لماذا يكون حلّ حزب الكتائب اللبناني وحظره واجباً وطنيّاً؟ / د. أسعد أبو خليل

 د. اسعد ابو خليل ( لبنان ) – الأحد 15/5/2022 م …




ليس حزب الكتائب حزباً عادياً في حياة الجمهورية اللبنانية. الحزب كان في سنوات طفولتي وصباي حزباً هامشياً يسخر منه خصومه وبعض حلفائه. رئيسه لم يكن يحسن النطق، لا بالعربية ولا بالفرنسية. وكان في مثال قيادته أقرب تقليد محلّي للزعامات الفاشية والنازيّة الأوروبيّة. الانضباط والتنظيم الحديدي والعسكرة والقائد الأوحد كانوا عناوين التجربة. وكان بيار الجميّل وهو يقود سيارته — حتى عندما كان وزيراً—ينزل منها ولا يتورّع عن لكم سائق سيارة لا تعجبه طريقة قيادته. والحزب حزب هامشي تضخّم بفعل الدعم الخارجي والاحتقان الطائفي والدعم الشهابي. نعلم اليوم أن الحزب بدأ بتلقّي الدفوعات والتمويل الإسرائيلي من الخمسينيّات من القرن الماضي. إلياس ربابي كان ضابط الاتصال المبكر مع الحركة الصهيونية ثم مع دولة العدوّ (ربابي هذا انضم في ما بعد إلى السلك الدبلوماسي، لكن ما لبثَ أن طُردَ منه في حملة «التطهير» ضد الفساد في عهد شارل حلو). كان ذلك قبل ولادة حزب الله وقبل ولادة منظمة التحرير الفلسطينيّة وقبل ولادة يحيى السنوار. حزب الكتائب نجح فقط من حيث تسويق نفسه محليّاً وخارجياً:

 

 

1- محليّاً صعدَ فقط في 1958 عندما برز كمدافع عن الدولة الطائفية بوجه المحتجّين من المسلمين واليساريّين والعروبيّين. كان يمثّل حماية الطغيان والامتيازات الطائفيّة. هذا حزب كان وقحاً في طائفيّته، إلى درجة أنه عارض تعليم المسلمين. لم يكن يريد جامعة لبنانيّة لأنه خشي من انتشار التعليم بين المسلمين. حزب الكتائب عارض أيضاً منح شهادة التوجيهيّة والاعتراف بها لأن ذلك يمكن أن يزيد من نسبة المسلمين الصالحين لوظائف في الدولة والمجتمع. الحزب الطائفي أراد المسلمين عمالاً وماسحي أحذية فقط. هذا هو بيار الجميّل وحزبه. لم يكن موضوع السيادة مطروحاً آنذاك لأن الحزب كان الخارق الأول لها عبر الاستعانة بدعم غربي وإسرائيلي لميليشياه. الحزب تلقى مع «الأحرار» تسليحاً إسرائيلياً في الخمسينيّات وكان شاه إيران من المعجبين بالتجربة أيضاً وتلاقى في ذلك مع رؤية إسرائيل.

2- على الصعيد الإقليمي والدولي، طرح الحزب نفسه كحامٍ للمصالح اليمينية الغربيّة ضد المدّ اليساري والقومي العربي. ينسى البعض أن التصريحات اليوميّة لبيار الجميّل (لاحظوا عمل البروباغندا المُتقن: حزب الله لا ينطق مسؤولوه إلا لماماً، فيما رئيس حزب الكتائب كان يمدّ الصحف بتصريح يومي كان يعدّه له إما جوزيف أبو خليل أو جوزيف الهاشم، وكان رئيس تحرير «النهار» يشذّبه له لمحو عبارات قد تكون صارخة في احتقارها للمسلمين — اعترف لويس الحاج في «من مخزون الذاكرة» بذلك).

