الولايات المتحدة “ديمقراطية” عنيفة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 18/5/2022 م …




العُنف الدّاخلي:

هاجم شاب أبيض يبلغ من العمر 18 عاما متجَرًا بحي “بافالو” بنيويورك، الذي يقطنه الكثير من السُّود، مستخدمًا سلاحا ناريا، وقتل عشرة أشخاص وأصاب ثلاثة آخرين، يوم السّبت 14 أيار/مايو 2022، ووصفت السّلطات هذه المجزرة بالجريمة العُنْصُرِية، بعد اعتقال المُعتَدِي الذي كان يرتدي ملابس عسكرية وسُتْرَة واقية وثبَّتَ جهاز كاميرا على خُوذته، وهو يؤمن بتفوق الأوروبيين البيض على بقية البَشَر، واختار المكان الذي يقصده السُّود لارتكاب جريمته، وهي ليست الأولى، حيث تورّط هذا الشّاب الفَاشِي في عمليات إطلاق نار سابقة، بحسب وكالة “أسوشيتد برس”…  

لا يقتصر الجرائم العُنصرية بالولايات المتحدة على العنصريين البيض، بل يُعْتَبَرُ عناصر الشُّرْطة المُدَجّجَة بالسلاح، خطرًا كبيرًا على المواطنين السُّود، أحفاد العبيد، وأورد موقع صحيفة “واشنطن بوست” (30 أيار/مايو 2020) أن الشرطة الأمريكية تقتل حوالي ألف مواطن سنويا، معظمهم من السّود، وإنها قتلت سنة 2019، ما لا يقل عن 1014 مواطنًا أسود، تم إحصاؤهم والتّعرُّف على هويّتهم، ويَعْكِسُ عُنف الشّرطة الجزء الوجه الحقيقي للعنف المُؤسّساتي الأمريكي ضد المواطنين السود الذين تَوهَّمَ العديد منهم أن وضع حدّ للميز العنصري القانوني سوف يُغَيِّرُ وضعهم، لكن أصابهم الإحباط، خصوصًا بعد رئاسة باراك أوباما الذي لم يكن سوى واجهة لتلميع صورة السلطة الأمريكية والشركات العابرة للقارات والمُجَمَّع الصناعي العسكري، حيث يتواصل المَيْز العُنصري في كل المجالات، بل إن الرئيس السابق “دونالد ترامب” كان يعتبر نفسه رئيس البيض الأثرياء، ويُحرّض على العُنف العُنْصُري والطّبَقِي.

تأسّست الولايات المتحدة الأمريكية على إبادة أصحاب البلاد الأصليِّين وعلى استعباد المواطنين من أُصُول إفريقية، وعلى التمييز العُنصري والجنسي، ولا تزال المُؤسّسات الحكومية الأمريكية ( الشرطة والقضاء والتعليم والوظائف العامة…) مبنية على التمييز العنصري وعلى تفوّق أصحاب اللون الأبيض، ما يجعل الأنسان الأسود في مرتبة دونية، و”مُجْرِمًا بالضّرورة”…  

