الهيمنة عبر الإقتصاد … الإقتصاد أداة لدعم الإحتلال – نموذج فلسطين / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 28/3/2022 م …
لا يُشكِّلُ الإحتلال الصّهيوني لفلسطين، ولأي جزء آخر من الأرض العربية، احتلالاً “كلاسيكيًّا”، بل استعمارًا استيطانيًّا “إِحْلاَلِيًّا” من نوعٍ خاصٍّ ( إحلال مجموعات من المُسْتَعْمِرِين الغُرَبَاء مَكان الشّعب الأصلي، صاحب الأرض والوطن)، يحمل بعض خصائص الإحتلال الإستيطاني الأوروبي لأمريكا ولأستراليا ولنيوزيلندا، ويختلف عنه في بعض الخصائص والمُمَيِّزات الأخرى…
قبل إعلان قيام دولة الكيان الصّهيوني، أَكَدَ “هستدروت” (اتحاد نقابي من نوع فَاشِي، يجمع بين العَمَل ورأس المال، بين عُمّال وأرباب عَمَل ومصرفيّين )، منذ العقد الثالث من القرن العشرين على “العَمَل اليهودي”، أي تَهْمِيش وإقصاء الأغيار (غُوييم، أو غَيْر اليهود) من العَمل، ومن عَمَلِيّة الإنتاج، وفَرَضَ “هستدروت” هذا المبدأ، عبر مُمارسة الإرهاب (خلال فترة الإستعمار البريطاني، من 1918 إلى 1948) ضد أي رب عمل يهودي يُشَغِّلُ غَيْرَ اليهود، وبذلك عملت الحركة الصّهيونية، منذ بداياتها، على السّيْطَرَة على الأرض وعلى شلّ القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، وعلى نَسْف أُسُس تقرير المصير للشعب الفلسطيني، عبر خلق تشوّهات هيكلية، زادت حِدّتها بعد عُدوان سنة 1967 واحتلال ما تَبَقّى من فلسطين، وخُصُوصًا منذ “إعلان المبادئ” ( حول ترتيبات الحكم الإداري الذاتي المُؤَقّت )، المعروف باسم “اتفاقيات أوسلو” (1993) وملحقاتها، وخصوصًا “بروتوكول باريس” الاقتصادي ( 1994 ) الذي يحدد معالم العلاقات الاقتصادية بين الطَّرَفَيْن المُوَقِّعَيْن على “إعلان المبادئ”…
يُشكّل “بروتوكول باريس” حجر الزاوية لعلاقات التّبعيّة الإقتصادية، ويتضمّن إحدى عشَر مادّة، تتعلّق اثنتان منهما بنطاقه وإطاره وإنشاء لجنة اقتصادية مشتركة وسير عملها، وتتناول المواد التسعة الأخرى التجارة والضرائب والواردات والمصارف واتفاقيات العمل وقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة…
تتناول الفقرات التالية بعض مظاهر وتَبِعات الجانب الإقتصادي للإحتلال الصهيوني لفلسطين، ومحاولات إفراغ الأرض/الوطن من أهله، عبر الحصار والخَنْق الإقتصادي، بالتّوازي مع القمع وهدم المباني وتجريف الأرض الزراعية ومُصادرتها، كما تتناول التّغْيِيرات المُسْتَجَدَّة منذ “إعلان المبادئ”، وأهمُّها تَوَلِّي قيادات فلسطينية تنفيذَ سياساتِ العَدُوّ، كجُزْءٍ من التّطبيقات العَمَلِيّة لِمُحادثات أوسلو وباريس، واستغلال الكيان الصهيوني للمحادثات مع قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، لتطبيع علاقاته مع العديد من دُول الأطْراف، ودول عدم الإنحياز ودول إفريقيا وغيرها، بما فيها الدّول العربية التي خَضَعَتْ لهيمنة الكيان الصهيوني، عسكريًّا واقتصاديًّا، بإشْراف أمريكي وأوروبي.