حزب الكتائب اللبناني لم يكن ليصعد في الستينيّات لولا دعم فؤاد شهاب (ودعم الغرب في الحرب ضد الشيوعية والقوميّة العربيّة). فؤاد شهاب، وخلافاً للكلام عنه من بضاعة «الزمن الجميل» القبيح، كان رجلاً حقوداً لا يغفر لخصومه. لاحظوا التنكيل الذي تعرّض له الحزب السوري القومي الاجتماعي في عهده. يشكل التعذيب والقتل الذي لاحقَ أعضاء الحزب فصلاً مجهولاً من تاريخ لبنان (ومن تاريخ فؤاد شهاب). فؤاد شهاب كان يكره ريمون إدة وأطلق العنان (كأي رئيس فاسد) لاستخدام أجهزة الدولة من أجل دعم خصوم ريمون إدة، وكان أبرزهم حزب الكتائب. حزب الكتائب كان أقرب إلى جميعة أوغاد مؤيّدة للاستعمار الفرنسي، لكن الجميّل أدرك في الساعات الأخيرة للاستعمار أن عليه الظهور بمظهر المعترض على الاستعمار (المغادر). وكان هناك صورة مسرحية له بالضمادة للإيحاء بأن الاستعمار اعتدى عليه، وهو الذي كان من أدواته. بيار الجميل هو تجربة اقتفاء آثار النازية الألمانية التي ألهمته في تأسيس الحزب عندما حضر الألعاب الأولمبية في برلين (ولهذا فإنّ عنصريّة الحزب ليست حدثاً عارضاً أو هامشياً، بل من صلب العقيدة) ومحاولة ليبراليّي صحافة السعودية والإمارات لصق تهمة النازية بالحزب السوري القومي الاجتماعي ضعيفة لأنّ الحزب لم يخض يوماً معركة أو حملة عنصريّة في تاريخه (وكلام أنطون سعادة عن «اليهود» تحوّل منذ الستينيّات إلى عداء للصهيونيّة كعقيدة)، كما أن سعادة ذمَّ العنصريّة في بعض كتاباته حتى تلك التي تشكِّل إشكاليّة وتتضمّن عنصريّة مستوردة من كتابات غربية. بيار الجميّل زعيم نازي عن جدّ ولم يكن يقبل المجادلة وكانت سياسات الحزب أوامر منه، فيما كان أنطون سعادة يخوض نقاشات لساعات مع طلّاب في مدارس ثانويّة وجامعات. الحزب القومي ضخّ فكر العلمانيّة ونبذ الطوائف (وقد يكون أنجح حزب في تاريخ لبنان في التنشئة العلمانيّة—وكان أنجح بكثير من الأحزاب الشيوعيّة التي هجر بعض أفراد منها وانضووا في أحزاب يمينية وطائفيّة في ما بعد).

 

نحن نعلم اليوم من إصدارات وثائق الدبلوماسية الأميركية أن الحزب كان أداة غربيّة – إسرائيليّة في إشعال الحرب

 

 

حزب الكتائب كان حزب الدفاع عن نظام القهر الطبقي والطائفي، وكان يعارض منح حقوق المواطنة للمسلمين. وكان يُروِّج لنفسه للغرب كتشكيل الأوغاد الفعّال ضد الحركات اليسارية. إن صعود بشير الجميّل سبق اندلاع الحرب: شكّل بشير فريقاً من الزعران الأشدّاء للتجوال في الجامعات والمدارس لضرب الطلاب اليساريّين والمناصرين لقضيّة فلسطين وتعنيفهم. وكانت السفارة الأميركيّة، بالتنسيق مع إدارة الجامعة الأميركيّة، تستعين بهم لضرب اليسار. ومنذ الستينيّات في عهد شارل حلو، كان كميل شمعون وبيار الجميل يعزفان نفس سمفونية استجداء السلاح والمال من أجل ضرب اليسار (ثم ضرب المقاومة في ما بعد) في اجتماعاتهم مع الدبلوماسيّين الأميركيّين. وهذا العرض من قبل أوغاد ميليشيات اليمين شكّل عنصر جذب لإسرائيل وكل الأنظمة الرجعية التي أمدّتهم بالمال والسلاح.

