موعد في جنين




الأردن العربي – الثلاثاء 12/4/2022 م …

في الوقت الذي صدر فيه كتاب جمال حويل: «معركة مخيم جنين الكبرى 2002، التاريخ الحي» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت) كان ضياء حمارشة ورعد حازم يتابعان كتابة التاريخ بطريقة مختلفة. جمال حويل مؤلف هذا الكتاب التوثيقي المدهش، سبق له قبل أن يكتب التاريخ بالحبر، أن شارك في كتابته وهو يقاوم في أزقة المخيم في نيسان- إبريل 2002. كما أن ضياء ورعد وقبلهما أبطال نفق الحرية في سجن جلبوع، يتابعون كتابة الحكاية بحبر المقاومة.
تاريخ جنين ومخيمها ليس ماضياً نتذكره، بل حاضر يصنعه من قرر أن يدافع عن الحياة. هذه هي المفارقة الفلسطينية التي لا شبيه لها، إذ لا يمكن كتابة تاريخ النكبة والمقاومة المستمرتين إلا بصفتهما حاضراً، بحيث يصير الحاضر مدخلاً لقراءة الماضي، ويتحول الماضي إلى ذاكرة الحاضر.
في الذكرى العشرين لملحمة جنين، تزامن صدور كتاب يؤرخ التجربة مع قيام شباب جنين بتمزيق كتاب الاستسلام والخنوع. النص كتبه مناضل كان جزءاً من التجربة، كأنه كان يمهد لمن سيكتبها من جديد، فإذا بنا أمام حقيقة تتجدد، المخيم يكتبنا بدل أن نكتبه.
هذا التزامن بين كتابة الماضي وكتابة الحاضر يعطي كتاب جمال حويل فرادته، جاعلاً منه وثيقة نادرة.
يكمل هذا الكتاب مجموعة من الكتب التوثيقية التي أرّخت لصمود المخيم خلال الانتفاضة الثانية، وفي مقدمتها كتاب الأسير وليد دقة: «يوميات المقاومة في مخيم جنين» (2004) لكنه يشكل وثيقة جامعة، تقدم للمرة الأولى سيرة مقاومة الاجتياح الاسرائيلي خلال عملية السور الواقي، في إطار قراءة سياسية واجتماعية متكاملة العناصر.
الكتاب هو كناية عن أطروحة لنيل شهادة الماجستير في جامعة بير زيت، أشرف عليها الأستاذ عبد الرحيم الشيخ، عام 2012.
بعد مرور عشر سنوات على الكتابة وعشرين سنة على الحدث، لم يفقد الكتاب راهنيته، فهو يخاطبنا اليوم، لا لأن التاريخ يكرر نفسه، بل لأن نبض المقاومة الذي اعتقد المحتل وأعوانه أنهم استطاعوا اجتثاثه عبر الدمار الهائل الذي أحدثته طائراتهم ودباباتهم وجرافاتهم، ولد جديداً، معلناً أن الجواب الوحيد على الاحتلال هو المقاومة.
جمال حويل يأخذنا في رحلة شيّقة مكتوبة «بمنهجية النار» كما كتب الأسير القائد مروان البرغوثي في تقديمه للكتاب. نقرأ كأننا نمشي على حافة النار، ونكتشف مجموعة من الشخصيات المذهلة التي صنعت إحدى أكبر الملاحم الفلسطينية. نجد أنفسنا عاجزين عن الكلام حين يتكلم الموت بصفته احتمال حياة. كأننا نقف أمام مرآتنا المشتهاة، مرآة تحتضن المأساة والحلم في آن معاً، وتروي الحكاية من زواياها المختلفة بصفتها حكاية شعب لا يملك سوى خيار الدفاع عن بقائه.