انتفاضة 1987، تجربة حُكْم ذاتي محدود
تأثيراتها على الاقتصاد الصهيوني
شكّلت عملية قتل أربعة فلسطينيين، الشّرارة التي أطلقت انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 1987، لكن تعود الجُذُور إلى ممارسات الإحتلال من تهجير وعُنف مستمر، وتردّي الوضع الاقتصادي وتدهور مستوى المعيشة وتدهور ظروف العمل لمن يعملون داخل “الخط الأخضر” (المناطق المحتلة سنة 1948)، وانخفاض رواتبهم ( يتقاضى الفلسطيني، عن نفس العمل، أجرا يقل مرتين عن نظيره الصهيوني) وإمكانية طردهم دون أي إجراء وإذلالهم قبل حصولهم على تصريح وإهانتهم أثناء عمليات التفتيش اليومية، وغير ذلك من الشروط التي يَسّرت انخراط العاملين الفلسطينيين في عملية المُقاطعة وتنفيذ الإضراب عن العمل، دون استشارة أو إذن من أحد، سوى من القيادات الشعبية المَيْدانِيّة المَحَلِّية، التي أنشأت لجانًا شعبية داخل المخيمات، لتنظيم الإضراب والعصيان المدني وعملية المُقاطعة، كما تأسّست لجان لإدارة الشُّؤُون اليَوْمِيّة، ولتوفير الغذاء والدّواء، والتعليم ومجموعة من الخدمات الضرورية لسكّان المخيمات و المناطق المَشمُولة بالإغلاق الطويل وحظْر التّجوال الذي أعلنته سُلُطات الإحتلال…
تشكّلت أثناء انتفاضة 1987 لجان تطوعية عديدة، منها لجان دعم الإقتصاد المَحَلِّي لإنجاح مُقاطعة البضائع الصهيونية، وزيادة الإنتاج المحلي، فكان الطلبة والشّبّان يُساعدون الفلاحين والحِرَفِيِّين على إنجاز بعض الأعمال، وتوصيل الإنتاج إلى المُستهلكين، دون واسطة، ما جعل المُنتجين يستفيدون من الإنتفاضة، وينخرطون فيها بشكل طبيعي، فيما يستفيد المُستهلكون من جودة الإنتاج ومن انخفاض سعره، نظرًا لغياب السماسرة والوساطات والفئات الطُّفَيْلِيّة، وأطلق الرفيق “عادل سمارة” على هذا الإنسحاب إلى الدّاخل، والقَطْع مع المنظومة الرأسمالية الإعتيادية، مُصطلح “التنمية بالحماية الشعبية”، كما تشكلت لجان تهتم بتعليم الأطفال والشّبّان، في فترة حَظْر التّجوال (التي طالت كثيرًا) وإغلاق مُؤسّسات التّعليم، واستغلّت المنظمات غير الحُكُومية، المُمَوَّلَة أجنبيا، والمراكز الثقافية الأجنبية، فترة الإغلاق أثناء الإنتفاضة، لفتح أبوابها للشُّبّان الفلسطينيين من الجنْسَيْن لتعليم اللغات الأجنبية ولبث الأفكار المُعارضة للمقاومة، باسم “التّسامح” والتّعايش” و “نبذ العُنف”، ولتقديم تقارير شفوية عن الوضع (بشكل غير مقصود وغير واعي)، وما إلى ذلك…
لا توجد مقاييس محددة لقياس الأضرار التي تلحق باقتصاد الإحتلال من جراء الانتفاضة، وتتوزع هذه الأضرار بين مُباشرة وغير مباشرة، لكن من الواضح أن الإقتصاد الصهيوني خسِر، طيلة فترة الإنتفاضة، بعض الفوائد الاقتصادية التي كان يجنيها، منذ احتلال سنة 1967، ليتحول الاحتلال الرخيص إلى احتلال مكلف، وتحول الكساد الجُزْئِي للإقتصاد الصهيوني (الذي بدأ منذ شهر أيار/مايو 1987) إلى حالة عامة من الانكماش الاقتصادي، وساهمت الإضرابات الجزئية للعمال الفلسطينيين (عدم الذهاب للعمل في المناطق المحتلة سنة 1948)، ومقاطعة البضائع الصهيونية التي يتوفّر بديل مَحَلِّي لها في الضفة الغربية وغزة، في تراجع في النشاط الاقتصادي الصهيوني، كما أسهمت الانتفاضة في إحداث اختراقات في صفوف المُحْتَلّين، إذ دَعت 51 حركة إلى “تحقيق السلام مع الفلسطينيين والانسحاب من الضفة الغربية وغزة”، وانخفضت هجرة اليهود السوفييت الذين أصبحوا يفضلون الهجرة من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، كما حدثت هجرة يهودية معاكسة، فتضاعَفَ عدد المهاجرين إلى الخارج، سنة 1988، وغادر فلسطين 21 ألف يهودي، مقابل وصول 13 ألف يهودي، كما انخفض عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 من سبعين ألف مستوطن إلى عشرين ألف بسبب مهاجمة الفلسطينيين لسياراتهم…
