ليلى خالد لا تستسلم.. إلا لفلسطين / عبد الحسين شعبان
عبد الحسين شعبان ( العراق ) – الثلاثاء 12/4/2022 م …
“لا تخافي؛ كل الخطّافين في الطائرة فلا أحد سيقوم بخطفها”. هذا ما قالته ليلى خالد التي كانت تجلس إلى جانبي في الطائرة المتوجهة من دمشق إلى طهران، جواباً على سؤال إحدى السيدات العراقيات على متن الطائرة نفسها، بعد أن شهدت اهتماماً غير اعتيادي بركّاب الطائرة فسألت، ماذا سيحصل؟ ألا تلاحظون أن ثمة حركة غير اعتيادية في الطائرة؟ فكانت إجابة ليلى خالد التي أشعرتها بالاطمئنان، خصوصاً بعد أن أيّدتُ كلامها.
كان ذلك في العام 2001 حين دعتنا وزارة الخارجية الإيرانية إلى اجتماع تضامنيّ مع المقاومة الفلسطينية إثر اندلاع انتفاضة العام 2000 والتي استمرت احتجاجاً على وصول اتفاقية أوسلو إلى طريق مسدود. وقد حضر ذلك الاجتماع أربعة مستويات من القيادات السياسية الإيرانية: حيث كان في المؤتمر السيد علي الخامنئي (المرشد الأعلى) والسيد محمد خاتمي (رئيس الجمهورية)، ومهدي كروبي (رئيس البرلمان الإيراني)، وعلي أكبر محتشمي (عضو مجلس الشورى الإسلامي)، يقابلهم: السيد حسن نصرالله (الأمين العام لحزب الله في لبنان)، وزهير مشارقة (نائب الرئيس السوري)، ولا أتذّكر شخصيتين أخريتين.
أما المستوى الثاني، فتمثل بشخصيات سياسية من قيادات الصف الأول في المقاومة الفلسطينية من حماس وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية-القيادة العامة وفتح ـ الانتفاضة وجبهة النضال الشعبي وآخرين من اتحادات الكتاب والصحفيين الفلسطينيين ومراكز الدراسات. والمستوى الثالث هم شخصيات فكرية وثقافية وأكاديمية كنت من ضمنهم، أما المستوى الرابع فكان يمثّل بعض قيادات حركات التحرر الوطني حسب تسميتهم آنذاك وبينهم السيد محمد باقر الحكيم، وكان التدّرج في المستويات قد اتخذ بعداً تراتبياً، فالمجموعة الأولى مقابل الرئاسة الرباعية، أما المستوى الثاني فهي حولها وأبعد عنها، والثالثة بعدها بدائرة أخرى، وكانت المجموعة الرابعة هي الأخيرة.
تروي ليلى في سيرتها الذاتية كيف ذهبت وهي طفلة لجمع البرتقال من بستان مجاور حين وصلت إلى لبنان مثلما كانت تعمل في حيفا، وفعلت ذلك ببراءة الأطفال، وهو ما نبهته إليها والدتها “إننا في لبنان وليس في حيفا” فبكت بكاءً مرّاً، وقررت عدم أكل البرتقال وذلك أول درس لها في المنفى
قالت لي ليلى خالد: تعال اجلس بجانبي، فأنا لم أركَ منذ زمن. كنت قد تعرّفت عليها في العام 1969 في بغداد، كما أشرت في مداخلتي عن الدكتور منذر الشاوي وزير العدل الأسبق، وهي بعنوان “منذرالشاوي.. ذاكرة جيل أكاديمي ـ حين تتلاقح الفلسفة بالقانون” حيث التقيتها في الجمعية العراقية للعلوم السياسية وفي مبنى جمعية الحقوقيين العراقيين في إطار ندوة حول “ثقافة المقاومة” وكانت مع رفيقها عدنان جاسم البياتي المعروف باسم “باسم العراقي” المسؤول عن مطار الثورة في عمان عام 1970، والذي ظلّت السلطات الأردنية تبحث عنه، وقد اعتقل في مطار القاهرة حين كان قادماً من طهران العام 1975 حاملاً جواز سفر سعودي، وتم تسليمه إلى السلطات السعودية التي حكمت عليه لمدة 3 سنوات، ثم أطلق سراحه عام 1978 بتدّخل من الحكومة العراقية والحزب الشيوعي المتحالف معها حينها.
