حرب دائمة من 1917 إلى 2022 م / الطاهر المعز
الأردن العربي ( تونس ) – الأحد 24/4/2022 م …
خاضت الدول الغربية ، وخاصة إنغلترا وفرنسا، بين سنتَيْ 1918 و 1922، حربًا ضد الثورة البلشفية في روسيا، فاستخدمت الجيوش الأوروبية أراضي أوكرانيا بينما استخدم الجيش الأمريكي أراضي سيبيريا، لمحاصرة روسيا ومهاجمتها.
مولت المصارف الأمريكية، خلال فترة ما بَيْن الحَرْبَيْن العالمِيّتَيْن، التنمية الصناعية (بما في ذلك الصناعة العسكرية) لألمانيا النازية، وعندما بدأت هزيمة ألمانيا النازية في ستالينغراد، بدأت الولايات المتحدة منذ العام 1944 تُبَلْوِرُ وتحفِّزُ وتدْعَمُ مشروع إعادة حِلْفِها القديم إلى الحياة، وتقوية الدول الحليفة مثل بولندا وفنلندا ودول البلطيق ورومانيا، لمواجهة الاتحاد السوفيتي، ثم بدأت الولايات المتحدة تُخَطِّطُ، منذ 1948، لتصفية الإتحاد السوفييتي الذي خرج مُنتصِرًا من الحرب العالمية الثانية، رغم تواطؤ الدّول الرأسمالية “الغربية”، ويرتكز المُخطط الأمريكي (لسنة 1948) على السيطرة الأمريكية على أوكرانيا، وبدأت في تنفيذ المُخَطّط بالتّحالف مع المجموعات النّازيّة التي ساعدت الجيش الألماني النازي المُحْتَل، ومن هذه المجموعات مُنظمة “أون”، وهي منظمة فاشية أسسها ستيفان بانديرا، بدعم وتمويل من ألمانيا والفاتيكان، وفقًا لوثائق الأرشيف لوزارة الخارجية الأمريكية التي رفعت عنها السرية والتي كشف عنها المؤرخون الأمريكيون مثل غريغور ميتروفيتش وريتشارد ألدريتش أو بنيامين تروملي.
إن إرادة ألمانيا والفاتيكان والولايات المتحدة للاستيلاء على أوكرانيا والسيطرة عليها قديمة. كانت ألمانيا تدعم وتمول القوميين من أوكرانيا ودول البلطيق منذ ثورة 1917، لإحباط برنامج الإصلاح الزراعي وإفشال انضمام المستعمرات الروسية السابقة إلى اتحاد الجمهوريات الإشتراكية، كما دعمت ألمانيا، قبل الانتصار الانتخابي للنازيين (1933) بوقت طويل، أعداء الثورة وكبار ملاك الأراضي الذين كانوا يستحوذون على الأراضي الزراعية الروسية، ثم دعمت ألمانيا “منظمة القوميين الأوكرانيين” (OUN) ، التي أسسها ستيفان بانديرا، وغيرها من المنظمات الفاشية المناهضة للشيوعية ولروسيا، وبالمُقابل ساعد أعضاء هذه المنظمات جيش ألمانيا النازية الغازي أثناء احتلال بولندا وأوكرانيا وروسيا، وارتكب أعضاء هذه المنظمات مذابح بتشجيع من الجيش الألماني وبمباركة الفاتيكان.
كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية هو العدو الذي وجبت هزيمته، قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وما تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) سنة 1949، سوى خطة أمريكية تهدف استخدام أوروبا المُنْهَكَة لمحاربة الاشتراكية، فأقامت الولايات المتحدة قواعد جوية بحرية كبيرة في بريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا واليونان، وأصبحت هذه القواعد يمثابة محطات تجسس أو نقاط انطلاق أو نقاط للتزود بالوقود للسفن أو الطائرات التي قصفت ليبيا والسودان وتونس (الطائرات الصهيونية التي تزودت بالوقود في إيطاليا في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 1985)، وللتذكير فقد تأسس حلف وارسو بعد أربع سنوات من حلف الناتو، وكان بمثابة الحلف الدفاعي، خلافًا للناتو.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، تم حل حلف وارسو، لكن بالمقابل، توسّع حلف شمال الأطلسي وارتفع عدد الدّول الأعضاء إلى ثلاثين دولة، شَملت دول أوروبا الشرقية، لِتُصْبِح القواعد العسكرية للناتو (القواعد الأمريكية في الواقع) على حدود روسيا، فيما فرضت الولايات المتحدة انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، حتى لو لم تستوف الشروط المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
خلال لقاء “بوخارست”، عاصمة رومانيا، في نيسان/أبريل 2008، أعربت الولايات المتحدة عن خطتها لتسهيل دخول أوكرانيا إلى الناتو، وفرض عضويتها في الاتحاد الأوروبي وتنصيب سُلْطَة موالية لها في أوكرانيا، وتم التوقيع على معاهدة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في 19 كانون الأول/ديسمبر 2008 لتطويق روسيا، فخصص الناتو، بين عامي 2008 و 2016، حوالي مائتي مليار دولار لتعزيز ترسانة الصواريخ وأنظمة الرادار والأسلحة الأخرى المُنْتَشِرَة في رومانيا وبولندا ومناطق أخرى قريبة من روسيا.