أدّى إضراب العُمال الفلسطينيين وعدم التحاقهم بمراكز عملهم، إلى إغلاق بعض المصانع، وإفلاس أُخْرى، فضلا عن عمليات تخريب متعمدة داخل المصانع، وإلى إغلاق فروع بعض المصارف، وأدّت مُقاطعة البضائع الصهيونية، في غزة والضفة الغربية، خلال الانتفاضة، إلى انخفاض قيمة البضائع الصهيونية التي يشتريها الفلسطينيون من 850 مليون دولار سنة 1987 إلى 250 مليون دولار سنة 1988، كما انخفض حجم الاستثمارات في جميع القطاعات الاقتصادية الصهيونية، بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتَقَلَّصَ حجم الانتاج الذي يقدر بمليار دولار بسبب انفصال الأسواق الفلسطينية عن اقتصاد الإحتلال، وارتفعت النفقات الأمنية والعسكرية…
واجَهَ الإقتصاد الصهيوني بعض بوادر التراجع قبل انطلاق الانتفاضة ببضعة أشهر، وفاقمت الإنتفاضة أزْمَتَهُ بسبب اعتماد بعض قطاعاته على موارد الضفة وغزة، من قُوّة عمل رخيصة وسوق استهلاكية، وتحوَّلَ التراجع الطفيف والمُؤَقّت إلى حالة ركود جزئي خلال سنة 1988، وإلى انكماش أصاب معظم القطاعات (البناء والزراعة والصناعة والسياحة…)، سنة 1989 بسبب تغيب العمال الفلسطينيين وبسبب مقاطعة البضائع الصهيونية التي لها بدائل محلية (السلاح الإقتصادي للإنتفاضة)، وكشفت البيانات الرسمية التي أعلنها شمعون بيريس” (كان وزيرًا للمالية آنذاك) إن تكلفة الانتفاضة قُدِّرت بما بين 750 مليون دولارا و مليار دولارا، سنويا فضلاً عن الكساد والركود وارتفاع نسبة البطالة ، بينما قدّر اتحاد الصناعيين تأثير الإنتفاضة بنحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاد الإحتلال…
لم يكن الإحتلال يُحَمِّل الخزينة الصهيونية أي عبء مالي بل أنتَجَ الإحتلال مكاسب صافية لمصلحة بنية الاقتصاد الصهيوني، في إطار استراتيجية “الدمج” الإقتصادي القَسْرِي، واستولى الإحتلال من 1967 إلى 1987 على 2,150,000 دونم من أراضي الضفة الغربية تشكل نسبة 39% من مجموع الأراضي بها، وصادَرَ في قطاع غزة نحو 186,500 دونم، مع سرقة 820 مليون متر مكعب من مياه الضفة الغربية، ولا يستهلك الفلسطينيون العرب سوى 100 مليون متر مكعب ( بعد أُوسلو، يستهلك ستمائة ألف مستوطن صهيوني، سنة 2021، مياهًا يُعادل حجمها نحو ستة أضعاف ما يستهلكه قرابة 2,8 مليون نسمة من سكان الضفة الغربية )، والاستيلاء على المواقع السياحية والأثرية وعلى المُرتفعات، واستغلال موارد البحر الميت والمناجم والمحاجر الفلسطينية، فضلا عن استغلال حوالي 120 ألف عامل، لا حُقُوق لهم، فلا تأمين صحي أو تقاعد أو تعويضات، رغم اقتطاع حوالي 160 مليون دولارا سنويا من رواتبهم، وتُقدّر فوائض الميزان التجاري الصهيوني من الأراضي المحتلة سنة 1967، بنحو 540 مليون دولارا سنويا، ما يجعل الإحتلال رخيصًا للغاية، كما يتحكم الإحتلال في حوالي أربعين مليون دولارا سنويا من إيرادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أنروا) وحوالي ثمانين مليون دولارا أخرى من التحويلات والتبرعات العربية والدّولية…
من اقتصاد الكفاف إلى التّبَعِيّة المُطْلَقَة:
قبل عُدْوان 1967، واحتلال ما تَبَقّى من فلسطين، كان ثلاثة أرباع سُكّان الضفة الغربية وغزة يسكنون المناطق الرّيفية، وبلغت حصّة القطاع الزراعي نسبة تفوق 50% من الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت ورش البناء والنجارة والحدادة ومصانع الأحذية والنّسيج ومطاحن الحبوب وزيت الزيتون والصناعات الخفيفة مُنتشرة، كما في العديد من البلدان العربية، وكان السّكّان يعتمدون كذلك على التحويلات المالية لحوالي خمسمائة ألف فلسطيني من أفراد عائلاتهم المُغتربين، وخصوصا من العاملين بالخليج…
كان من نتائج احتلال 1967، تدمير القطاعات الإنتاجية، وإحكام الخناق على حركة التجارة والتحويلات المالية، وأقَرَّ الإحتلال حماية المنتجات الصهيونية، وتوسيع شبكة ترويجها، إلى جانب المخططات الإستيطانية، من مصادرة الأراضي والسيطرة على موارد المياه، ما أدّى إلى إنخفاض حصة الإنتاج الزراعي الفلسطيني بحوالي 30% خلال السنوات العَشْر الأولى من الإحتلال، وإلى انخفاض نصيب القطاع الزراعيّ من الناتج المحليّ الإجماليّ بحوالي 50% سنة 1976، خلال انتفاضة الأرض، وانخفضت نسبة العاملين بالقطاع الزراعي إلى حوالي 16% في الضفة الغربية، وإلى حوالي 11% في غزة، سنة 1992، أي بعد الإنتفاضة الأولى، وقُبَيْل الإستعراض “الهَزَلِي/الدّرامي” لاتفاقيات أوسلو، بمخيم داوود بإشراف أمريكي في أيلول 1993…
بعد مرحلة اقتصاد الكفاف، فَرَضَ الإحتلال، بعد احتلال سنة 1967، وخصوصًا بعد انتفاضة 1987، أي خلال فترة تطبيق مُفاهمات أوسلو، قُيُودًا مُكَبِّلَة لتطور الزراعة والصناعات التّحْوِيلِيّة الخفيفة، بالتّوازي مع تخريب ما تَبَقَّى من بُنْيَة تحتية فلسطينية، وزادت نسبة “انفتاح” السُّوق الفلسطينية على السلع الصهيونية، وهي سياسة بدأ تنفيذها بعد احتلال سنة 1967، بهدف قَصْف الإنتاج الفلسطيني، وتهجير جزء من العاملين نحو الإقتصاد الصهيوني، مع خَلْق شريحة من المُتعاونين الفلسطينيين، ترتزق من توريد السلع الصهيونية والأجنبية التي تُساهم في إغراق السوق المحلي ومنافسة المنتجات الفلسطينية، وفي فَرْض استخدام المواد الخام والآلات وقطع الغيار الصهيونية، ليتحوّل بذلك المُجتمع الفلسطيني إلى مجتمع تابع، عبر السّمْسَرة والتعاقد من الباطن وعبر العمل في الأراضي المحتلة سنة 1948، حيث ارتفع عدد العاملين (من الضفة وغزة، في قطاعَيْ البناء والزراعة أساسًا) في الأراضي المحتلة سنة 1948، من عشرين ألف سنة 1970 إلى 116 ألف سنة 1992، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، وعبر خَلْق شرائح جديدة استفادت من الإحتلال للإرتقاء في دراجات السُّلَّم الطّبقي والإجتماعي، ما يُضْعِف الإنتاج الوطني، وكذلك العمل الوطني المُقاوم للإحتلال، واكتملت التبعية الإقتصادية بأُوسلو (1993) وباريس (1994)، لترتفع القُيُود، لكن باتّجاه واحد، يخدم الإقتصاد الصهيوني…
بعد قُرابة ثلاثة عقود من “إعلان المبادئ” (مفاهمات أُوسلو) ارتفعت حصة التجارة الدّاخلية بالضفة (تجارة السلع الصهيونية) من الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية إلى حوالي الرُّبُع، وانخفضت حصة القطاع الزراعي وتربية الحيوانات، بفعل مصادرة الأراضي ومصادر المياه وتجريف الأراضي الزراعية وحرق المزارع واقتلاع الأشجار والإعتداء على المُزارعين الفلسطينيين، وتعمّقت علاقات التّبعية للإقتصاد الفلسطيني بانتقال الموارد الطبيعية، بما فيها المعادن والأرض والمياه، والمواد الخام والعُمّال من الضفة الغربية وغزّة إلى الأراضي المحتلة سنة 1948، فيما تنتقل السلع الجاهزة (المُصَنَّعَة) عبر نفس الطريق، لكن في الإتجاه المُعاكس، من