الحركة الطلابية الفلسطينية وقيم المواطنة والانتماء والهوية الوطنية: والأدوار المستقبلية / د. عمر رحّال

د. عمر رحال ( فلسطين ) – الأحد 22/5/2022 م …  




  • ورقة نشرت في العدد الأول من مجلة المواطنة الصادرة عن مركز الدكتور حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية نيسان / 2022

المقدمة

بإعمال البحث في صيرورة التحولات في الفعل والخطاب الطلابي داخل الحقل الأكاديمي الفلسطيني ، وبقراءة السرديات التاريخية ، فقد لعبت الحركة الطلابية دوراً هاماً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية مؤثرة فيه ومتأثرة به، وعلى هذا النحو برزت أطر تنظيمية مبكرة من أهمها الاتحاد العام لطلبة فلسطين في العام 1959، إلى أن تكثّف دور الحركة الطلابية على مستوى الفعل الوطني مع تأسيس الجامعات الفلسطينية في أوائل سبعينيات القرن العشرين ، بالربط بين الحقلين الوطني والطلابي ، شكل النشاط الطلابي في الجامعات الفلسطينية انعكاس للمزاج الوطني الجمعي وجزء من الحالة الوطنية العامة. وأنتج التناقض والصراع مع الاستعمار الإسرائيلي العديد من البنى الوطنية، المتحدية للسّلطات الاستعمارية المفروضة من الأعلى، من ضمن هذه البنى الحركة الطلابية ومجالس الطلبة.

برغم الصبغة المتحدية لهذه البنى الطلابية والاحتياج لعملها الثوري ضد الأسرلة والقالب المتمرد لها، إلا أنها لم تحل دون وجود محاولات جادة ودائمة للربط بين الاستعمار وسياساته الكولونيالية الإحلالية الممنهجة ضد الفلسطينيين/ات.

تاريخياً، قد تكون الحركة الطلابية الفلسطينية الوحيدة التي جرى انتخابها على أساس محددات سياسية ونقابية في سياق الجامعات والكليات والمعاهد الفلسطينية، كما أن جدليات المرأة وحيزها في فضاء القرار العام ، ومحاور تموقعها وتمركزها في المجتمع ، ومساحات الحضور والغياب، وواقع التهميش وفجوة التمكين ، وقضايا الجذور والبنى الاجتماعية والثقافة المؤسساتية كانوا دائماً جزءاً أصيلاً من محاور نقاش الحركة الطلابية وعلى طاولتها.

عزز تلك المداولات التفاكرية تداول السلطة الذي كان من ثمراته اندماج أوسع القطاعات الطلابية وانخراطها في بوتقة جمعية واحدة، بما نقل الجامعات من دور أكاديمي طليعي ومن كونها مساحة تعليم تقليدية وحولها إلى فضاء وحالة مشجعة للحراك السياسي والمجتمعي والثقافي.

بمقاربة الخاص مع العام، استطاعت الحركة الطلابية إلى حد ما في السابق التحرر والانفكاك نسبياً من البنى الاجتماعية المرتكزة على العائلة والعشيرة كمعايير تقليدية للدعم والإسناد والاختيار والتقييم للكفاءة ومنح الشرعية، أو المنطلقة من المناطقية والانتماء الجغرافي الضيق، مستحدثة شرعيات بديلة تعتمد على أحزابها وتنظيماتها السياسية وتعبئتها الجماهيرية وفقاً للرؤى السياسية للقضايا المختلفة ولأيديولوجيتها الفكرية، وهو تحول من حيث البناء والشكل وأياً كانت الثغرات داخله، إلا أنه شكل قفزة نحو الحداثة وتأطير البنى المدنية، منحت الطالبات متسع من التمثيل وهامش في أن يتبوأن المناصب ويتم انتخابهن من جموع الطلبة كقيادة شرعية منتخبة معترف بها وصانعة للقرار.