وقعت الولايات المتحدة معاهدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 لتعزيز الشراكة العسكرية الاستراتيجية مع أوكرانيا، وينص هذا الميثاق على دعْمِ الولايات المتحدة لأوكرانيا من أجل استعادة منطقة “دونباس” وشبه جزيرة “القرم”، ودعمت مجموعات النازيين الجدد الأوكرانيين التي كانت في السلطة منذ عام 2014، هذه المُعاهدة، وتُعتَبَرُ هذه المجموعات وريثة مليشيات عُملاء النّازية التي كان يقودها ستيفان بانديرا الذي تعاون مع ألمانيا النازية وأنشأ الفيلق الأوكراني تحت قيادة الجيش الألماني (فيرماخت) وارتكبت هذه العصابات مذابح سنة 1944، ضد مُقاوِمِي الإحتلال النّازي، وكان الجيش الألماني يدرب ويسلح 220 ألف مقاتل أوكراني منذ العام 1943 للقتال ضد تقدم القوات السوفيتية التي فَكّت الحصار، انطلاقًا من ستالينغراد، دون أي مساعدة من “الحلفاء”، وألحقت الهزيمة بالجيش الألماني، ولم تتوقف سوى في برلين، عند إعلان استسلام جيش ألمانيا النّازية. أما مليشيات المتعاونين الأوكرانيين مع الغُزاة النازيين فقد قَتضلُوا أكثر من 33 ألف من الوطنيين المعارضين للنازية خلال الحرب العالمية الثانية.
لم تنته النّازية مع هزيمة ألمانيا بنهاية الحرب العالمية الثانية، بل بقيت الإيديولوجيات الفاشية والنّازية حَيّة، لأنها إحدى تعبيرات الرأسمالية المُتَأَزِّمَة، وعادت إلى السّطْح خلال الأزمات، وفي أوكرانيا عادت المنظمات النّازية إلى الوُجُود بانهيار الإتحاد السوفييتي، بدعم من الولايات المتحدة، ومن سُلُطات بعض الدّول الأوروبية، منها بولندا وألمانيا وفرنسا، وهي دُولٌ تدّعي دَعْم الحُرّيّات الدّيمقراطية في روسيا والصّين وكوبا وإيران، وأنتج هذا الدّعم الرّأسمالي “الغربي” عودة هذه المليشيات النّازية بقُوّة في أوكرانيا، ومُشاركتها في حُكْم البلاد، وتمكّنت سنة 2014 من إحياء ذكرى عيد ميلاد “ستيفانو بانديرا”، وتنصيب تمثال له في مدينة “لفيف”، وازداد حُضُور ونشاط العديد من التنظيمات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا، منها “سفوبودا”، وريث الميليشيا المتعاونة مع النازية (شعارها الصليب المعقوف)، و”قطاع اليمين”، و”آزوف”، والفيلق الأوكراني، والحزب الاجتماعي القومي الأوكراني وغيرها، ولدى هذه المنظمات مليشيات تقوم بتجنيد مرتزقة من اليمين المتطرف من مختلف الدول (منهم صهاينة ومن منظمات الإسلام السياسي) وتمكّنت (بمساعدة الدول الأوروبية والكيان الصهيوني والولايات المتحدة) من رفع عدد أعضائها سنة 2022 إلى كثر من مائة ألف مسلح، وتُزَوّد الدول الأوروبية والولايات المتحدة والكيان الصهيوني هذه المليشيات بالمدربين والأسلحة والذخيرة ومعدات الاتصالات أو الاستخبارات، وهي مجموعات تَصِفُها صحيفة “تايم” ب”الفاشية”، وتضفها صحيفة “دي فيلت” الألمانية ب”الفاشية الجديدة”. أما معظم الصحف الأوروبية والأمريكية فتعتبرها قُوى مُكافحة من أجل الحُرِّيّة !!!