هذا الكتاب هو سجل للدفاع عن البقاء وقد اتخذ شكلاً منظماً عماده وحدة المقاومين على أرض المعركة. ثلاث تشكيلات سياسية – عسكرية: كتائب شهداء الأقصى والجهاد وحماس، تتوحد في غرفة عمليات مشتركة، بقيادة أبو جندل، ويوسف ريحان قبها، والفدائي الذي عاش تجربة بيروت منذ أن كان شبلاً، والمقاوم الذي قرر أن يبقى في المخيم رافضاً قرار قيادة الأمن الوطني بالانسحاب، معلناً: «إما نستشهد بالبدلة العسكرية وإما ننتصر».
نتعرف إلى الفدائيين في المخيم، ونعيش معهم ونموت إلى جانبهم، زياد العامر قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين الذي اقترح خطة من بيت لبيت لتسهيل عبور الفدائيين من فتحات في جدران البيوت، وكان أول الشهداء، ونضال النوباني الذي قاد في اليوم التاسع عملية الكمين القاتل الذي سقط فيه 13 جندياً إسرائيلياً واستشهد وهو ينسحب حاملاً ميداليات الجنود وهوياتهم، والشيخ رياض بدير القادم من طولكرم كي يقاتل ويستشهد. أسماء تتراكمم كي تقدم لوحة مجبولة بالألم والإرادة لخّصت 13 يوماً من القتال والصمود.
وسط بطولات وتضحيات لا تحصى، يتشكل المخيم من جديد بصفته بطل هذه الحكاية. يصف المؤلف المخيم بالكلمات التالية: «مروحيات تقصف على مدار الساعة على كل سنتيمتر في المخيم، ودبابات تطلق قذائف ثقيلة من حرش السعادة ومنطقة صباح الخير، وحرائق ودخان من كل مكان من القوات الإسرائيلية، ودخان من إطارات السيارات من المقاومة لإخفاء الرؤية، ودمار وجثث وأشلاء شهداء في كل مكان، وانقطاع تام للكهرباء تسبب بظلام دامس، والمقاومون يتابعون الأخبار على أجهزة راديو صغيرة…».
يتألف هذا الكتاب من مستويين:
المستوى الأول هو الإطار الاجتماعي والسياسي والتاريخي لمخيم جنين، وبنيته الداخلية. وهو يقدم معرفة علمية ضرورية تمهد الطريق للدخول في تفاصيل تجربة أيام الصمود والقتال والمقاومة.
المستوى الثاني وهو الأكثر أهمية، حيث يتابع تفاصيل معركة المخيم يوماً بيوم وساعة بساعة. فالمؤلف لم ينطلق من تجربته الشخصية فقط، بل قام بمجهود بحثي كبير، وجمع شهادات العديد من المقاومين الذين التقى بهم أسرى في السجون الإسرائيلية، وولفها في سردية متماسكة وضعت التجربة في إطارها التاريخي، جاعلة منها جزءاً من سردية كبرى، هي سردية الانتفاضة الثانية التي لا تزال تبحث عن نصها المتكامل.
لا تستطيع وأنت تنهي قراءة هذا الكتاب أن لا تشعر بأنك عشت التجربة، وصرت أليفاً مع الحارات والأزقة، وصديقاً لهؤلاء الناس الذين صنعوا وطنهم بأعجوبة الصبر والصمود، جاعلين من ركام بيوتهم المدمرة منصات للحب الذي وحّدهم في مقاومة الموت.
هذه هي فلسطين الحقيقية المُغيبة عن الصورة السائدة التي يفترسها الفساد وعار التنسيق الأمني. فشباب كتائب شهداء الأقصى هم ورثة فدائيي حركة فتح التي صنعت أبجدية فلسطين الجديدة. ومقاومو جنين ومدن فلسطين وقراها هم أصحاب الكلمة الفصل.
البداية تقع على مفترق النهاية. فالانهيار الأخلاقي والسياسي الذي طبع مرحلة ما بعد اغتيال الانتفاضة الثانية، يتداعى ويتعفن ويفقد ما تبقى له من شرعية، ويحتضر.
المسيرة إلى البداية الجديدة صعبة ومعقدة، لكنها تلوح في الأفق، فالحي يولد من الميت، وفلسطين تولد في فلسطين.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.