شادية أبو غزالة ووديع حداد
وكانت ليلى خالد وعدنان (باسم) يعملان في جهاز المهمات الخارجية بقيادة الدكتور وديع حداد، وشاركت ليلى في أول عملية اشتهرت بها باسم “شادية أبو غزالة” حيث وصلت شهرتها الكون كله في 29 آب/أغسطس 1969 حين قامت بخطف طائرة شركة TWA الأمريكية من خط لوس أنجلوس- تل أبيب، وذلك خلال توقّفها في روما وتحويل مسارها إلى دمشق، وكانت قد أعلنت مطالبها بإطلاق سراح المعتقلين في فلسطين، ولفت أنظار العالم إلى عدالة القضية الفلسطينية وظلم الاحتلال الإسرائيلي. وقد روت تفاصيل ذلك حيث ساعدها سليم العيساوي، وكان رقم الرحلة كما تذكر 840، وعدد ركابها 116 راكباً.
قامت ليلى بخطف طائرة تابعة لشركة العال الإسرائيلية التي اضطرت إلى الهبوط في لندن وأخفقت في هذه المحاولة، وذلك في أيلول/سبتمبر 1970 وكانت الطائرة حينها متوّجهة إلى فرانكفورت ونفذتها برفقة المناضل النيكاراغوي باتريك أرغويلو واسمه المستعار- كما قالت – (رينيه)، وقد قتل خلال إطلاق الرصاص عليه من حراس الطائرة خلال هبوطها الاضطراري في مطار هيثرو بلندن، ووقعت ليلى أسيرة لدى شرطة السكوتلانديارد. وقد أفرج عنها في صفقة تبادل بعد شهر واحد، وذلك قبل أن تتجه للعمل السياسي والثقافي، حيث أعلنت الجبهة الشعبية إقلاعها عن هذا الأسلوب، متجهة إلى أساليب أكثر نجاعة في مقاومة الاحتلال، بعد أن استنفذ هذا الأسلوب أغراضه.
جدير بالذكر أنها انضمت في وقت مبكر إلى حركة القوميين العرب ومن بعدها إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقد تم تدريبها في معسكرات تابعة للجبهة في الأردن.
حبكة درامية
وتتوقف ليلى وهي تروي تفاصيل صغيرة ومهمة كيف نفذّت التعليمات؟ وكيف اجتهدت؟ وأين نجحت؟ وأين أخفقت؟ وكيف كان القدر لصالحها أو ضدها؟ ولماذا تأخّر رفاقها؟ وكيف قتل رفيقها؟ نعم إنها تتحدث عن كل ذلك وكأنها تلخص لك رواية قرأتها للتو في إطار حبكة درامية ورمزية ثورية دون أية علاقة بالعنف أو تبرير له، ولكنها تتناول ذلك ضمن مرحلة ثقافة ثورية اعتمدت هذا الأسلوب، ضمن الطفولة الثورية، وكما تقول كان ذلك أسلوباً هدفه إعلان عن حركة مقاومة شجاعة ذات أهداف إنسانية تتعلق بحق تقرير المصير ما يمكن أن يسلّط الضوء على جرائم العدو المحتل، تلك التي حاول العالم أن ينساها أو يتناساها بحكم المصالح الضيقة والضعف في حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
وكنتُ قد اطلّعت على كتاب رفيق عمرها وزوجها الصديق د. فايز رشيد وهو بعنوان “ليلى خالد في عيون بعض حرائر وأحرار العالم” وقد صدر في 25 حزيران/يونيو 2021، كما شاهدت أكثر من مقابلة شخصية لها، واستمعت إليها مباشرة وهي تروي بطريقتها المملّحة مع بعض القفشات والتندرات ما واجهته من مفارقات خلال تنفيذ عملياتها.
