لحظة التحوّل في مسار قضية فلسطين / د. زياد حافظ
د. زياد حافظ* – الأربعاء 18/5/2022 م …
يمتلكنا شعور بأننا نعيش لحظات تاريخية مفصلية في مسار الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني. فانضمام الإعلامية المميّزة شيرين أبو عاقلة إلى القافلة اللامتناهية من الذين استشهدوا في مقاومة الاحتلال الصهيوني شكّل نقطة فاصلة في مسار الصراع. فهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة من الملتحقين بتلك قافلة الشرف والشهامة لكن الظروف التي أحاطت باستشهادها وما تلاها من ردود فعل عربية ودولية شكّلت في رأينا نقطة فارقة. فتراكم العمليات النضالية خلال الأسابيع الماضية وما رافقها من تطوّرات على الصعيد الدولي وخاصة أحداث أوكرانيا كرّست وقائع كنّا قد رصدناها منذ فترة وهي انهيار هيبة الغرب بشكل عام وخاصة الكيان الصهيوني. واستشهاد الإعلامية شيرين أبو عاقلة جاء في لحظة جمعت بين التراكم في الإنجازات الفلسطينية في مقاومة الاحتلال وتراكم الإخفاقات الصهيونية والغربية في فلسطين المحتلّة والعالم لتعطي بعدا مختلفا لاستشهادها. وشيرين أبو عاقلة انضمت إلى قافلة شخصيات مسيحية كفارس الخوري وجول جمال وكمال ناصر وجورج حبش ووديع حداد والمطران هيلاريون كبوشي الذين حملوا همّ العرب وهمّ فلسطين. فتحوّلوا من شخصيات فارقة في هذه الدنيا إلى أيقونات يضيئونها من عالم الغيب.
حمل استشهادها من معاني كثيرة نستخلص منها الشعور وكأننا نحي ربما للمرّة الأخيرة أو قبل الأخيرة ذكرى النكبة! قد يتفاجأ البعض بهذا “التفاؤل المفرط” ولكن هناك مؤشرات أكثر من أن تُحصى تنذر باقتراب تحرير القدس. لا نستطيع تحديد متى وكيف ولكننا واثقون بأن اللحظة قريبة.
فردود الفعل العربية الشعبية جاءت بمستوى الحدث والتطوّرات. فالتعبئة التي سبقت استشهاد المناضلة عبر سلسة العمليات التي نفذّها المقاومون في القدس وحيفا والعديد من المناطق في فلسطين المحتلّة كانت في حال تصاعد مستمرّ. ولحظة الاستشهاد الذي حصل على مرأى الجميع كانت في مواكبة أحداث جنين والمحاولات العبثية والفاشلة لقوّات الاحتلال لاقتحام منزل واحد من المقاومين في المخيّم الذي حصّنه وحماه أبناء المخيم جميعا. وحشية محاولات الاقتحام وجريمة قتل المناضلة الشهيدة شيرين أبو عاقلة تلازمتا في لحظة واحدة شهدها العالم اجمع. لم يستطع العدو التستّر عن الحدثين ولم يستطع أنصاره الدفاع عنه أو تبرير القتل. وما جاء على لسان رئيسة لجنة الأمن الداخلي في الكنيسيت ميراف بن اري أنها لا تأسف على قتل شيرين أبو عاقلة دليل قاطع على إجرامية الذهنية الصهيونية. وما زاد الطين بلّة هو هجوم الجنود الصهاينة على موكب تشييع جثمان الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ضاربين عرض الحائط كل القيم التي تحترم حرمة الموت، وكأنهم يخشونها من داخل نعشها! لذلك نرى تدفّقا مستمرّا من المواقف المستنكرة للعمل الوحشي ومظاهرات ووقفات تضامنية مع فلسطين وأسرة الشهيدة وأسر الشهداء والأسرى المعتقلين في سجون الاحتلال لتسقط كل مزاعم “الحضارة” و”الإنسانية” لقوّات الاحتلال. وهذه العنصرية واكبت عنصرية الاعلام الغربي في تغطيته لأحداث أوكرانيا حيث بدى واضحا أن دم العرب والمسلمين لا قيمة له كما أن دم الروس، لأنهم من “الشرق” لا يستحقّون الوجود مع البشرية أجمع.