الأراضي المحتلة سنة 1948 (المَرْكَز) نحو الأراضي المحتلّة سنة 1967 (المُحيط)، تجسيدًا لحالة التّبَعِيّة، وما تقتضيه من تعديلات أو “إصلاحات هيكلية” لاقتصاد الضفة الغربية وغزة، لتلبية احتياجيات السوق الصهيونية، ما يُعيق أي تطوير للقاعدة الإنتاجية الفلسطينية، لكي تبقى الضفة وغزة سوقًا مفتوحة لبضائع العدو، وزادت التّبعية بعد أوسلو، حيث اندثرت الصناعات المحلية (الملابس والأحذية والمشروبات الغازية والأثاث والبناء والأغذية والأدوية وغيرها…)، وأصبح التّجار (المُقرّبُون من رُمُوز سلطة أُوسلو) يستوردون ما كانت تُنتجه هذه الصناعة، من التجار الصهاينة، ليرتفع العجز التجاري الفلسطيني مع الأراضي المحتلة سنة 1948 إلى حوالي 5,5 مليارات دولارا، سنة 2019، بالتزامن مع زيادة اعتمادَ الفلسطينيين على البضائع وسوق العمل الصهيونية، وتفسرُ أيضًا كيف أصبحت تجارةُ البضائع، ولا سيما الإسرائيلية، النشاطَ الاقتصادي الرئيسي في الضفة الغربية وغزة. ويُعزى بعض السبب في ذلك إلى تدفُّقِ دخل العاملين داخل “الخط الأخضر” (وهو أقل من رواتب الصهاينة لكنه أعلى من رواتب الضفة الغربية وغزة) وتدفُّقِ التحويلات المالية مِمّن تَبَقّى من الفلسطينيين العاملين بالخليج (طُرِدَ مُعظَمُهُم خلال العُدْوان الأمريكي/الأوروبي/العربي على العراق، سنة 1991)، كما يُعْزَى إلى ضعف القطاعات الإنتاجية، والصناعات التّحويلية الفلسطينية التي عرقلت سُلُطاتُ الإحتلال عملَها، خصوصًا تلك التي كانت قادرة على منافسة الشركات الصهيونية…
بعد انتفاضة 1987، وبعد اتفاقيات أوسلو (1993) وباريس (1994)، جَنى المُقرّبون من السّلطة، من تُجّار وأصحاب مُنشآت ورؤساء الغرف التجارية في المدن الفلسطينية ثروات من الإستثمار في قطاعات الخدمات والتمويل والاستيراد، ومن تمثيل علامات تجارية صهيونية، يسوِّقون إنتاجها في الضفة الغربية وغزة، وزاد ارتباط مصالح هؤلاء الكُمْبرادور باقتصاد الإحتلال، ما عَرْقَلَ تنميةَ القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، وما عَزّز تجارة السلع الصهيونية “المستوردة”، ضمن “الإتحاد الجمركي” الذي وَرَدَ في “بروتوكول باريس” (1994)، وبشكل عام “تم خنق القطاع الزراعي الفلسطيني عبر مصادرة الموارد (الأرض والمياه)، وعبر التّضْيِيق على قطاع الصناعة التحويلية، ما يُقوِّض أي أَملٍ في تنمية الاقتصاد الفلسطيني”، بحسب تقارير دورية ينشُرُها البنك العالمي، منذ 2010، كما قَدّر البنك العالمي أن نحو 72% من “المُساعدات الدّولية للتنمية” (36,2 مليار دولارا بين 1993 و 2017) المُوجّهة “لتنمية الإقتصاد الفلسطيني” (بإشراف الولايات المتحدة والبنك العالمي)، دعْمًا لاتفاقيات أوسلو، “ينتهي بها المَطاف في الإقتصاد الإسرائيلي”، وفْقَ موقع البنك العالمي – حزيران/يونيو 2019…
يُمَوِّلُ الإتحاد الأوروبي جُزْءًا هامًّا من إنفاق السّلطة الفلسطينية (خصوصًا على الجهاز البيروقراطي والأمني الضّخم)، وهو في نفس الوقت أكبر داعم اقتصادي وأكبر شريك تجاري للكيان الصهيوني الذي تتوجّه نحو 40% من إجمالي صادراته نحو الإتحاد الأوروبي، وتُقَدّرُ قيمتها بنحو 37 مليار دولارا سنويا، ويدعم الإتحاد الأوروبي الجامعات ومراكز البحوث والدّراسات الصهيونية، وجميعُها مُتعاونة مع جيش الإحتلال، وتُجَرِّم بعض الدّول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وهولندا…) الدّعوات السِّلْمِيّة لمقاطعة الكيان الصهيوني، ما يجعل دعم الإتحاد الأوروبي للفلسطينيين مشبوهًا ومَسْمُومًا…
