أما أهم إلغاء للدّيون، فكان خلال معاهدة لندن بتاريخ 27 شباط/فبراير 1953 لإلغاء دُيُون ألمانيا (حوالي 20 مليار دولارا)، بعد الحرب العالمية الثانية، وإشراف الولايات المتحدة على إدارة شؤون ألمانيا الغربية، واستفادت ألمانيا، بفضل الضّغط الأمريكي، من مُعاملة تفضيلِيّة خاصة، لم تستفد منها أي دولة أخرى، حيث قَرّر النظام النّازي الألماني، بزعامة أدولف هتلر، سنة 1933، وَقْف سداد الدّيون المترتبة على ألمانيا منذ الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك لم تتأثر المبادلات التجارية والإقتصادية الألمانية مع دول أوروبا وأمريكا، بل ساهمت بعض الشركات الأمريكية والأوروبية في تعزيز صناعة الأسلحة الألمانية وتطوير أدوات القمع، والإضطهاد والمجازر والإبادة، وفي نهب موارد وثروة كافة بلدان أوروبا الوُسطى والشرقية، وبدأت المُشاورات منذ 1948، ثم اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على إلغاء الدّيون، والإشراف على إعادة الإعمار، وتحويل ألمانيا الغربية إلى واجهة للرأسمالية المتطورة، ومركز استخبارات على حُدُود أوروبا الشرقية التي كانت تحت النفوذ السوفييتي، وبلغت الإستثمارات الأمريكية والأوروبية (رغم تدهور وضع أوروبا بعد الحرب) نحو 1,2 مليار دولارا، بين 1948 و 1952، وتواصل الإنفاق والإستثمار وإقراض ألمانيا الغربية بسعر فائدة يتراوح بين الصفر و 5%، حتى سنة 1961، وهو ما فعلته الولايات المتحدة كذلك في اليابان وكوريا الجنوبية، لتجعل منها واجهة رأسمالية في آسيا، ومواجهة انتشار الشيوعية في جنوب وجنوب شرقي آسيا، بعد انتصار الثورة التي قادَها الحزب الشيوعي الصيني، سنة 1949…

رفضت ألمانيا ودول الإتحاد الأوروبي إلغاء ديون اليونان التي تلت الأزمة المالية ( 2008 )، رغم النّهب الذي تعرض له اليونان خلال الإحتلال النّازي، أثناء الحرب العالمية الثانية، وسرقة ألمانيا النازية ميزانية اليونان لتمويل جيشها الذي احتل شمال إفريقيا، من المغرب إلى مصر، كما ترفض الدّول الرأسمالية المتطورة، التي تتحكّم بقرارات صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، مجرّد التّفاوض في خفض نسبة الفائدة أو تأجيل سداد الدّيون، ويبْتَزُّ الدّائنون الدول الفقيرة، بواسطة خدعة تحويل الدّيون إلى استثمارات، أي الإستحواذ على ممتلكات وثروات البلدان، دون تدفق أي استثمار جديد، ما يُؤكّد سياسة المِكْيالَيْن، وما يدعو إلى اتخاذ هذه الأمثلة كنماذج لتعْلِيل المطالبة بإلغاء الدّيون…

 

خاتمة:

تضطر حكومات البلدان الفقيرة إلى الإقتراض بسبب الخيارات السياسية والإقتصادية التي تفرضها منظومة الهيمنة، والتي يُمثِّلُها صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها من المؤسسات الدولية التي تتحكم بقراراتها الدول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، وهي التي تدفع الحكومات إلى التّداين، بالتوازي مع استدامة اعتماد الإقتصاد على تصدير المواد الخام التي تستغلها شركات اجنبية متعددة الجنسية، وتؤدي شروط الدّائنين إلى زيادة الواردات وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي، وزيادة المدفوعات، مع انخفاض قيمة العملات المحلية، والعديد من الأزمات التي لا تنخفض حِدّتها بل تتفاقم، وتُؤدّي مجمل هذه العوامل إلى زيادة تَبَعِيّة البلدان الفقيرة، وفقدانها استقالية القرار…

في أيار/مايو 2020، دعت عشرات الجمعيات العربية إلى “تعليق سداد الديون”، فيما دَعتْ بعضها إلى “إلغاء الدّيون الكريهة” وكذلك “اتفاقيات التجارة الحُرّة”، باعتبار الدّيون “أدوات هيمنة امبريالية” على الشعوب التي تأثّرت سَلْبًا بالأزمة الصحية العالمية الناجمة عن جائحة “كوفيد -19″، وخصوصًا الفُقراء والمُعَطَّلِين عن العمل والكادحين والأُجَراء، الذين عانوا من غياب المرافق العمومية في مجال الرعاية الصّحّية، فيما انصبّ اهتمام الفئات الحاكمة على ضمان تسديد الدّيون الخارجية، وعلى ضمان مستوى أرباح المصارف والشركات الكبرى، وتشديد إجراءات التقشف التي تزيد من الفقر والبطالة ومن الفوارق الطبقية وعدم المساواة…

تُمثل الدّيون أداةً لنهب الثروات التي وجب توجيهها نحو الإستثمار المنتج في الفلاحة والصناعات والخدمات الأساسية، وتُمثل الفوائد وخدمة الدَّيْن سرقة ونهبًا لمبالغ كان يُستحسَنُ إنفاقها على الصحة والتعليم والبحث العلمي والنقل العمومي والمسْكن اللائق، وتلبية احتياجات المواطنين، ولذلك تدعو هذه الجمعيات إلى التوقف عن سداد الدين العام، والإهتمام بمواجهة وباء كورونا وخلق وظائف وتحسين مستوى الخدمات، واستخدام المبالغ  في تمويل برنامج اقتصادي يُوفّر الحماية الاجتماعية والغذائية والصحية للسكان…