من منّا لا يتذّكر الوجه الناعم والرقيق الملامح والعينين الذكيتين الواسعتين وخصلة الشعر المتدلّية من الكوفية الفلسطينية، والتي كانت تمثل جمالاً أنثويا خاصاً، فقد تمكنّت ليلى خالد بفعل هذه الصفات أن تُرعب أعتى أجهزة المخابرات العالمية، بما فيها جهاز الموساد
صداقات العمر
وبحكم علاقة الصداقة التي ربطتني بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، منذ تأسيسها في بغداد عبر مدير مكتبها الرفيق أبو وائل والرفيقين إيهاب وغسان، إضافة إلى قياداتها لاحقاً مثل تيسير قبعة وبسام أبو شريف وشريف الحسيني وصادق الشافعي وصلاح صلاح وسميرة صلاح صلاح وفيما بعد صابر محيي الدين وأبو أحمد فؤاد وماهر الطاهر ومن ثم العلاقة مع أبو علي مصطفى وجورج حبش في دمشق، كانت ليلى خالد ضمن المجموعة الصداقية.
وليلى خالد تمثّل أنموذجاً للمرأة المقاومة المستعدّة لأن تقدم حياتها من أجل القيم التي آمنت بها، وهي من مواليد حيفا (شمال فلسطين) في العام 1944، حيث كانت فلسطين ما زالت تحت “الانتداب البريطاني”.
لقد أراد وديع حداد، منظّر العمليات الخارجية والمشرف عليها، تغيير المعادلة الفلسطينية بحيث لا تبقى القضية الفلسطينية قضية لاجئين، في حين كان هو يريد أن يُنظر إليها كقضية شعب مكافح من أجل حقه في تقرير المصير والعودة والتحرير وإقامة الدولة على التراب الوطني الفلسطيني، ودحر الصهيونية باعتبارها عقيدة رجعية بالمطلق وشكلاً من أشكال العنصرية، وذلك في إشارة لاحقة إلى قرار الأمم المتحدة رقم 3379 الذي كنا قد اشتغلنا على الترويج له وحمايته بعد حملة صهيونية لإعدامه، في أواسط الثمانينيات الماضية، وللأسف تمكنّت الصهيونية والقوى الإمبريالية المُساندة لها، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق ذلك بفعل تغيّر ميزان القوى العالمي وانهيار الكتلة الاشتراكية في نهاية الثمانينيات وتمزّق الحد الأدنى من التضامن العربي بعد غزو العراق للكويت عام 1990، ومن ثم حرب قوات التحالف ضد العراق 1991، فنجحت في إلغاء القرار في شهر كانون الأول/ديسمبر 1991.
استعادة الذاكرة
كلّما أستعيد بعض تفاصيل المقاومة الفلسطينية، أستعيد مع نفسي، بل مع أبناء جيلي تفاصيل صغيرة عشناها بطهرانيّة ثورية وأتذكر شكل الهوية التي كنت أحملها ومتى استلمتها وأين؟ فمن منّا لا يتذّكر الوجه الناعم والرقيق الملامح والعينين الذكيتين الواسعتين وخصلة الشعر المتدلّية من الكوفية الفلسطينية، والتي كانت تمثل جمالاً أنثويا خاصاً، فقد تمكنّت ليلى خالد بفعل هذه الصفات أن تُرعب أعتى أجهزة المخابرات العالمية، بما فيها جهاز الموساد الإسرائيلي، وقد كانت رمزاً لنساء كثيرات: سوريات ولبنانيات وعراقيات ويمينيات وأردنيات ومغاربيات، خصوصاً بوثوقيتها وتفاؤلها ومسحة الفرح التي في محياها. وقد اهتدت إلى طريقها سناء محيدلي وسهى بشارة ولولا عبود ويسار مروة ووفاء نور الدين وعشرات من النساء الفدائيات.