التطبيع الإقتصادي، بوابة الهيمنة الصهيونية:
نشر موقع صحيفة “ذي إيكونوميست” في آذار/مارس 2017 ملفًّا عن العلاقة بين “السلام الإقتصادي والتطبيع”، يُركّزُ على سلب الموارد الطبيعية الفلسطينية، منذ عدوان 1967، وعلى منع الفلسطينيين من الاستفادة من احتياطاتهم النفطية والغازية، ما يضطرّهم إلى الإعتماد على الإحتلال في تلبية احتياجاتهم من الطاقة، وما يُعَزِّزُ العلاقات غير المتكافئة بين المُسْتَعْمِرِ والمُسْتَعْمَرِ، مع الإشارة أن مجمل وسائل الإعلام والقوى السياسية الأجنبية تعتبر الكيان الصهيوني دولة شرعية، وبالتالي فإن ثروات فلسطين مِلْكٌ “شرعي” لدولة الإحتلال الصهيوني، وعندما يتم الحديث عن “الإحتلال”، فإن ذلك لا يعني سوى الضفة الغربية وغزة، ويُقسِّمُ معظمهم المستوطنات إلى “شرعية” و “غير شرعية”، ما يُوجِبُ الحيطة عند الإطلاع على ما تكتب وسائل الإعلام، والمنظمات “غير الحكومية”، وحتى جمعيات “التّضامن” مع الفلسطينيين…
ساعدت الشركات الأمريكية الكيان الصهيوني على التنقيب عن المحروقات (الغاز بشكل أساسي) في سواحل فلسطين، منذ سنة 2009، وتَطَوَّرَ الأمر إلى إنشاء حلف بين منتجي الغاز في البحر الأبيض المتوسط، يضُمُّ الصهاينة ومصر واليونان وقبرص، وربما تركيا الأطلسية لاحقًا، بفعل هيمنتها على شمال قبرص منذ 1974 وبعد تمديد حدودها البحرية إلى ليبيا والمغرب العربي.
تسارعت برامج الهيمنة وطموحات الكيان الصهيوني الذي تَحَوّل، خلال فترة قصيرة، من مُستورد للغاز المَصْرِي، إلى مُصَدِّر للغاز نحو مصر والأردن، وبيع الغاز إلى أصحاب الأرض الشرعيين (الشعب الفلسطيني) بتمويل أوروبي، ليُمَوِّلَ العرب احتلال فلسطين، فضلاً عن تصدير الغاز، في المُستقبل القريب نحو جنوب أوروبا، لمنافسة الغاز الروسي والجزائري، وربما تصدير الغاز إلى تركيا، ليصبح الإحتلال قوة إقليمية مُهيمنة عسكريا واقتصاديا، بالتنسيق مع دول عربية وغير عربية.
تزامن اكتشاف الغاز بكميات هامة في عرض سواحل فلسطين المحتلة مع عودة العلاقات الإفريقية الصهيونية، ومع تعزيز الصين وروسيا علاقاتهما بالكيان الصهيوني، وكذلك الأنظمة العربية، بل والتّحالف بين أنظمة صهاينة العرب بالخليج مع الكيان الصهيوني ضد النظام الإيراني، وضد الشُّعُوب العربية بفلسطين وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، تمهيدًا للتطبيع الشّامل تحت غطاء “السّلام الإقتصادي”، أو “التّكامل الإقتصادي الإقليمي”، وهيمنة الإقتصاد الصهيوني على المشرق العربي، بفعل التّقدّم التكنولوجي والتّفوق العسكري، بدعم امبريالي، أمريكي وأوروبي بشكل أساسي، تطبيقًا لأُطْرُوحة (أمريكية وأوروبية) تُنادي باحتواء النضال الوطني الفلسطيني، من خلال تحسين الوضع الإقتصادي، وجعل الشعب الفلسطيني مُرتهنًا لمُحْتَلِّي وطَنِهِ، وتحقيق “السّلام الإقتصادي” مع أنظمة البُلدان المُجاورة لفلسطين، والإلتفاف على المطالب التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية، بذريعة “وضع حد للمعاناة الإنسانية في غزة”.
عودة إلى الأُصُول والثَّوابت:
ادّعت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية (أساسًا قيادات حركة “فتح” ) عند توقيع مُفاهمات أوسلو وباريس، أن التعاون مع الإحتلال، بدل مُقاومَتِهِ، سوف يجلب الرخاء للشعب الفلسطيني، لكن دُرُوس التاريخ البشري تُفيد باستحالة الحصول على تنازلات من العَدُوّ دون مُقاومة، ودون تكبيده أفْدَحَ الخسائر لِيَخْتارَ “أخَفَّ الضّرَرَيْن”، أو لانتفاء الخيارات أمامه.
