وجه آخر للصراع العالمي: حديدٌ عتيقٌ لكونٍ جديد / د. ابراهيم علوش

د. ابراهيم علوش – الأربعاء 6/4/2022 م …




البلاديوم هو أحد الأسباب التي أدت إلى ألاّ تكون العقوبات على روسيا شاملة وكاملة، وهو معدن أندر من الذهب في كوكبنا.

تُبرِز الحروب في وسائل الإعلام فجأةً أسماءَ مناطقَ ومدنٍ قصيةٍ لم يسمع بها معظمنا من قبلُ. كذلك، سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على أحد أهم الجوانب المُغفَلة في الطبقات القاعدية للاقتصاد العالمي: مدى اعتماده على المستوردات السلعية من روسيا.

غصت التقارير والمقالات العربية والدولية عن الأزمة الأوكرانية، منذ فرض العقوبات على روسيا، بإحصاءاتٍ عن نِسَب اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسيين، ونِسَب اعتماد العالم قاطبةً على القمح والزيوت النباتية الروسية (والأوكرانية)، وفي بعض الأحيان، مدى اعتماد كثير من عمليات التصنيع على المعادن المستورَدة من روسيا.

أزمة أوكرانيا وأزمة معدن البالاديوم الثمين

لعل أهم معدن مستورَد من روسيا هو البالاديوم، وهو معدنٌ فضي اللون، ويُعَدّ أحد معادن البلاتين الستة، ويُستخدم في كثيرٍ من الصناعات، من الإلكترونيات والحواسيب، إلى حشوات الأسنان والمجوهرات وعملية تنقية الهيدروجين، إلى محركات السيارات وغيرها. وصدّرت روسيا، على سبيل المثال، 43% من المجموع العالمي لصادرات معدن البالاديوم عام 2021، بحسب تقديرات موقع GlobalData. وكانت روسيا أكبر منتج للبالاديوم عام 2020، بمقدار 91 طناً منه (وعائد مقداره 6.4 مليارات دولار)، وثاني أكبر منتج له عام 2021، بمقدار 74 طناً، بينما كان إنتاج جنوب أفريقيا 80 طناً في العام الفائت.

المشكلة أن البالاديوم في كوكبنا أندر من الذهب، لذلك بلغ سعر الأونصة الواحدة منه، في 2/4/2022، نحو 2277 دولاراً (كان سعر أونصة الذهب يومها 1925 دولاراً). ووصل سعر البلاديوم في آذار/مارس الفائت إلى نحو 3440 دولاراً للأونصة الواحدة، على الرغم من أن الغرب لم يفرض عقوبات عليه، وعلى مجموعة البلاتين عموماً. وإنما نبع خوف الأسواق من اضطراب تدفقاته نتيجة العقوبات على روسيا عموماً.

يُذكَر أن السيارات الكبيرة، تستخدم الواحدة منها ما يتراوح بين 6 و30 غراماً من البلاديوم، بينما يحتوي كلٌ من اللابتوب أو الهاتف المحمول على شذرة من غرام بلاديوم واحد لكلٍ منهما. وشهد سعر البلاديوم ارتفاعات كبيرة قبل الأزمة الأوكرانية، منذ ربيع عام 2021، مع ازدياد الطلب عليه للسيارات أولاً، ويستخدم فيها لتحويل الغازات السامة المنبعثة منها إلى ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء الأقل ضرراً على البيئة، ومع غرق مناجم البلاديوم في القطب الشمالي بسبب ارتفاع حرارة الكوكب، وهو ما خفض الإنتاج الروسي منه. والبلاديوم هو أحد الأسباب التي أدت إلى ألاّ تكون العقوبات على روسيا شاملة وكاملة. ويزيد الطلب العالمي على المعدن الثمين على المعروض منه منذ عام 2012 على الأقل.