سقطت شيرين برصاصة صهيونية فحملها أبناء المخيم المسلمين مع تكبيرات لتتلاحم مع ترانيم الكنيسة. هذا المشهد ذكّرني بما قرأته عن أبناء الشام وسورية في تشييع البطريرك غريغوريوس الرابع حدّاد عند رحيله من هذه الدنيا سنة 1928. وكان البطريك قد ربح قلوب السوريين مسلمين ومسيحيين عندما قام ببيع ما يملكه وتملكه الكنيسة لإطعام الفقراء من المسلمين خلال المجاعة الكبرى التي فتكت بسورية سنة 1916. ففي تشييعه رافقه أكثر من 50 ألف مواطن سوري مع التكبيرات التي كانت تقول إن البطريرك حبيب الله. هذا وكان قد أرسل الملك فيصل مائة فارس لمواكبة التشييع إلى المثوى الأخير.
دماء شيرين لم ولن تذهب هدرا. فالتحوّلات في الرأي العام في معاقل الدعم للكيان الصهيوني في أوروبا والولايات المتحدّة تنذر بتراجع كبير لذلك الدعم. حتى الاعلام الأميركي الشركاتي المهيمن والمملوك والمُسيّر من قبل شخصيات صهيونية لم يستطع لا التستر ولا تحجيم الحدث الذي صوّرته الكاميرات. حتى محطة الأس أم أن بي سي المعروفة بليبراليتها المتطرّفة والمساندة للبيت الأبيض استنكرت الحادث على الهواء مباشرة من قبل كبار المذيعين. موقع “موندوويس”، وهو موقع الكتروني يهودي، ينقل يوميا التحوّلات في الرأي العام ويشهّر بالجرائم الصهيونية، كان وما زال حتى الساعة رافعة للتنديد بوحشية الجيش الصهيوني واغتيال الشهيدة. الشباب الأميركي اليهودي تحوّل من مراقب لا رأي له إلى ناقد لسياسات حكومات الكيان إلى معاد للكيان. الانقطاع الجيلي بين الشباب الأميركي اليهودي وابائه أصبح واضحا والفجوة تكبر. ما زال اللوبي الصهيوني قويا في الولايات المتحدة ولكن قدرته على احتكار السردية المؤيّدة بالمطلق للكيان لم تعد كما كانت. فمواقع الاعلام المستقل الموازي للإعلام الشركاتي المهيمن أصبحت تندّد صراحة بجرائم الكيان كما أصبحت تتذمّر من سطوة اللوبي الصهيوني على الكونغرس الأميركي. وحملات المقاطعة للبضائع الصهيونية تتكاثر والدليل على ذلك الهجوم الشرس من قبل الأوساط الصهيونية على مجموعة “بي دي أس” التي تكرّست فعّاليتها في بثّ الوعي لطبيعة العدو الصهيوني. كما أن مواقع عديدة تعود إلى دبلوماسيين سابقين وضباط استخبارات سابقين وقيادات عسكرية متقاعدة تندّد بدور اللوبي الصهيوني الذي يضرّ بسمعة ومصالح الولايات المتحدة.
استشهاد شيرين أبو عاقلة يشكّل ضربة موجعة للمطبّعين العرب وخاصة في بعض دول الخليج. فكيف يمكنهم تبرير الجريمة وتبرير التطبيع؟ وما لفت انتباهنا تصريحات رئيس جهاز الاستخبارات السابق لبلاد الحرمين الأمير تركي بي فيصل ينتقد فيها التطبيع وتقاعس دولة الاحتلال في إيجاد الحلول المقبولة للشعب الفلسطيني. ويصعب علينا ان نتصوّر أن تلك التصريحات أتت من الفراغ ودون موافقة ولو ضمنية من أصحاب القرار في حكومة الرياض. والجدير بالذكر أن مسار المفاوضات بين حكومتي الرياض وطهران مستمر ما يزيد من قلق الولايات المتحدة والدول المطبّعة عن احتمال “خروج” بلاد الحرمين من التبعية وسلوك استقلالية أكبر تنسجم مع الموروث التاريخي لأبناء المنطقة. ولما لا؟.
——
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
التعليقات مغلقة.