يقُود منظمة “آزوف” المُسلّحة نواة من النازيين الجدد، وتقوم مليشياتها منذ العام 2014، بمطاردة وقتل المتحدثين باللغة الروسية في “دونباس”، وتفتخر قياداتها بممارسة الخَطْف والتعذيب والإغتيال، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، وساهمت في تأسيس منظمات فاشية أخرى وتدريبها وتسليحها، مثل الحزب الاشتراكي القومي الأوكراني ثم حزب “الوطنيين”، وتتمثل “وَطَنِيّتُهُ” في تأسيس منظمة شبه عسكرية عنصرية تدعي الدفاع عن العرق الأبيض ومحاربة “التنوع” و”الإختلاط بين الأجناس والأعراق، و”العالمية“.
تدعم الولايات المتحدة هذه الجماعات النازية الجديدة منذ عام 1946 ضد الاشتراكية، وبقيت تدعمها بلا انقطاع، ففي العام 2004 ثم في العام 2014، شجّعتهم المنظمات “غير الحكومية” الأمريكية (مثل “المجتمع المفتوح” و “نيد”) على الإطاحة بالحكومة الأوكرانية، ودعم الولايات المتحدة العُنف المُتنامي الذي تمارسه الجماعات اليمينية المتطرفة ضد المتحدثين بالروسية في شرق أوكرانيا منذ العام 2004، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2013، تظاهرت هذه الجماعات بالهراوات وزجاجات المولوتوف والأسلحة، وطارد عناصرها المتحدثين بالروسية وحاولوا الإطاحة بالحكومة والاستيلاء على السلطة بالقوة، وهو ما تمكنوا من تحقيقه سنة 2014، خلال “الثورة البرتقالية”، بتمويل من المليارديرات الفاشيين الأوكرانيين المرتبطين بالولايات المتحدة والجماعات الفاشية، ومنهم السيدة “إيولا تيموشينكو”، رئيسة الوزراء السابقة التي جمعت ثروة من استغلال بيع المحروقات (الغاز والنفط)، وأسست حزب “الوطن” اليميني المتطرف، ومنهم كذلك “إيهور كولومويسكي” الذي تحالف مع “تيموشينكو”، زميلته في الثّراء، وكلاهما من أصحاب المليارات والصهاينة الذين سرقوا المل العام وممتلكات وأُصُول الشعب الأوكراني، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، ويُمول “كولومويسكي” مجموعة “قطاع اليمين” الفاشية، وقد عرض مكافأة قدرها مليون دولار لمن يغتال نائباً موالياً لروسيا.
دعم أصحاب المليارات الصهاينة والموالين للولايات المتحدة الحملة الإنتخابية ل”فولوديمير زيلينسكي”، رئيس أوكرانيا، وهو مناضل صهيوني نَشِط ومُحَاط بالمليارديرات الصهاينة، ومن أعضاء الجماعات اليمينية المتطرفة، من بينهم على سبيل المثال أندري بيلتسكي ودميترو ياروش وأرسين أفاكوف… رئيس الوزراء هو أيضًا صهيوني ، قريب من اليمين المتطرف ، مثله مثل أربعة وزراء آخرين في حكومته، واتخذت هذه الحكومة إجراءات تمييزية ضد الجزء الناطق بالروسية من شعب أوكرانيا، وفي “دونباس” على وجه الخصوص، مثل حظر اللغة الروسية وحرمان المتقاعدين من الجيش الأحمر من المعاشات التقاعدية، واضطهدت هذه الحكومة عدة فئات من المواطنين، منهم الاشتراكيون والنقابيون والتقدميون، بحجة محاربة “الانفصاليين”، ما اضطرّ عدة آلاف من الأوكرانيين، بمن فيهم الناطقون بالروسية، إلى الهجرة، وبالخصوص نحو روسيا، بسبب البطالة والفقر والإضطهاد…
تنشر الصحافة الأمريكية أحيانًا مقالات وتعليقات تتعلق بإصدارات المؤرخين المستوحاة من الأرشيفات الوطنية المنشورة، بعد رفع السّرِّيّة عنها، وتُظْهِرُ هذه الوثائق بوضوح مدى وأهمية تعاون “القوميين” اليمينيين الأوكرانيين مع النازيين، ويعتمد الباحثون الأمريكيون، مثل جون ميرشايمر (جامعة شيكاغو) على هذه الوثائق لتأكيد استفزاز الولايات المتحدة لروسيا والتخطيط لإطلاق الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا، لاتخاذها ذريعةً للتّدخّل المباشر على حُدُود روسيا. أما في أوروبا فإن إثارة مثل هذه المسائل تُعتَبَرُ من “المحرمات”، ونادراً ما تشير الصحافة الأوروبية (خاصة في فرنسا وألمانيا) إلى التواطؤ بين السلطات الأوكرانية والجماعات النازية، بل تحولت وسائل الإعلام الفرنسية إلى أدوات دعائية معادية لروسيا، ومعادية للصين ولسوريا وللشعب الفسطيني إلخ، وتحَوَّلَ الصحفيون الأوروبيون إلى جيش يعمل لصالح الآلة الدّعائية التي تمنع أي صوت معارض من التّعبير عن رأيه، رغم الإعتماد على الوثائق والمحفوظات التاريخية.