هل يستطيع الغرب والاقتصاد العالمي العيش من دون الصادرات الروسية؟

ليس البالاديوم السبب الوحيد في تردد الغرب في فرض حظر شامل على المنتوجات الروسية، حتى لو وضعنا النفط والغاز والفحم الروسي جانباً، إذ يضاف إلى ذلك أن روسيا من أكبر ثلاثة منتجين للماس والذهب في العالم، وأنها منتجٌ رئيسي للفحم المعدني (يُستخدم في إنتاج الكهرباء) والحديد الخام والألمنيوم. وبلغت قيمة صادراتها من الماس والمعادن الثمينة (ومنها البلاديوم والذهب) 31.6 مليار دولار عام 2021. وبلغت قيمة صادراتها من الحديد الخام والمصنّع نحو 29 مليار دولار للعام ذاته، وقيمة صادراتها من الأسمدة الزراعية وحدها 12.5 مليار دولار، وصادراتها من الأخشاب ومنتوجاتها 11.7 مليار دولار، ومن الآلات (ومنها أجهزة الحاسوب) 10.7 مليارات دولار، ومن الحبوب أكثر من 9 مليارات دولار، ومن الألمنيوم 8.8 مليارات دولار، ومن الخامات (Ores, slag, ash) 7.4 مليارات دولار، ومن البلاستيكيات 6.2 مليارات دولار، خلال عام 2021، بحسب موقع worldtopexports.

أما التوزيع الجغرافي للصادرات الروسية (ومنها النفط والغاز والفحم) فكان أوراسياً بامتياز، أي أنه تَرَكَّزَ على أوروبا وآسيا، إذ تذهب نحو 51% منها إلى أوروبا، ونحو 40% إلى آسيا، لتتوزع الـ 9% الباقية على سائر القارات: 3% إلى أميركا الشمالية (وهناك مرجع آخر يضع الصادرات الروسية إلى الولايات المتحدة الأميركية وحدها عند 3.6% من المجموع عام 2021)، وأقل من 2% إلى أميركا الجنوبية، و3% إلى أفريقيا.

من البديهي أن تجربة العقوبات على روسيا ستدفعها إلى زيادة تجارتها مع آسيا وغيرها، وتخفيضها مع أوروبا وشمال أميركا، حتى لو انتهت أزمة أوكرانيا غداً، ولاسيما مع تعليق عشرات الشركات الغربية أعمالها في روسيا. لكنْ، هل يستطيع الغرب، والاقتصاد العالمي، الاستغناء عن الصادرات الروسية حقاً؟

تترسَّخ صورة غلبة التوجه الأوراسي للصادرات الروسية، إذا أخذناها بحسب الدولة. وتشير إحصاءات عام 2021 إلى أن أكبر 20 سوقاً للصادرات الروسية بالدولارات الأميركية كانت، بالتوالي، في: الصين (68 ملياراً)، هولندا (أكثر من 42 ملياراً)، ألمانيا (نحو 30 ملياراً)، تركيا (26.5 ملياراً)، روسيا البيضاء (22.8 ملياراً)، المملكة المتحدة (22.3 ملياراً)، إيطاليا (19.3 ملياراً)، كازاخستان (18.5 ملياراً)، الولايات المتحدة الأميركية (17.7 ملياراً)، كوريا الجنوبية (نحو 17 ملياراً)، بولندا (16.7 ملياراً)، اليابان (10.7 مليارات)، فرنسا (نحو 10 مليارات)، فنلندا (9.7 مليارات)، الهند (9.1 مليارات)، بلجيكا (8.7 مليارات)، أوكرانيا (8.1 مليارات)، البرازيل (5.3 مليارات)، أوزبكستان (5.2 مليارات)، سلوفاكيا والإمارات العربية المتحدة (5.1 مليارات لكلّ منهما، في المرتبة الـ20 والـ21، على التوالي).