حزب الكتائب ليس حزباً عادياً. هو سعّر الحرب الأهليّة في 1958 وكان وراء اغتيال نسيب المتني الذي أشعل اغتياله الحرب الأهلية. ونحن نعلم اليوم من إصدارات وثائق الدبلوماسية الأميركية أن الحزب كان أداة غربيّة – إسرائيليّة في إشعال الحرب. كل ويلات الحرب وما بعدها يتحمّل هذا الحزب المسؤوليّة عنها. الحزب كان يحاول إشعال الحرب منذ 1969: أحياناً كان يرتّب كمائن لقوافل فلسطينيّة في الكحّالة، وأحياناً أخرى كان يطلق النار على فلسطينيّين في المخيّمات من الدكوانة. وفي عام 1973، أمر رئيس جمهوريّة لبنان بفتح كل خزائن الجيش اللبناني لميليشيات اليمين من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينيّة التي كانت تتجنّب أيّ إشعال للحرب (وكان هذا خطأً كبيراً من ياسر عرفات ومن كمال جنبلاط وجورج حاوي ومحسن إبراهيم لأنهم أعطوا أفضليّة التحضير لميليشيات اليمين—علمنا من مقالة لغسان شربل، صحافي آل سعود، أن محسن إبراهيم كان «يُفضفِض ويسرّ له وشكا أمامه من لجوء الحركة الوطنية إلى السلاح. كان يريدنا مهزومين). ولولا مساندة المقاومة الفلسطينيّة في حرب الفنادق، لكانت ميليشيا بشير الجميل قد اجتاحت كل منطقة الحمرا واستولت على المصرف المركزي كما كان المخطّط الجهنمي الشرّير. وحدها جبهة الرفض الفلسطينيّة كانت (بلسان جورج حبش وآخرين) تحذّر منذ أوائل السبعينيّات من مخطط انعزالي لإشعال الحرب الأهليّة تنفيذاً لمؤامرة إسرائيليّة – أميركيّة – رجعية عربيّة. هذه ليست عابرة: الحزب خطّط لإشعال حرب أهلية وتغذيتها من الخارج من أجل الحفاظ على النظام الطائفي الجامد ومنع فئات جديدة من الاستفادة من الوظائف والحقوق السياسيّة (الحزب جمع بين العداء لليسار والعداء للمسلمين. أذكر مرّة سألت أنطون نجم (واحد من أشرس منظّري الفاشيّة في لبنان والعقل المدبّر لبيار وبشير الجميّل، وزرته بحجة بحث دراسي جامعي) عن سبب طائفيّة التركيبة الحزبيّة، فقال لي: كان هناك عضو للحزب بيروتي سنّي من بيت طبّارة، لكنّ المسلمين أحرقوا له منزله فتاب. سألتُه: لكن لماذا أحرقوا منزله؟

