أمّة التنوّع والاختلاف / صبحي غندور

صبحي غندور – الأحد 17/4/2022 م … 

الأمّة العربية التي تنتمي جغرافيًّا إلى القارّتين الآسيوية والأفريقبة وتجاور القارّة الأوروبيةـ هي أيضًا أمّةٌ تقوم ثقافتها تاريخيًّا على تعدّدية الرسل والرسالات السماوية وعلى تعدّد الحضارات القديمة على أرضها. فالأمّة العربية هي مهبط كل الرّسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرّسل والأنبياء. فهي أمَّةٌ عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحيًّا على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافيًّا على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضاريًّا على تجارب وآثار أهمّ الحضارات الإنسانية، بينما يسود واقع  الأمَّة العربية الآن حال التفرقة والفئوية والتعصّب!.




أجد في الآية 12 من سورة فاطر ما هو حكمةٌ بليغة ودرسٌ هام لبعض العرب والمسلمين الذين لا يقبلون ب”الآخر”، ولا يجدون الحقيقة والمنفعة إلّا فيما هم عليه من معتقَد فكري أو مذهبي، وينكرون ذلك على المخالفين لهم. تقول الآية الكريمة:

وَمَا يَسۡتَوِى ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبٌ۬ فُرَاتٌ۬ سَآٮِٕغٌ۬ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٌ۬ وَمِن كُلٍّ۬ تَأۡڪُلُونَ لَحۡمً۬ا طَرِيًّ۬ا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةً۬ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡڪُرُونَ (١٢).

 

فسبحان الله الذي خلق هذا التنوّع والاختلاف في رسله ورسالاته وفي كلِّ خلقه، بما في ذلك الماء الذي جعل منه كلَّ شيءٍ حي، فإذا بالآية تؤكّد على أنّه بالرغم من عدم سواسية “البحرين”، أحدهما عذبٌ والآخر ملحٌ أجاج، فإنّ بينهما فوائد وقواسم مشتركة يستفيد منها النّاس: أكل اللحم الطري، استخراج الحلي وتسيير السفن فيهما…

هكذا يجب أن تكون حكمة وأمثولة هذه الآية في كلّ أمور الناس وأفكارهم وأعمالهم. فالاختلاف لا يعني عدم وجود قواسم ومنافع مشتركة يمكن البناء عليها بين “المختلفين”.

وقد لجأتُ إلى هذه الآية الكريمة في تقديم ندوةٍ في “مركز الحوار” منذ عقدٍ من الزمن، دار موضوعها حول دور الدين في المجتمع، واشترك فيها مفكّرون لهم منطلقات دينية وآخرون منطلقاتهم علمانية، لتأكيد أهمّية البحث عن المشترَك المفيد للنّاس، مهما اختلفت الآراء ومنطلقاتها.

وليست آيات سورة “فاطر” وحدها هي التي تؤكّد على الاختلاف بين النّاس وفي الطبيعة، فالقرآن الكريم كلّه يدعو المؤمنين بالله عزّ وجلّ إلى حسن السلوك مع “الآخر” وإلى تفهّم حكمة الخالق تعالى بخلق الناس مختلفين. لكن مشكلة العالم الإسلامي الآن أنّه لا يتوازن مع تراثه الحضاري الإسلامي الذي يقوم على: “وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لِتَعارفوا” (سورة الحجرات – الآية 13).

 

هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ورَدَ في القرآن الكريم، كتاب الله الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل ويحفظونه غيبًا أحيانًا)، لكن الهوّة سحيقةٌ أيضًا بين من يقرأون وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون في أعمالهم ما يفقهونه في فكرهم!.

فلِمَ يتواصل استهلاك الجهود والطاقات الفكرية في العالم الإسلامي عمومًا بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيراتٍ وحوادث كانت خاضعةً لزمنٍ معيّن في مكانٍ محدّد؟!، ولماذا هذا الانحباس لدى المسلمين في “كيفيّة العبادات” بدلًا من التركيز على “ماهيّة وكيفيّة المعاملات” بين الناس أجمعين؟ ألم يقل الحديث النبوي الشريف إنّ “الدين هو المعاملة”؟.

أيضًا، لِمَ لا يتحقّق الاتفاق على أنّ الدعوة للفكر الديني السليم في المنطقة العربية هي في أحد جوانبها دعوةٌ لإعادة تصحيح خطيئة تاريخية استهدفت عزل هذه المنطقة عن هويّتها الحضارية وعن دورها العالمي بأـنّها “خير أمّة أخرِجَت للنّاس”.. وعلى أنّ الدعوة للفكر العروبي اللاعنصري هي أصلًا لإعادة تصحيح خطيئة جغرافية استهدفت تجزئة المنطقة وإزالة هويّتها الثقافية الواحدة.

في الحالتين، لا تعارض على الإطلاق بين العمل من أجل خدمة الإسلام والعمل من أجل العروبة، وأنّ كلًّا منهما يخدم الآخر ويساهم في رسالته. وأيضًا بأن لا تعارض بين مشروع فكري قومي يستهدف تكامل المنطقة العربية لصالح كلّ أبنائها، وبين أي مشروع فكري قائم على القيم الدينية يستهدف صالح الإنسان وتقدّمه.

فهل، على سبيل المثال، يجد المسلمون في أوروبا تناقضًا بين مضمون دينهم وبين الاتّحاد الذي حدث بين الدول الأوروبية؟ وهل يتضرّر المسلمون في أميركا من الاتّحاد بين ولاياتها؟.

فكيف يمكن أن تُصان وحدة الثقافة ووحدة الحضارة إذا لم تُصَن وحدة الأرض ووحدة الشعب؟ والعكس صحيحٌ أيضًا.

هنا أهمّية دور “الآخر” في المجتمع العربي التعدّدي، وهذا “الآخر” قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وحزبي. لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود “الآخر” فقط، بل بحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع وفي المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كمواطنٍ متساوٍ مع المواطن الآخر في كلّ الحقوق والواجبات.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.