قُدِّرَتْ قيمةُ الناتج المحلي الإجمالي لأراضي الضفة الغربية وغزة، سنة 2016، بأقل من 13,4 مليار دولارا، أو حوالي 4,2% من الناتج المحلي الإجمالي الصّهيوني، فيما لا تتجاوز قيمة الدّخل الفردي السنوي في الضفة الغربية ثُلُثَ الدخل الفردي للمُستوطن الصّهيوني، ما يجعل “بروتوكول باريس” قائمًا على أُسُسٍ خاربة فهو لا يُراعي هذه الفجوة الضخمة، ولا يأخذها في الاعتبار، ما زاد من تعميق الهُوَّة بين اقتصاد المُستعمَرِ والمُسْتَعْمِر، وما زاد من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لأن بُنُود البروتوكول لم تكن مُصَمَّمَة وفقًا لاحتياجاته، بل لاحتياجات الإقتصاد الصّهيوني، وتتمتّع سُلُطات الإحتلال بالقُدْرَة على فرض قيود على حركة البضائع، ما أَغْرَق الأراضي المُحتلّة سنة 1967، ذات الأغلبية الفلسطينية، بالبضائع القادمة من الأراضي المُحتلّة سنة 1948، ومن المُستوطنات، ومنذ سنة 1997، عزل الإحتلال قطاع غزة عن الضفة الغربية، ما زاد من القُيُود على حركة البضائع داخل الأراضي المشمولة باتفاقيات أوسلو وباريس، قبل أن يتم إحْكام الحِصار على قطاع غزة، وتعطيل الحركة داخل الضفة الغربية نفسها، من خلال الحواجز الثابتة والمُتَنقلة، ما أدّى إلى زيادة التفتيت وزيادة تبعية وارتباط الضفة الغربية وغزة بالسّلع الصهيونية، حيث تستوعب السوق الصهيونية ( سنة 2016) نحو 85% من الصادرات الفلسطينية وتستأثر بأكثر من 70% من الواردات الفلسطينية، بينما لا تمثل الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، سوى 3% من إجمالي التجارة الصّهيونية، وفقًا لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد- 2016 )، ويقوم الكيان الصهيوني بتحصيل الرسوم الجمركية والضرائب غير المباشرة وغيرها من الإيرادات التي يستخدمها كوسيلة ضغْط على سلطة أوسلو، من خلال القُدْرَة على احتجاز هذه المبالغ، واقتطاع أجزاء منها بذرائع مختلفة، ويقول الرفيق عادل سمارة (رام الله) الذي دَرَسَ موضوع “التنمية بالحماية الشعبية”، انطلاقًا من تجربة الإنتفاضة (1987 – 1990)، ما معناه: لا يُمْكن للضعيف التّابع أن يَجْنِيَ فائدةً من علاقته الدُّونية بالقَوِي المَتْبُوع، بدون مُقاومة يضْطَرُّ إثرها المُحْتَلّ إلى التّفاوُض والتنازل، وفي الحالة الفلسطينية، كرست مُفاهمات أوسلو وباريس العلاقات غير المُتَكافِئَة بين الإقتصاد الصّهيوني القَوِي والإقتصاد الفلسطيني الضّعِيف، والخاضع لإرادة الإحتلال.
من جهة أخرى، لا يزال الإحتلال يُسيطر بشكل مُطْلَق على “المنطقة ج”، أو ما يُعادل 62% من أراضي الضّفّة الغربية، وتضم الأراضي الخصبة والمناطق الإستراتيجية، وتسارعت وتيرة مُصادرة الأراضي، في “الأغوار” (على ضفة نهر الأردن) وفي مناطق نابلس والخليل وغيرها، وارتفع عدد المُسْتعْمِرِين المُسْتوطِنِين في الضفة الغربية، من أقل من مائة ألف، قبل مُحادثات أوسلو إلى قرابة ستمائة ألف حاليا، في الأراضي المُحتلّة سنة 1967، وما يجري في القُدْس من حصار ومُصادرة وتهجير وهدم، سوى صورة مُصغّرة ومُكثّفة عمّا جرى ويجري في فلسطين، منذ حوالي 75 سنة.