وتتربع الصين على عرش تلك القائمة طبعاً، وتشير التوقعات إلى تزايد التبادل التجاري (أي مجموع الصادرات زائداً الواردات) بين روسيا والصين خلال الأعوام المقبلة، إذ بلغ نحو 147 مليار دولار بينهما عام 2021، بحسب بيانات الجمارك الصينية. وهناك توجهٌ رسميّ صيني – روسي إلى زيادة التبادل بينهما إلى 200 مليار، أو حتى إلى 250 مليار دولار مع مجيء عام 2024، وهذا لا يزال أقل كثيراً من التبادل التجاري الصيني – الأميركي، أو الصيني – الأوروبي، لكنه الاتجاه الصاعد في التجارة (والسياسة) الدولية.

الميزة النسبية لروسيا في كثير من السلع عالمياً

إن صعوبة خنق الصادرات الروسية لا تتعلق، فحسب، بقيمتها الدولارية، أو حجمها الكبير، أو تنوعها، أو حتى بنوعيتها الخاصة، كما في حالة المعادن النادرة، بل برخص ثمنها أيضاً مقارنةً بغيرها من المصادر، وبقربها الجغرافي من البلدان المستوردة، الأمر الذي يخفض تكلفة شحنها، وخصوصاً في المحيط الأوراسي.

وتشير دراسة منهجية موثَّقة ومنشورة في 29/3/2022، في موقع Mining Technology، بعنوان: “هل تستطيع البلدان المعتمدة على التجارة مع روسيا البحث في مكانٍ آخر؟”، إلى أن روسيا تتمتع بميزة نسبية في إنتاج عددٍ من المواد الأساسية للاقتصاد العالمي (الميزة النسبية تعني إمكان الإنتاج بتكلفة أقل مقارنةً بالمنتِجين الآخرين). ومن هذه المواد، من الميزة النسبية الأعلى إلى الأدنى عند روسيا: النيكل ومنتوجاته، الأسمدة الزراعية، النفط والغاز والفحم ومشتقاتها، الحبوب، الأخشاب ومنتوجاتها، الحديد والصلب، المعادن، اللؤلؤ الطبيعي والمستنبت، الأسماك والقشريات، الزيوت النباتية والحيوانية، النحاس ومنتوجاته، المتفجرات، الألمنيوم ومنتوجاته، معدن الرصاص ومنتوجاته، الكيميائيات غير العضوية، الملح، وأخيراً، سكك الحديد والمقطورات.

فلنأخذ الحديد الخام مثلاً، والذي صدّرت منه روسيا نحو 30% من المجموع العالمي، بعائد مقداره 1.3 مليار دولار، كما صدّرت نحو 23% من المجموع العالمي من الحديد والصلب، بعائد مقداره نحو 5 مليارات دولار، وصدرت أكثر من 22% من خامة النيكل والنيكل المصنّع بعائد مقداره 3 مليارات من الدولارات، و 18.6% من الزيوت النباتية في العالم بعائد مقداره 2.5 مليار دولار، و 17.7% من القمح وخليط القمح والشعير، meslin، بعائد مقداره نحو 8 مليارات دولار (منها 2 مليار دولار من مصر، و2 مليار دولار من تركيا، عام 2020).

ومَن لفَتَه وضع السمك والقشريات في قائمة المنتوجات التي تتمتع فيها روسيا بميزة نسبية، فإننا نشير إلى أن روسيا باعت الصين مليار دولار من السمك، و666 مليون دولار منه لكوريا الجنوبية، عام 2020. ومن البديهي أن كوريا شبه جزيرة، والصين لها شواطئ طويلة على عدة محيطات وبحار، وإنما العبرة بانخفاض التكلفة، والصين صدّرت 12% من الأسماك عالمياً عام 2020، في أيّ حال.

تُعَدّ الصين من أكثر الدول اعتماداً على الصادرات الروسية، ولاسيما نوعيات محددة، منها بذار دوار الشمس والفحم والنفط والخشب والسمك وغيرها. لكن، حتى الولايات المتحدة الأميركية تستورد بلاتين (بقيمة 2 مليار دولار عام 2020)، وخامات حديد (بقيمة 417 مليون دولار عام 2020)، من روسيا، وهو أكثر مما تستورده من أي بلد آخر من هاتين المادتين. وتعتمد تركيا كذلك على خامات الحديد الروسية وبذار دوار الشمس والقمح الروسي، إلى حد كبير.