الحرب لم تكن محتومة في لبنان. لم يكن اليسار والمسلمون يطالبون بتغيير النظام. كان صائب سلام يمثّل الإسلام التقليدي عندما أطلق شعار «ثورة من فوق» وذلك لمنع «ثورة من تحت». لكن لم يكن شمعون والجميل يقبلان بالإصلاح أبداً (حكم شمعون والجميل لبنان في عهد سليمان فرنجيّة ولم تكن الخلافات إلا حول حصص وتفاصيل). أرادوا الدفاع عن النظام مقابل تسديد خدمات للغرب وإسرائيل والرجعية العربيّة في ضرب اليسار والمقاومة الفلسطينية. لكن «الكتائب» و«الأحرار» بالغوا في تقدير قوّتهم الذاتيّة. بحلول عام 1976 واندحار «الكتائب» في معركة الفنادق، كانت الدفة تميل ضدّهم وبدأ التفكير عندهم بخيار الاستعانة بالنظام السوري. وكان حكمت الشهابي المنسّق بين النظام السوري والإدارة الأميركية من أجل التصدي لليسار والمقاومة الفلسطينية معاً. لم يكن النظام السوري الحريص على تبريد الجبهة مع العدوّ ليقبل بساحة متفلّتة في لبنان. شمعون والجميّل مثّلا دوراً أعادا تمثيله أمام قادة إسرائيل (ورواه أرييل شارون في مذكراته). زار شمعون والجميل سوريا وانتحب الجميّل أمام حافظ الأسد، مُطالباً بتدخل الجيش السوري. هكذا دخل الجيش السوري إلى لبنان. لم يدخل عبر الحركة الوطنية أو المقاومة التي وقفت ضد تدخّل الجيش السوري (أطلق شفيق الوزان في «التجمّع الإسلامي» صفة «التوغّل» وذلك تجنّباً لوصف الاجتياح الذي نقرنه بتدخّل جيش العدوّ في لبنان).

حزب الكتائب ليس مسؤولاً فقط عن إشعال الحرب الأهلية، بل هو مسؤول عن المبادرة في كل جرائم الحرب. هو الحزب الذي أطلق العنان للغرائز الطائفيّة. تمّ العثور بعد اندحار «الكتائب» في وسط البلد على برميل من أعضاء بشريّة كان عناصر الحزب يقطعونها في عمليّات تعذيب. كانت عمليات التعذيب مقصودة، وكان يتم إعداد العناصر عليها (يعترف أسعد الشفتري ذو الشهادة الناقصة بذلك في مذكراته). التعذيب جرى على أيدي أحزاب ومنظّمات فلسطينية ولبنانيّة في المنطقة الغربية من بيروت، لكن لم يكن هناك سياسة تعذيب والتدريب عليه عند أيٍّ من الأحزاب هناك، وإن كانت بعض الأحزاب قد عذّبت محتجزين لديها، لكن لم يرتكب الشيوعيّون هذه الأعمال المشينة. هل تحدّث أحدكم لسجين فرَّ من سجون «القوات» في الحرب؟ حدّثني مرّة عامل اسمه علي الموسوي كيف أنه اعتقل لأشهر في سجون «القوات» فقط لأن اسمه أوحى لهم أنه عدوّ وكان صبياً لم يبلغ العشرين. حدّثني أن أصعب ما مرَّ به كان صراخ امرأة كانوا يمعنون في تعذيبها واغتصابها في الليل. قال لي: أستطيع أن أنسى معاناتي، لكن ماذا عن صراخ تلك الامرأة؟

حزب الكتائب باشر بالقتل على الهويّة: على أساس طائفي وعلى أساس وطني. كان الفلسطيني يُقتل على الحواجز، كما كان المسلم يُقتل. هذا المرض ابتدعه الحزب وانتقل إلى مناطق أخرى. ينسى الناس أن الحرب لم تكن ذات منحى طائفي في المقلب الغربي من بيروت في بداية الحرب. السبت الأسود، عندما قام بشير الجميل بقتل مئات من الفقراء المسلمين اللبنانيّين والفلسطينيّين والسوريّين فقط بسبب الانتماء الطائفي، كان التدشين الرسمي لإبادة على أساس الهوية الطائفيّة. كتاب جوزيف سعادة منقوص. هل يصدّق عقل أن شخصاً واحداً ارتكب جريمة قتل بالمئات على مدار ساعات طويلة؟ وهل يُعقل أن الحزب على مستوى القيادة لم يكن يعلم؟

 

يحاول أن يذكّر بصفته كحزب «ديموقراطي اجتماعي»، على طريقة الاسم الكامل للحزب النازي

 

 