وتأسيساً على ما سبق وباعتبار أن الأطر الطلابية المختلفة امتداد للفصائل الفلسطينية الناشطة في الأراضي المحتلة، وعلى هذه الأرضية توحد العمل الطلابي المؤطر على أسس سياسية وطنية، وعلى الرغم من تباين الاتجاهات السياسية للأطر الطلابية المختلفة، إلا أنها حافظت على الحد الأدنى من العمل الموحد، باستثناء بعض الأحداث التي أدت إلى تناقضات طلابية ذات علاقة بظروف سياسية خاصة ، ومع ذلك كان التناقض الرئيسي مع الاحتلال.

 

الحركة الطلابية: الفعالية والدور في تعزيز قيم المواطنة والانتماء

 

تُعد المواطنة الوجه الديمقراطي الآخر للانتماء والولاء الوطني، البعيد عن التعصب والتطرف، الانتماء الشوفيني، المواطنة بجوهرها الأساسي هي أن يكون المواطنون أمام القانون والقضاء سواء، لا تمييز بينهم على أساس العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو أي اعتبار آخر، بحيث يكونوا متساوون في الحقوق والواجبات، يتضمن ذلك أن لا يتعارض أي نص تشريعي، أو أي حكم صادر عن أي محكمة من أي درجة كانت مع هذه المساواة المصونة، والتي يتفرع عنها جملة من الحقوق مثل حق المواطنين والمواطنات بالمشاركة في الحياة السياسية أفراداً وجماعات، وحقهم في تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها، والتصويت والترشيح في الانتخابات لاختيار ممثلين لهم بالاقتراع ، وحقهم في تقلد المناصب والوظائف العامة على قاعدة تكافؤ الفرص دون تفريق، واحترام وصون حقوقهم وحرياتهم الشخصية والحقوق والحريات الاجتماعية والفكرية والسياسية العامة، مثل الحق في الحياة، والحق في الكرامة، والحق في العمل، وحرية الضمير والمعتقد، والحق في الخصوصية، والحق في الجنسية، والحق في التنقل والإقامة، وحرية التجمع والتظاهر، والحق في الإضراب، وحرية النشاط السياسي، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، وحظر التعذيب وغيرها من الحقوق الأساسية  .

إضافة إلى ذلك ، هناك العديد من المقومات التي تعتبر أساسية في المواطنة ، والتي منها ارتباط المواطنة بالديمقراطية، باعتبار الديمقراطية الحاضنة الأولى لمبدأ المواطنة، وباعتبار المواطنة ركيزة أساسية من ركائز النظم الديمقراطية، إضافةً إلى أهمية تمتع المواطنين/ات بكافة الحقوق السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإشباعها، بوجود عقد اجتماعي يضمن ذلك وسياسات وممارسات ذات صلة، ولعل المقوم الأكثر اتصالاً وتشكيلاً لحلقة وصل واضحة المعالم بين المواطنة من جهة والحركة الطلابية من جهة ثانية هو خضوع الفرد لتنشئة اجتماعية وثقافية وسياسية تساعد على استيعابه لأهداف الجماعة ومصالحها وتؤدي لتعايشه معها، وهو ما تلعب الحركة الطلابية باعتبارها تنشط في أبرز مؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية دوراً كبيراً به.

 

وعلى الرغم من استخدام الحركة الطلابية لبعض المصطلحات والمفردات (العنفية والاقصائية) في خطاباتها في المناسبات الوطنية والتنظيمية لغايات استقطابية، أو في استقبال العام الدراسي الجديد ومهرجانات الترحيب بالطلبة الجدد، وفي المناظرات الطلابية ،إلا أن قضايا الوطن وهمومه والقضية الوطنية كانت دائماً حاضرة في الخطاب بشكل لا يمكن تجاهله أو إنكاره، فلم يغب عن خطاب الحركة الطلابية، قضايا الانتماء، وتعزيز الهوية الوطنية، وتعميق الشعور الوطني، والمقاومة، والتضحية، والعمل التطوعي، والانحياز للفقراء، والدفاع عن مصالحهم، والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي أسهم في رفع وبناء وعي الطلبة في القضايا المرتبطة بالمواطنة والتي تشكل روافع أساسية لها.