تعتمد الدّعاية الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية على ادّعاء نَشْر الديمقراطية والدّفاع عن الحريات الأساسية، وبذلك نجحت في التّقليل من أهمية قيمة التقدم الاجتماعي للدول الإشتراكية، ونجحت في نشر الدّعاية التي سَوّت بين هتلر وستالين، وضخمت من دور الولايات المتحدة في إلحاق الهزيمة بألمانيا النّازية، وأهملت دَوْرَ الإتحاد السوفييتي، وأوْهَمت هذه الدعاية المواطنين بأن سياسات روسيا الرأسمالية الحالية هي استمرار لسياسات الاتحاد السوفييتي الاشتراكي، وأن فلاديمير بوتين ليس سوى جوزيف ستالين مكرر، ومهما يكن فليس لروسيا قواعد عسكرية ولا صواريخ على حدود الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا العظمى.
على الرغم من تضاعف الهجمات والاغتيالات ضد السكان الناطقين بالروسية في دونباس، لم تتدخل روسيا إلا في وقت متأخر جدًا، لمنع عدوان عسكري أوكراني على المناطق الناطقة بالروسية في دونباس، بل أنقذ الجيش الروسي السكان المدنيين، خلافًا للقناصين الأوكرانيين الذين حولوا الشقق في المباني السكنية إلى مواقع إطلاق نار وحَوّلوا المباني العامة إلى قواعد عسكرية، وسبق أن قدمت الحكومة الروسية، منذ العام 2004، عدة مشاريع ومبادرات تهدف إلى جعل أوكرانيا دولة عازلة، خالية من قواعد حلف شمال الأطلسي، ما يمنع تواجد القواعد العسكرية الأمريكية على الحدود الروسية، وطلبت روسيا، منذ حرب جورجيا، سنة 2008، من الولايات المتحدة احترام الالتزامات التي تعهد بها الرئيس رونالد ريغان لميخائيل غورباتشوف، لكن استمرت الولايات المتحدة في تعريض أمن روسيا للخطر، وتمثل الاتفاقيات الأمريكية الأوكرانية خطرًا حقيقيًا كبيرًا على أمن روسيا.
تريد الشركات العابرة للقارات، ذات المَنْشَأ الأمريكي، الاستحواذ على أسواق الطاقة الأوروبية وإقصاء روسيا منها، وعلى الأسواق العالمية للحبوب والأسمدة، وعلى مواقع إنتاج المواد الخام، وما إلى ذلك، وسمحت الحرب في أوكرانيا للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي بجني أرباح كبيرة، وعلى سبيل المثال، ارتفع سهم شركة الأسلحة “لوكهيد مارتن” (Lockheed Martin ) بنسبة 20% خلال أسبوع واحد، بينما تتفاوض شركات البناء الأمريكية، منذ بداية الحرب، على إعادة إعمار المباني والجسور والبنى التحتية في أوكرانيا …
تأمل الولايات المتحدة في إنعاش اقتصادها المُتأزّم، من خلال الحرب التي تضعف المنافس الأول (روسيا) وتقوي الهيمنة الأمريكية على أوروبا، استعدادًا لمهاجمة الصين
التعليقات مغلقة.