نَشَرَ المُؤَرّخ الإقتصادي الأمريكي بيتر تيمن كتابًا بعنوان “أبدًا مَعًا: التاريخ الإقتصادي لأمريكا المُنفَصِلَة” ( Never together : The economic history of a segregated America ) ويناقش الكتاب تداخل مشاكل العِرْق والطّبَقَة، ودَوْرَ المُؤَسَّسَات الرّسمية في تقويض الجهود المبذولة لسد الفجوة بين الأجناس، ما يُؤَدِّي إلى استمرار المصاعب الإقتصادية للمواطنين السود، خدمةً للرأسمالية الأمريكية، وكأن “الدّستور الأمريكي عندما يقول (كل الناس)، فهذا يعني كل الرجال البيض، دون غيرهم”، وعندما تذكر الدّراسات والبُحوث أن جميع سُكّان أمريكا الشمالية من المُهاجرين، وجبت التفرقة بين المهاجرين الأوروبيين الذين احتلوا أرض السّكّان الأصليين، واستخدموا المهاجرين (أو المُهَجَّرين ) الأفارقة الذين تحوّلوا إلى عبيد لخدمة الأرض، وهذا أصل عدم المساواة، فقد ازدهرت الزراعة ثم الصناعة، والإقتصاد الأمريكي عمومًا، بفعل استعباد السّود، واستمرار استغلالهم واضطهادهم، وملاحقتهم من قِبَل المُؤسسات (الشرطة والقضاء) لاستغلال عمَلِهِم داخل السُّجُون، إذ يشكل السود نحو 12% من السكان و 43% من السجناء، واعترَفَ ” جون إيرليشمان”، كبير مُستشاري الرئيس “ْ نيكسون” بالتخطيط لقمع السُّود، من خلال التّذرّع بالمُخدّرات وترويجها عَمْدًا في أحياء سكن السّود، لتبرير حملات المُداهمة وتفريق الإجتماعات والتّظاهرات الإحتجاجية، وتشويه سمعة المُسَيَّسِين منهم في جميع نشرات الأخبار، وكُنّا نكذب ونقوم بتنميق وإخراج مسرحيات الكذب، ولا تزال نفس السياسات مُستمرة، وبالأخص ضد السود الذين يُطالبون بالمساواة مع البيض، ويتم تدمير أبناء السود الفقراء من خلال السجون، ومن خلال الحرمان من التعليم والتأهيل، ولا تزال الولايات المتحدة تُمارس الفصل العنصري السياسي والإقتصادي والإجتماعي، بشكل عملي، في الواقع اليومي، ما يزيد من صعوبة انتقال الشخص الأسود من المستوى الأدنى إلى المستوى المتوسط، في ظل الملاحقات والقتل والسجن وصعوبة الحصول على وظائف وصعوبة الحصول على تعليم جيِّد، بالمقابل يتم إرسال الكثير من السود ليُحاربوا باسم الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية وفي فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها…

 

 العُنف السياسي

… عُنْف وقَمْع باسم “الدّفاع عن العالم الحُرّ”

كشف “إدوارد سنودن”، مؤسس “ويكيليكس”، منذ سنة 2013، عن برنامج أمريكي للتجسُّس على نحو 90% من الأمريكيين، وكان الكشف عن وثائق مماثلة من أسباب التنكيل بإدوارد سنودن، رغم الحُجَج المُوَثَّقَة والمُؤَكَّدَة، وصرّحت مديرة الوكالة القومية للمخابرات، أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي، أن مكتب التحقيقات الإتحادي (إف بي آي) يتجسّس على حوالي أربعة ملايين أمريكي، بدون إذْنٍ قضائي، وصرح أعضاء لجنة المُخابرات بمجلس الشيوخ أن وكالة الإستخبارات المركزية (سي آي إيه) تُنفّذ برنامجًا سريّا وغير قانوني، بهدف جمع معلومات عن كل المُواطنين والمُقيمين بالولايات المتحدة، وسَبَقَ أن اكتشف رؤساء دول وحكومات “صديقة” للولايات المتحدة وسياسيين من دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، أن وكالة الإستخبارات الأمريكية تتجسّسُ على حياتهم السياسية والشخصية…

كل ذلك باسم نشر الحُرّيّة وقِيَم الدّيمقراطية في العالم !    

أثناء الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ، سنة 1962، انتقد جيمس بَالْدْوِين ( 1924 – 1987 )  حملات القمع باسم “مُلاحقة الشيوعيين” في الولايات المتحدة، ودافع عن حق الشعوب في تقرير المصير. في العام المُوالي، سنة 1963 ، أعلن أن الولايات المتحدة مهددة بشدة ، بالفعل، لكن ليس من الخارج، من قِبَلِ خروتشوف ، بل من الداخل. إنها دولة غير قادرة على الاستجابة لمطالب حركة الحقوق المدنية”، ثم رَبَطَ جيمس بالدوين بين أوهام التفوق العرقي للرجل الأبيض والأوهام  التي تم بَثُّها باسم محاربة الشيوعية:

“إنه الرجل الأبيض الأمريكي الذي فقد إحساسه بالواقع منذ فترة طويلة … بعد أن ابتكر هذه الأسطورة عن السود ، والأسطورة حول تاريخه ، فقد ابتكر أساطير عن العالم ، بحيث ، على سبيل المثال ، لقد اندهش من أن بعض الناس قد يفضلون (فيدل) كاسترو ، مندهشًا من وجود أشخاص في العالم لا يهرعون للاختباء عندما يسمعون كلمة “الشيوعية” ، مندهشًا من أن الشيوعية هي إحدى حقائق القرن العشرين التي لن نتجاوزها بمجرّد التظاهر بعدم وجودها