في الإجمال، هناك 31 بلداً يُعد كلٌّ منها أحد أكبر ثلاثة مشترين لصادرات روسية تتمتع بميزة نسبية عالمياً. ولن نتحدث هنا عن شدة اعتماد ألمانيا وإيطاليا على الغاز الروسي، ولا عن دولٍ، مثل بلغاريا وفنلندا ولاتفيا، ولا عن شراء أوروبا 42% من النفط الروسي المصدَّر، واعتماد بعض الدول الأوروبية الشرقية عليه بدرجة أكبر، ولا عن مسارعة الهند إلى شراء 6 ملايين برميل من النفط الروسي بأسعار تفضيلية، بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية. ولن تتوانى الصين عن اللحاق بركب الهند بكل تأكيد.

لماذا يواجه الغرب صعوبةً في خنق الصادرات الروسية؟

نظرياً، ثمة دولٌ أخرى تمتلك مزايا نسبية أيضاً في بعض المنتوجات التي تصدّرها روسيا: الولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا، بالنسبة إلى القمح؛ أوكرانيا، بالنسبة إلى بذار دوار الشمس (40% من الصادرات العالمية من زيتها)؛ ألمانيا ثم روسيا البيضاء، بالنسبة إلى قاطرات السكك؛ كندا والنرويج، بالنسبة إلى النيكل المصنَّع؛ زيمبابوي وكندا، بالنسبة إلى النيكل الخام؛ البرازيل ثم أوكرانيا، بالنسبة إلى خامة الحديد؛ أوكرانيا ثم البرازيل، بالنسبة إلى الحديد المصنَّع؛ أستراليا وإندونيسيا، بالنسبة إلى الفحم؛ الإمارات ثم الولايات المتحدة وكندا، بالنسبة إلى الحديد الخام؛ كندا وروسيا البيضاء، بالنسبة إلى أحد أنواع الأسمدة؛ الصين والمغرب، بالنسبة إلى نوع آخر من الأسمدة؛ المغرب والأردن بالنسبة إلى نوع ثالث من الأسمدة الزراعية؛ المملكة المتحدة وجنوب أفريقيا بالنسبة إلى البلاتين؛ كندا والسويد (حيث تأسست IKEA) بالنسبة إلى الأخشاب؛ الصين وتشيلي، بالنسبة إلى الأسماك؛ كندا والهند، بالنسبة إلى أسلاك الألمنيوم؛ أخيراً، الولايات المتحدة الأميركية والإمارات، بالنسبة إلى المشتقات النفطية.

بيد أن ما سبق لا يعني بالضرورة أن كل تلك البلدان لديها الاستعداد والقدرة على زيادة إنتاجها للتعويض عن نقص المعروض الروسي بسبب العقوبات، أو رد روسيا عليها. وعلى صعيد الاستعداد، هناك منتجون يستفيدون من ارتفاع أسعار صادراتهم جراء نقص المعروض الروسي، مثل الإمارات والسعودية، بالنسبة إلى النفط والغاز. وهناك منتجون لهم مصلحة سياسية في زعزعة هيمنة القطب الواحد موضوعياً، مثل الدول المنضوية في البريكس، مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وعلى صعيد القدرة، هناك دول تفتقد الطاقة الإنتاجية لتعويض الفاقد الروسي في الأسواق العالمية، حتى لو أرادت. وأعلنت الجزائر مثلاً أنها لا تستطيع حالياً تعويض الفاقد الروسي. كذلك، ظهر أن الولايات المتحدة ذاتها غير قادرة على تعويضه، على الأقل في المديين القصير والمتوسط، بسبب مشاكل لوجستية أساساً، مثل عدم توافر مرافق أوروبية كافية للغاز المُسال، وعدم وجود شبكة أنابيب نفط وغاز كتلك الموجودة بين روسيا وأوروبا.