بقراءة خطاب الحركة الطلابية ، يمكن ملاحظة أنه كان دائم التأكيد على الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة، هذا إلى جانب التأكيد على الوحدة الوطنية، وعدم التمييز بين الفلسطينيين على أساس اللون أو الدين أو المعتقد أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي. كما كان للانتخابات الطلابية ودوريتها أثر كبير ومهم في تجسيد معاني المواطنة في مجتمع الجامعة والتثقيف الديمقراطي، الأمر الذي انعكس على سلوك الطلبة أثناء الإدلاء بأصواتهم، ففي انتخابات مجالس الطلبة يترشح الطلبة من مختلف الفئات الاجتماعية، ومن المدن والقرى والمخيمات، ولم يكن المكان أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي له ذلك التأثير الكبير على سلوك الناخبين والناخبات من الطلبة إذ كان الاعتبار الأول هو للانتماء السياسي وبرنامج العمل النقابي، هذا إلى جانب شخصية المرشح/ة.

كما أرست الحركة الطلابية على مدار تاريخها، الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في التجمع السلمي والممارسة الديمقراطية والاقتراع، ودافعت عن هذه الحقوق باعتبارها ضمانات بقائها واستمرار عملها، وهي ذاتها الحقوق التي تشكل ركائز التعددية والمشاركة السياسية الضرورية للمواطنة ولبناء نظام حكم ديمقراطي يقوم على ضمان احترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. كما وتشكل حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وهي مفاهيم أساسية كذلك للحوار الديمقراطي، والتنوع، جنباً إلى جنب مع نشر مفاهيم حق الاختلاف، والتسامح، والتعريف بالحقوق والواجبات.

كما يحسب للحركة الطلابية دورها وعملها المستمر من أجل تغيير المنظومة التعليمية السلطوية التي اعتمدت على القهر والظلم وثقافة الطاعة والصمت، لصالح منظومة تعليمية تقدمية تحريرية وطنية تستند إلى الثقافة الوطنية والقدرة على التحليل والنقد، ونشرها لثقافة المواطنة، والعدل الاجتماعي، والممارسة الديمقراطية.

وعلى الرغم من أن الوجود الأساسي للحركة الطلابية هو داخل أسوار الجامعات باعتبارها بيئة عملها الأساسية، إلا أن دور الحركة الطلابية في تعزيز الانتماء والمواطنة لم يقتصر على الطلبة داخل أسوار الجامعات فقط، بل تخطت الحركة الطلابية ذلك من خلال الدور الوطني والاجتماعي الذي لعبته في مجتمعاتها المحلية. فالعديد من نشطاء الحركة الطلابية في الجامعات الفلسطينية كان لهم الدور الأساسي في تأسيس لجان العمل التطوعي والاجتماعي في قراهم وبلداتهم ومخيماتهم، والتي شكلت فيما بعد النواة الصلبة للأطر الجماهيرية للفصائل الفلسطينية -كلجان الشبيبة للعمل الاجتماعي، ولجان العمل التطوعي، وكتلة الوحدة، وكتلة الاتحاد، تلك اللجان والأطر التي كانت من ركائز الحركة الوطنية الفلسطينية.