إن هذا العالم الحر يهددني ويهدد الملايين من الناس مثلي، فكيف يمكن للاستبداد الفاضح والأعمى (المكارثية) أن يخدم مصالح الحرية؟

كان جيمس بالدوين نشيطًا في حركة الحقوق المدنية، ثم دعم حزب الفهود السُّود الذي أسَّسَهُ هيوي نيوتن وبوبي سيل سنة 1966، وكلّفَهُ نشاطُهُ السياسي 1884 صفحة في ملف مكتب التحقيقات الفيدرالي الخاص به.

يدعو حزب الفهود السود إلى حمل السّلاح، دفاعًا عن النفس ضد عُنْف العنصريين البيض والشرطة، كما عمل الحزب على إنجاز برامج مساعدات فورية للأُسَر والأطفال السُّود، وإصلاحات شاملة ، وتقرير مصير السود، وينتقد جيمس بالدوين في كتابه “مطاردين من النور” الرد القاسي للدولة الفيدرالية الأمريكية من خلال الاغتيال والتشهير والسجن، كما يصف أهداف الحزب ذات الطّابع الاشتراكي:

يؤمن هيوي  نيوتن، وأنا أُوافُقُهُ الرّأي، بالحاجة إلى تأسيس شكل من أشكال الاشتراكية الذي يتوافق مع طبيعة وتاريخ البلاد- وهو ما يسميه بوبي سيل (اشتراكية يانكي)، وهي تعني اشتراكية مُبْتَكَرَة، تراعي المسْألة العِرْقِيّة، وتستجيب للاحتياجات الحقيقية للشعب الأمريكي … إن الحاجة إلى هذا الشكل المُبْتَكَر من الاشتراكية تستند إلى ملاحظة أن التنظيم الاقتصادي الحالي للعالم يُفْضي إلى الإثراء الفاحش لأقلية من الناس وإفقار معظم سكان العالم. أن أسلوب الحياة الذي تفرضه الرأسمالية عقيم وغير أخلاقي، ولذلك، لا أمل في السلام طالما بقي العالم على هذه الحال…”

انتهجت السّلطات الأمريكية سياسة قمع واعتقال وإدانة وسجن قادة وأعضاء حزب الفهود السود بشكل منهجي (هيوي نيوتن سنة 1967 وبوبي سيل وإلْدْرِيج كليفر سنة 1968 وأنجيلا ديفيس سنة 1970…) أو سياسة الإغتيال من قبل الدولة الأمريكية (بوبي هوتون سنة 1968 ، وفريد هامبتون سنة 1969)… وتعبيرًا عن التزامه، ترأس جيمس بالدوين، سنة 1968، حفلة تكريم  أقامها الفهود السود لهيوي نيوتن المسجون آنذاك، واجذبت آلاف المؤيدين، وكتَبَ سنة 1970 رسالة مفتوحة ، نُشرت في New York Review of Books ، إلى أنجيلا ديفيس المسجونة آنذاك، وضمّنها الجملة التالية التي نالت شُهْرَةً فاقت شهرة بالدوين نفسه: “يجب أن نكافح من أجل حياتك كما لو كانت حياتنا. »

قال جيمس بالدوين، سنة 1972: كان للفهود السود تأثير عميق علي، بخصوص الشكل الخاص للاشتراكية المناسب للوضع الأمريكي، أو كما سمّاها بوبي سيل (اشتراكية يانكي). أنا أعرف ما يقصده عندما يقول ذلك. إنها اشتراكية نشأت من حاجة السكان الأصليين والسُّود الأمريكيين، لذا إذا وصلنا يومًا ما لتحقيق الاشتراكية في أمريكا، أعتقد أنها ستكون اشتراكية مختلفة تمامًا عن الاشتراكية الصينية أو الاشتراكية الكوبية… إن قيمة الإشتراكية الحقيقية في هذا البلد تُقاس بالقضاء على ما نسميه المشكلة العرقية…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.