بشأن “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”

إن التحليل السياسي للشأن الراهن، على الرغم من أهميته، ليس الجانب الأهم فيما ورد أعلاه، بل الحقيقة الاقتصادية السياسية التي يكشفها اعتماد الغرب والاقتصاد العالمي على الصادرات الروسية (والصينية، والبرازيلية، والهندية إلى حدّ أقل). فالاقتصادات الصاعدة كوّنت بنى إنتاجية، صناعية وزراعية وتجارية وعلمية وتكنولوجية، ذات سوية عالية، بينما المنظومة المالية الدولية يحكمها رأس المال المالي، أي المصارف وبيوت الاستثمار والكتل المالية والدولار. وانفجر هذا الصراع بين الاقتصادين الحقيقي والنقدي على نحو مفتوح في أوكرانيا، لكن أوكرانيا هي محركه أو سببه المباشر فحسب، لا جوهره.

إن جوهر الصراع بين الاقتصادات الصاعدة، المتمثلة بالبريكس أساساً، وبين منظومة العولمة المالية التي يسيطر عليها الغرب وحلفاؤه (مثل اليابان)، هو حالة نموذجية تدل على صعود قوى إنتاجية كبيرة، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، تستند إلى اقتصاد قومي، على هامش منظومة العولمة، وإن بالاشتباك معها، وبين مؤسسات وبنية قانونية ولوجستية، أي مؤسسة علاقات اقتصادية دولية، يسيطر عليها رأس المال المالي الدولي، من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مثلاً، أو منظومة “سويفت”، أو الدولار ذاته، أو المنظومة المصرفية وغير المصرفية الدولية.

حتى وسائل الإعلام والتواصل العالمية، ما زالت 9 من أكبر 10 منها، أميركية، ما عدا شركة صينية واحدة في المرتبة الرابعة عالمياً. أمّا شركات مثل “ألفابت”، التي تملك محرك بحث غوغل وغيره، وقيمتها السوقية 1.82 ترليون دولار، ومثل “ميتا”، التي تملك فيسبوك وإنستغرام وغيرهما، وقيمتها السوقية نحو ترليون دولار، وشركة “والت ديزني”، التي تملك استديوهات أفلام عملاقة في هوليود وشبكة قنوات ABC وغيرها، وشركة “نتفلكس”، وشركة “كومكاست”، وغيرها من الشركات الأميركية التي تبلغ القيمة السوقية للواحدة منها بضع مئات من مليارات الدولارات فحسب، فهي التي باتت تشكل الوعي والثقافة عالمياً، لا اتجاهات الرأي العام العالمي السياسية الراهنة فحسب.

المعركة على الصعيدين الإعلامي والثقافي، في الفضاءين الحقيقي والافتراضي، ما زلنا فيها، كدعاة عالم متعدد الأقطاب، وكمناهضين لليبرالية، في مواقع دفاعية صعبة، على عكس ميزان القوى، اقتصادياً وسياسياً، بين القوى الصاعدة دولياً وإقليمياً، والذي انتقل من حالة هيمنة غربية إلى شبه توازن. والحذر الحذر من التسرع في القول إن الغرب أفل وانتهى ولم يعد له من الأمر شيء، لأن ذلك خداعٌ مدمرٌ للذات، في وقتٍ ما برحت تنتظرنا معارك كبرى.

إن فهم الإمبريالية، مثل فهم أي ظاهرة، غير ممكن من دون الاطلاع على أهم المراجع بشأنها. ولا يمكن فهم الاقتصاد الرأسمالي المعولم من دون العودة إلى الفكر النيوليبرالي المعولم. وكذلك، لا يمكن فهم نقد الرأسمالية المعولمة منهجياً من دون العودة إلى أمهات مراجع ذلك النقد، ومنها كتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” (1917)، سواء كان المرء قومياً أو إسلامياً، أو لا هذا ولا ذاك، إن أراد أن يفهم الظاهرة.