يتلخص الأمر في ميزان القوى الذي ما انفكَّ يزدادُ مَيْلاً لصالح الإحتلال، بحُكْم دَوْرِ العمالة الذي تَقَمّصَتْهُ الأنظمة العربية، وما سُلْطة الحكم الإداري الذّاتي سوى جزء منها، والذي لا يَخْدِم لا المصالح الآنية ولا المصالح الإستراتيجية الفلسطينية، بل المصالح الصهيونية، بشكل ما فَتِئَ يزداد وُضُوحًا، ما يسمح بتعزيز سيطرة الإحتلال على الأراضي والسُّوق الفلسطينية، من النّهر إلى البحر، بدعم امبريالي وكُمْبْرادُوري عربي…
قَدّرت دراسة نَشَرتها “أونكتاد” (الأمم المتحدة) سنة 2014 خسارة الاقتصاد الفلسطيني، جَرّاء شراء البضائع الصهيونية، أو الإضطرار لتصدير إنتاج الضفة الغربية عبر الجمارك الصهيونية، بأكثر من 310 مليون دولارا، سنة 2011، أو ما يُعادل 17% من إجمالي الإيرادات الضريبية، ويُمثل ذلك خسارة أربع نقاط من الناتج المحلي الإجمالي وفقدان ما يُقارب عشرة آلاف وظيفة سنويًّا، كما خسر اقتصاد الضفة الغربية نحو ثمانين مليون دولارا سنويًّا، جرّاء فرض المصرف المركزي الصهيوني التعامل بالشيكل، وعدم صَرْف النّسبة العائدة إلى سلطة الحكم الإداراي الذّاتي، والتي نصَّ عليها “بروتوكول باريس”، وإجمالاً، أدّى تطبيق اتفاقيات أوسلو وباريس (في جانبهما الإقتصادي) إلى تفشِّي البطالة في الضفة الغربية (أما عن غزّة فحدّث ولا حَرَج) وشُحّ فُرص العمل، وإلى انخفاض الدّخل الفردي السّنوي، مقابل ظُهُور فئة من المُسْتَكْرِشِين الفلسطينيين، كان مُعظمهم بتونس (أو غيرها) أثناء انتفاضة 1987 التي استغلتها قيادات منظمة التحرير (أي فتح) لتفاوض العَدُو، على جماجم الشُّهَداء، ووراء ظُهُور المُصابين والمُعْتَقَلِين وذويهم، وتدّعي هذه القيادات الإنتهازية إقامة دُوَيْلَة، بإشراف المُحْتَل، ودُون تحرير شِبْرٍ واحدٍ من أرض الوطن، ولا تملك من مُقومات الدّولة سوى جهاز أمني ضخم، درّبت وسلّحت الإستخبارات الأمريكية عناصره، ليُتْقِنُوا فُنون قمْع الفلسطينيين، والتّجسُّس عليهم وتنفيذ المُداهمات والإعتقال “الوِقائي”، ضد كل من يعتزم مقاومة الإحتلال، قبل الشُّرُوع في المُقاومة !!!
لذلك، في المجال الإقتصادي، لا يُمْكِن تحسين شُرُوط التبادل التجاري، أو تعديل شُرُوط العلاقات غير المُتكافئة التي خلقها بروتوكول باريس، بل يكمن جوهر القضية في تحديد ماهية المَرحلة الحالية، باعتبارها مرحلة تحرّر وطني، وليست مرحلة بناء دُوَيْلَة وإجراء انتخابات تحت الإحتلال، فالنضال الفلسطيني نِضالٌ تَحَرُّرِي ضد الإستعمار الإستيطاني، يستوجب مقاومة الإحتلال برمّته، من قِبَل كافة الفِآت المُتَضَرِّرَة من الشعب الفلسطيني، في فلسطين وفي مخيمات اللُّجوء وفي الشّتات، وليس مُحاربة جانب من سياسات الإحتلال وإهمال الجوانب الأخرى، لأن الإحتلال مُستمر في مُصادرة الأراضي، وتهجير السّكّان، وفي تخريب قطاعات الزراعة والصناعة التّحويلية والتجارة، ويمكن تفعيل مقاطعة البضائع الصهيونية وحماية المنتجات الفلسطينية، بهدف تشجيع الإنتاج المحلي، ضمن برنامج تحرُّر وطني، وإطار سياسي ورؤية استراتيجية، تهدف التّحرير الكامل، وليس تقاسم الوطن مع المُحتلِّين، وعدم تكرار أخطاء بعض حركات التحرر مثل “المؤتمر الوطني الإفريقي” الذي أبقَى على سيطرة المُسْتَوْطِنين البيض على الثروة والإقتصاد بجنوب إفريقيا…
على المُسْتوى العالمي، كان توقيع “إعلان المبادئ” (أوسلو) والتّرويج له من قِبَل قيادات منظمة التحرير، وكذلك من قِبَل الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية والأوروبية، فُرْصَةً لإعادة أو توطيد العلاقات الدبلوماسية والسياسية والإقتصادية، بين الكيان الصهيوني ومعظم الدّول الإفريقية والآسيوية والأمريكية (أمريكا الجنوبية ومنطقة بحر الكاريبي) وغيرها، وتبريرًا لخيانات النظام المصري وغيره، كما تذرّعت الصّين باتفاقيات أوسلو لتوطيد العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكانت تلك الإتفاقيات المشؤومة مُقدّمة لتعميم التّطبيع الرّسمي العربي، من الرباط إلى المنامة وأربيل، وبذلك فقد الشعب الفلسطيني السّند العالمي…
التعليقات مغلقة.