يتطلب تنفيذ إلغاء تسديد الدّيون الخارجية حملة توعية داخلية بمخاطر الدّيون الخارجية، ثم تعيين لجنة دولية لِحَصْرِ أصل الدّيون، وفَصْلِها عن الفوائد و”خدمة الدَّيْن”، ثم التحقيق في مآل مبلغ الدّيُون، وهذا يتطلّب استعداد المنظمات المحلية والمواطنين لمجابهة البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، فضلاً عن الحكومات والمصارف الخاصة، أي مجابهة أدوات الهيمنة الإمبريالية، واحتمال مواجهة قرارات المقاطعة والحصار الإقتصادي وهجومات الشركات العابرة للقارات التي قد تصل حدّ تمويل مليشيات المترزقة وتمويل تيارات انفصالية، وما إلى ذلك، ولذا يتطلب إلغاء الدّيون من طرف واحد، التفافًا شعبيا ووَعْيًا بنتائج هذا القَرار والدّفاع عنه (عن القرار)، خصوصًا إذا اقترن بإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة التي فاقمت من حالة التّبَعِيّة ودمّرت قطاعات الصناعات الصغيرة والفلاحة وفرضت قوانين “حماية المِلْكِيّة الفكرية”، وتُعتبر اتفاقية التجارة الحرة بين المغرب أو تونس، من جهة والإتحاد الأوروبي، من جهة ثانية، نموذجًا سلبيا لمثل هذه الإتفاقيات بين أطراف غير متكافئة…

في مقابل هذه الإتفاقيات غير العادلة، ذات الطّابع الإستعماري، يمكن اقتراح بديل يتمثل في إرساء علاقات دولية قائمة على التّعاون من أجل تلبية احتياجات المواطنين، ودَعْم صغار المنتجين والمزارعين والأُجَراء.

تحتاج البلدان العربية (والبلدان الفقيرة، بشكل عام) إلى برنامج بناء اقتصاد وطني، يولى أهمية خاصة لمكافحة الفساد والتهرب الضريبي ونهب الثروات وتهريب الأموال إلى الخارج، واستخدام المبالغ التي تجبيها الدولة، للإستثمار بالعملة المَحَلِّيّة بنسبة هامة، في تمويل قطاع الزراعة لتأمين التّنوُّع البيولوجي وتأمين الإكتفاء الذاتي الغذائي ومن ثم السيادة الغذائية، وتمويل قطاع النّقل العمومي للحد من استهلاك الوقود المُسْتَوْرَد والحد من التّلوُّث، ولتمويل قطاع البحث العلمي والرعاية الصّحّيّة، وغيرها من المشاريع التي تَحُدُّ من اللُّجوء للتوريد، وهي عموما مشاريع مفيدة للمجتمع، وتدعم استقلالية الدّول عن رأس المال العالمي وشركاته العابرة للقارات، وعن القوى العظمى التي تُحارب أي نظام يُحاول الخُرُوجَ عن سيطرتها، باسم الدفاع عن الحريات الديمقراطية أو باسم حُرّية التجارة، وغير ذلك، ما يستوجب التفاف مواطني البلدان الفقيرة حول برنامج وطني تحرُّرِي…

إن التّوقف عن سداد الدّيون وإلغاء الدّيون الخارجية ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو جزء من برنامج وطني تحرّري يهدف رفض الشروط القاسية التي يَفْرِضُها الدّائِنُون، ووضع حَدٍّ لجميع أشكال النّهب، ولتدهور وضع الفئات الإجتماعية الكادحة والفُقراء، وأغلبية فِئات المجتمع، والقضاء على البطالة، من خلال الإستثمار في مشاريع منتجة وفي الفلاحة والصناعة للتوقّف التّدريجي عن استيراد السلع الأساسية كالغذاء والدّواء والملابس والتجهيزات المنزلية وغيرها، واستخدام ما يتوفّر من عملات أجنبية في استيراد السّلع والتقنيات الضرورية…

 

تعريفات:

يُصنف البنك العالمي البلدان التي لا يزيد فيها دخل الفرد السنوي على 1036 دولارا، “دولًا منخفضة الدخل”، ويتراوح الدّخل السنوي الفردي للدول متوسطة الدّخل بين 1037 و 4046 دولارا، فيما  يزيد الدّخل السنوي الفردي عن 12535 دولارا، بالبلدان مرتفعة الدّخل، وما بينهما البلدان متوسطة الدّخل التي تُقسَّمُ بدورها إلى شريحة دُنيا وشريحة عُلْيا، ولئن كان التقسيم فضفاضًا فإنه يُعتبر مرجع المؤسسات المالية الدولية.

يُمثّل صافي التحويلات (بخصوص الدُّيُون) الفرق بين مبلغ القُرُوض التي يحصل عليها بَلَدٌ مَا، وما يسدِّدُه من أصْل القَرْض والفائدة، والنفقات المرتفعة جدًّا “للخدمات”، منها سفر وإقامة البعثات التي تُشرف على تنفيذ شُرُوط القُرُوض، وتُسمّى هذه المبالغ (الفوائد والخدمات الأخرى) “خِدْمَة الدَّيْن، وعادة ما تُسدّدُ الدُول المُقْتَرِضَة ضِعْفَ المبالغ التي اقترضتها، تمامًا مثل القروض العقارية طويلة الأجل للمواطنين ( على عشرين أو 25 سنة)، أي أن تلك الدّول سدّدت مبالغ تفوق ما اقترضته، ما يجعل الفارق بين المبلغ المُقْتَرَض والمبلغ المُسَدّد سالبا، أي خسارة مُضاعَفَة… 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.