إن البيئة التي صدر فيها كتاب “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” كانت بيئةً خصبة نظرياً في تحليل ظاهرة الإمبريالية علمياً، فلقد سبقه كتاب رودلف هِلفَردينغ (Hilferding) “رأس المال المالي” (1910)، وكتاب روزا لكسمبورغ “تراكم رأس المال: مساهمة في التفسير الاقتصادي للإمبريالية” (1913)، وكتاب نيقولاي بوخارين “الإمبريالية والاقتصاد العالمي” (1915). وكان هلفردينغ هو الذي بلور مفهوم سيطرة المصارف على الصناعة والإنتاج، وسيطرة الاحتكارات على القطاعات المنتِجة، واتحاد تلك الاحتكارات في الدولة على شكل “رأسمالية دولة”. وكانت روزا لكسمبورغ هي التي بلورت مفهوم “المنافذ” الاستثمارية عبر الحدود، كمخرج من أزمة الرأسمالية.

عندما ندعو إلى العودة إلى المراجع، فإن ذلك لا يعني تقبُّل كل ما فيها جملةً وتفصيلاً، إذ إن فكرة سيطرة الاحتكارات على القطاعات المنتجة ورأس المال المالي ذاته، الذي يملك مثل تلك الاحتكارات أو يسيطر عليها، أنها قد تكون ضارة بالإنتاجية والتنافسية. لذلك، كثيراً ما يقوم هو بتفكيكها، أو بتحويل قسم من عملياتها الإنتاجية إلى شركات أصغر خارجها outsourcing، لأن المهم هو تعظيم أرباح الجهات المالكة، أي تعظيم احتكارات مالكي رأس المال المالي، لا المحافظة على الاحتكارات في القطاعات المنتجِة كهيكلٍ بائدٍ ربما يصبح عائقاً في حد ذاته أمام تعظيم الربح. ويمكن إيجاد كثير من الأبحاث الغربية بشأن هذا في مجال علم التنظيم الصناعي Industrial Organization، وفي أدبيات قوانين مكافحة الاحتكار Anti-trust Law.

كذلك، لا تنسجم النظرية الماركسية التقليدية تجاه الإمبريالية، والمستندة إلى رأسمالية دولة متحدة بالاحتكارات، مع تفاقم ظاهرة حرب الشركات الكبرى ضد الدولة وصلاحياتها، حتى في دول المركز الإمبريالي ذاتها، لا الأطراف فحسب، وهو جوهر الطرح النيوليبرالي سياسياً، لأن الشركات المتعدية الحدود باتت تنظر إلى ذاتها ككيانات “ما بعد الدولة” وما فوقها.

كما أن تلك النظرية في الإمبريالية لا تنسجم أكثر مع تفلت الشركات الكبرى المتعدية الحدود من الإطار القومي، الأميركي أو البريطاني أو الفرنسي إلخ…، إلى الحيز المعولم، الما فوق قومي. وكان الوحيد الذي تطرق إلى إمكان نشوء “إمبريالية عليا” Ultra-imperialism، ما فوق قومية، هو كارل كاوتسكي Kautsky عام 1912، وإن كان فعل ذلك في سياق انتهازي، فكرياً، تحدث فيه عن سلام عالمي بين الإمبرياليات المتعددة، وفي ظل المنظومة الإمبريالية ذاتها، وهو ما استجلب نقداً حاداً من لينين. لكن، ثبت في ظل العولمة المعاصرة أن نشوء إمبريالية عليا ما فوق قومية هو الاتجاه التاريخي، وما الاتحاد الأوروبي إلا دليلٌ عليها، لكنْ ضاعت للأسف المساهمة النظرية المهمة لكاوتسكي بشأن انتهازيته الفكرية التي كان يبحث من خلالها عن صيغة تفاهم وتعايش وتسويغ للإمبريالية.