هذا ليس حزباً عادياً. هذا حزب جرائم الحرب في تاريخ لبنان. هذا حزب لم يتوقّف منذ التأسيس عن الارتهان للخارج. هذا حزب استدعاء الجيش السوري وجيش الاحتلال الإسرائيلي معاً. هذا الحزب مسؤول بصورة مباشرة (أكثر من الجميع) عن عشرات آلاف ضحايا الحرب من جنسيات ثلاث (سورية ولبنانية وفلسطينيّة). طالبت الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة والجبهة المشتركة للثورة الفلسطينية بعزل حزب الكتائب بعد ارتكاب مجزرة عين الرمّانة. لكن لا كمال جنبلاط ولا ياسر عرفات ولا جورج حاوي ولا محسن إبراهيم كانوا جديّين في المقاطعة، بل استمروا في تبادل الرسائل واللقاءات السرّية مع قادة اليمين اللبناني. لو أن الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة أصرّتا على مقاطعة وحظر حزب الكتائب وتعميم الحظر على مستوى العالم العربي لكان الحزب فقد الكثير من شرعيّته السياسيّة. لكن الحزب استمرّ في علاقته العربيّة: من النظام السوري إلى أنظمة الخليج التي رعته، وخصوصاً في الرياض (نعلم اليوم—ولم نكن نعلم ذلك من قبل—أن سعود الفيصل كان الراعي العربي الرسمي لبشير الجميل وتشارك مع إسرائيل في رعايته تنصيبه رئيساً على لبنان). هناك محاولة لطمس تاريخ الحزب أو مساواة مشاركته في الحرب مع مشاركات أحزاب أخرى. ليس من سجلّ في الحرب يماثل تاريخ هذا الحزب. هذا حزب كان يرتكب مجزرة بصورة يوميّة في الحرب. قد يكون الحزب من مستحقي الحصول على براءات اختراع في ميدان التعذيب. ولم يكتفِ الحزب بسجلّ الإجرام في الحرب، فله سجلّ في السلطة أيضاً (يعتبر سامي الجميل الإصلاحي أن سجلّ النهب والسرقة والنصب في عهد أمين الجميل وشركاه سامي مارون وروجيه تمرز هو أفضل عهود لبنان الرئاسيّة). حقبة أمين الجميّل ليست مثل غيرها: هي حقبة الفساد على مستوى لم يعرفه من قبل (مع أن سجل السرقات في عهد سليمان فرنجية خصوصاً في قطاع الاتصالات كانت سابقة هي الأخرى). وعهد أمين الجميل كان عهد الحرب على المسلمين واليساريّين. كان عناصر جيش أمين الجميل (والجيش في حينه كان ميليشيا) يخطفون المسلمين واليساريّين ويغتصبون النسوة. وأمين الجميل، ابن المؤسس الذي استعان بجيشين لفرض سيطرته على اللبنانيّين، عاد واستعان بجيوش «الأطلسي» لفرض نظامه بالقوّة ضد خصومه في الحرب الأهليّة. لكن عهد أمين الجميل كان عهد هزيمة منكرة لحزب الكتائب. كان يمكن أن تكون نهاية عهده نهاية مؤكدة لولا أنه استعان مستنجداً بالنظام السوري الذي زاره أكثر من أي رئيس جمهورية في تاريخ لبنان. هذا حزب السيادة.