وعلى الرغم من معرفتي بمواقفها الفكرية، فقد كانت دردشتي معها ذات شأن آخر، وهو استكشاف جوهر أطروحاتها، فبقدر ما تعلن عداءها للصهيونية، فإنها لا تنسى أن تتمسك بعدم عدائها لليهود أو للسامية، وقد تبنّت البندقية والكلمة الحرة وسيلتين متكاملتين للتحرير. وسألتها بمزاح هل هذه هي النظرية الصينية الماوية: “كل شيء ينبت من فوهة البندقية”، فضحكت قائلة كان هذا هو الطريق القويم لاستعادة حقوقنا كاملة وغير منقوصة.
والمتتبع لحياة ليلى خالد يمكنه معرفة عملها بين عامي 1973 و1977 في الدفاع عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ودفاعها الخاص عن النساء اللاجئات، حيث عملت عضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، كما شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية، وقد التقيتها في العديد منها، كما أسست دار أطفال الصمود لرعاية عوائل شهداء مخيم تل الزعتر شمال بيروت.
وأصبحت ليلى عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1979 وعضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية التي أسسها جورج حبش في كانون الأول/ديسمبر 1967 كامتداد لحركة القوميين العرب.
البرتقال والمنفى
ساهم إحساسها الإنساني وتجربة المنفى القسري في تعميق اهتمامها بالجوانب الحقوقية والاجتماعية، وتروي في سيرتها الذاتية كيف ذهبت وهي طفلة لجمع البرتقال من بستان مجاور حين وصلت إلى لبنان مثلما كانت تعمل في حيفا، وفعلت ذلك ببراءة الأطفال، وهو ما نبهته إليها والدتها “إننا في لبنان وليس في حيفا” فبكت بكاءً مرّاً، وقررت عدم أكل البرتقال وذلك أول درس لها في المنفى.
هل كانت ليلى خالد ترغب في تمثيل فيلم عن جيمس بوند؟ تجيب أنها قضية الحرية التي جاءت بباتريك أورغيلو (رينيه) الشيوعي النيكاراغوي إلى فلسطين، وهي ذاتها التي دفعت تشي غيفارا ليذهب إلى أفريقيا وبوليفيا وقبل ذلك إلى كوبا.
العنف ليس هدفاً
لم يكن العنف هدفاً أو حتى وسيلة بالنسبة لليلى إلا للرد على عنف المحتل ودحره، ولذلك لا بد للعنف أن يتوّقف إذا استنفذ أغراضه. إنه محاولة ضد النسيان أو الرضوخ أو الاستسلام، إنه فعل مقاومة مشروع تقرّه القوانين الوضعية والشرائع السماوية. وبالتخلص من عنف الاحتلال سوف لا يعود هناك مبرر لأي عنف منفلت آخر.
وهدف العنف المشروع هو تحرير فلسطين وحرية شعبها وحقه في تقرير المصير. وحين يكون الخيار بين الاستسلام أو العنف تقول ليلى سأختار العنف طبعاً ولن أستسلم، والشعب الذي يستسلم إنما هو شعب من العبيد، بل إنه لا يستحق الحياة. وكانت تردد اقتباساً من غاندي– الذي نتغنّى به كرسول للسلام والمقاومة المدنيّة اللّاعنفية – جاء فيه “حينما لا يوجد سوى خيار بين الجبن والعنف، فإنني أوصي بالعنف”. وحيث لا خيار بين اللاجئ الذي ينتظر مساعدات الأمم المتحدة وبين حمل البندقية للدفاع عن الوطن، هكذا تقول ليلى خالد فإنها ستختار الثاني على الأول، وهي تفرّق بين الإرهاب والمقاومة، فحيثما يكون احتلال تكون مقاومة وتلك سنّة الحياة وناموسها.
التعليقات مغلقة.