“حديدٌ عتيقٌ لكونٍ جديد”

ما يتبقّى هنا هو مفهوم رأس المال المالي، أي سيطرة كازينوهات صكوك الملكية على قوى الإنتاج، وأنه تحول من الاعتماد على الإنتاج إلى الاعتماد على الربا والمضاربات والقمار. وهو ما رسخ وتعزز، ثم اتخذ طابعاً عالمياً عابراً للحدود والأمم، وأنشأ منظومة مؤسسية تعزز هيمنة رأس المال المالي، المستعد حتى لتفكيك المؤسسات المالية والمصرفية ذاتها، إن وجدها أكبر مما يجب. فالمهم هو تعظيم ربح الكتل المالية الكبرى. فالإمبريالية، في مستهل القرن العشرين، كانت أعلى مراحل الرأسمالية في ذلك الوقت، ولا يجوز فهم تعبير “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” على نحو مطلقٍ عابرٍ للزمن، إذ إن طبيعة الإمبريالية ذاتها مرت في تحولات جذرية.

وتملك هذه المنظومة الإمبريالية أن تجمد ودائع روسيا في الخارج “قانونياً”، وهي 300 مليار دولار، ناهيك بالودائع الخاصة الروسية، والبالغة نحو 800 مليار دولار. وهي تملك حجب الدولار (والعملات الرئيسة الأخرى)، وإخراج الشركات الروسية من بورصاتها فعلياً، وحظرها من منظومة “سويفت”… إلخ. لكنها اصطدمت اليوم بواقعٍ جديدٍ، هو وزن الدول الصاعدة في الاقتصاد المنتج. ذلكم هو جوهر الصراع بين القديم والجديد في زماننا.

نقول إن الجديد سيسود لأن القديم بات عائقاً أمام إنتاجية الاقتصاد في الدول الغربية ذاتها. مثال: يمكن نظرياً لأميركا الشمالية أن تسد حاجة العالم من القمح والحبوب على نحو يعوض من القمح الروسي وأكثر. لكن ما حدث هو أن العقود الآجلة في بورصات القمح الدولية قفزت فيها سعر “البوشل” (أكثر من 25 كغم) من القمح إلى أكثر من 13 دولاراً، في أعلى مستوى له منذ 45 عاماً، نتيجة المضاربات على القمح (رأس المال المالي) في البورصات على خلفية الأزمة الأوكرانية. لذلك، لم يقبل مشترو القمح في آذار/مارس شراء الإنتاج مسبّقاً في انتظار ما ستسفر عنه الأزمة الأوكرانية، خوفاً من انخفاض أسعار القمح لاحقاً. لكن هذا يعني أن المزارعين لم يتوافر في أيديهم المال الآن، والذي يمكن أن يستخدموه لشراء البذار والأسمدة (التي ارتفع سعرها 17% في العام الفائت، ويتوقع أن يرتفع سعرها 12% هذا العام، ولاسيما أن روسيا هي أحد أهم مصدّري الأسمدة في العالم). وبالتالي لن يتمكنوا من زيادة الإنتاج. والقصة تداولها الإعلام الاقتصادي الغربي بالتفصيل (انظر مثلاً تقرير “رويترز”، في 21/3/2022).

هذا هو معنى سيطرة رأس المال المالي على الإنتاج، ومعنى أن يكون عائقاً له. ومثل هذه المنظومة لا يمكن أن تستمر، حتى لو جاءت لمصلحة روسيا في هذه الحالة. وكما قال بدر شاكر السياب في قصيدة “الأسلحة والأطفال”، التي تلخص فكرة صراع القوى المنتجة مع علاقات الإنتاج البائدة في أجمل تصوير شاعري:

“وأنَّ الدواليبَ في كلِّ عيد

سترقى بها الريحُ.. جذلى تدور

ونرقى بها من ظلامِ العصور

إلى عالمٍ كلُّ ما فيهِ نور

رصاصٌ، رصاصٌ، رصاصٌ، حديد، حديدٌ عتيق

لكونٍ جديد”.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.