هذه دعوة لحصول إجماع على منع حزب الكتائب وحظره ومحاكمته تاريخياً على دوره في حقبات العنف والفتنة والاحتراب الداخلي في سنوات الجمهوريّة. الحزب أدخل إسرائيل في السياسة اللبنانيّة قبل عقود من بروز المقاومة الفلسطينيّة. هذا حزب يُعيد تجديد نفسه بنفاق وخداع معروف عنه. يحاول أن يذكّر بصفته كحزب «ديموقراطي اجتماعي»، على طريقة الاسم الكامل للحزب النازي. هذا حزب لم يتلُ فعل الندامة مرّة ولا طلب الغفران من ضحاياه. في الوقت الذي كان فيه قادة الحركة الوطنيّة يعتذرون عن شهداء الحركة الوطنيّة ويعبّرون عن خجلهم من تضحياتهم، كانت القيادة الكتائبية، بصفاقة معروفة عنها، تُطلق صفة «المقاومة اللبنانيّة» على جرائمها. لنصدّقهم لوهلة أن قتالهم ومجازرهم ضد المخيّمات التي أبيدت كانا من ضمن مقاومتهم، لكن هل كان قتل مسلمين لبنانيّين وتهجيرهم من المناطق الشرقيّة مقاومة؟ هل كان قتالهم مع إسرائيل بعد مغادرة قوات منظمة التحرير مقاومة أيضاً؟ هل مجازر صبرا وشاتيلا ضد مدنيّين لبنانيّين وفلسطينيّين من مقاومتهم أيضاً؟ لو أنسى لا أنسى ما روته لي فتاة فلسطينيّة قابلتها في جامعة أميركيّة قبل سنوات. روت لي أنها عندما كانت طفلة مختبئة تحت سريرها شاهدت مجرمي «الكتائب» وهم يغتصبون بالتداور أمّها قبل أن يقتلوها. هذا حزب يُحرَّم في المجتمع قبل أن يُحرَّم في الدولة.

الحزب الذي سخر من العروبة وحرّض ضد العنصر العربي (لأنه غربي وظنَّ المؤسّسون الكتائبيّون أنهم أوروبيون بيض وأسّسوا لعلاقة مع أحزاب الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي أمدّتهم بقنّاصة عند اشتعال الحرب. ينسى البعض أن حزب الكتائب كان ينشر إبّان الحرب صوراً لجثث فلسطينيّين ولبنانيّين سمر البشرة ويصفهم—بعنصريّته العريقة—بـ«المرتزقة الصوماليّين») وكان بشير الجميّل يضحك—مثل أبو أرز—عندما كان يختصر العرب بالصحراء والجمال. هذا الحزب الانتهازي صار يريد أن يعلّم العروبة لرجال امتهنوا قتال إسرائيل وإذلالها في جنوب لبنان، فقط لأنه يتلقّى التمويل السعودي. هذا الحزب أصبح لا يمانع العروبة فقط لأن مقرّ العروبة الحالي بات في تل أبيب. سامي الجميّل بات محظيّاً في تلقّي تمويل إماراتي وسعودي وغربي، مثله مثل «القوّات اللبنانيّة» وفصائل في «قوى التغيير».

المشكلة أن الحركة الوطنيّة (الفاشلة) لم تثبت في شعاراتها ومبادئها لأن الكثير من قادتها كانوا عرضة للبيع والشراء، الذي اكتمل بوصول رفيق الحريري على الساحة اللبنانية. الحريري أكمل عمليّة البيع والشراء واقتنى لنفسه كوكبة من القادة الشيوعيّين (وخصوصاً من منظمة العمل الشيوعي) لمساعدتها في حربه ضد الفقراء والعمّال (الطريف أنه عيّن المناضل الماركسي السابق، محمد كشلي، مستشاره لشؤون ضرب الحركة العمّالية التي شكّلت مصدر إزعاج وتهديد له في التسعينيّات وكانت الطائفيّة والمخابرات السوريّة خير معين له في حربه). الحركة الوطنيّة تنكّرت لشهدائها وتركت الساحة كي تستتبّ فيها السردية الكتائبيّة عن الحرب. حزب الكتائب دمَّر لبنان. وتعمير لبنان (كوطن، مهما كان مسخاً، وهو سيبقى مسخ وطن) لن يستقيم من دون إخراج حزب الكتائب من الحياة السياسيّة اللبنانيّة مع إجراء مراجعة تاريخيّة لدوره، وإقحامها في المنهج الدراسي اللبناني كي يُحرّم على النازيّين إعادة اختراع أنفسهم.

* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر

asadabukhalil@

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.