مبكراً بدأ نشطاء الحركة الطلابية العمل بين أوساط الشباب والفتية واستقطابهم ، وتزويدهم بالكتب والمنشورات والمجلات التي كانت تصدر عن الحركة الوطنية بما فيها الحركة الطلابية ، إضافة إلى الأنشطة التطوعية والاجتماعية التي كانوا ينظموها مثل مساعدة أسر الشهداء والأسرى في الحقول والمزارع لا سيما في المواسم الزراعية، والمشاركة في أعمال الترميم والبناء خاصةً منازل المقاومين أو المواطنين التي يهدمها الاحتلال، ورصف الطرق الزراعية والداخلية، وتنظيف الشوارع، وتزينها بالرسوم، وتنظيم الرحلات إلى الأماكن التاريخية والسياحية في فلسطين المحتلة عام 1948، وتطور الأمر حتى أصبح هناك مخيمات سنوية للعمل التطوعي في الناصرة ورام الله وغزة، تشارك بها الأطر الطلابية المختلفة، وبمشاركة الشباب في الأراضي المحتلة عام 1948 وعام 1967 ، وبإسقاط وعي التحرر على التطوع، فقد لعب العمل التطوعي آنذاك دوراً مهماً في حياة الشباب، إلى جانب ما كان يعنيه من قيم وروابط اجتماعية إيجابية، ومحافظته على القيم الإنسانية والحضارية، فقد كان التطوع شكل من أشكال المشاركة على اختلافها، وباني للوعي الفردي والجمعي، ومعزز للمواطنة والفاعلية والانتماء. كما لعب نشطاء الحركة الطلابية دوراً مهماً في تعزيز العلاقة بين زملائهم وزميلاتهم في الجامعة وزملائهم في المدن والقرى والبلدات من خلال الزيارات المتبادلة بينهم.

كانت الفكرة الأساسية تبنى على مقاربة قوامها تعزيز العمل التطوعي، وذلك من خلال إشراك الشباب والشابات بشكل أكثر فاعلية في الأعمال التطوعية، على قاعدة أن العمل التطوعي هو المدخل الأساسي لبناء وتعزيز الوعي الوطني والتمسك بالأرض وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة وإعادة إحيائها حفاظاً على الرواية وتعزيزاً للانتماء، والمقاربة الثانية هي توطيد وتعزيز العلاقة بين الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة والشباب الفلسطيني في أراضي العام 1948، وإعادة بناء الروابط بين الشباب الفلسطيني ومحيطهم الثقافي والاجتماعي وتفعيل دوره في بناء الهوية الوطنية، وإعادة تعزيز الموروث الثقافي والاجتماعي الفلسطيني، وتعزيز شراكة ومشاركة الشباب والشابات في الحياة العامة الفلسطينية، عبر مد الجسور وتعزيز التواصل وخلق الترابطات بينهم، من خلال المشاركة في أنشطة ذات بعد تطوعي، بما يعزز قيم الانتماء والشعور الوطني، وتبادل الخبرات والآراء والمعرفة، لمعالجة التحديات والقضايا العديدة التي تواجه الفئات الشابة ، وذلك في ظل جدلية الوعي والهيمنة.

لقد ساعد ذلك في بناء هويات وطنية وحدوية متحدية للتقسيم السياسي الجغرافي، إضافة إلى تأسيس فرق فنية وكشفية ورياضية لا سيما فرق كرة القدم والسلة والطائرة، وتنظيم المعارض الفنية وغيرها من الأنشطة التي كانت دائماً ذات صبغة وطنية، الأمر الذي عزز الشعور الوطني، والانتماء والمواطنة بين الشباب على وجه التحديد، وجعل التصاق أبناء الحركة الطلابية بالأرض، وحضورهم بين الجماهير أساسياً.

أما الفصائل الفلسطينية لا سيما فصائل اليسار واستناداً إلى مرجعيتها الفكرية والأيدلوجية التي نشأت وفقاً لها، فقد كانت ترى بالعمال والفلاحين وبطبقة البروليتاريا، بأنها الطبقة التي يجب أن تشكل الطليعة في النضال الوطني الفلسطيني ضد الاستعمار والاحتلال، ولكن هذه الفصائل لم تنجح إلى حدٍ ما في تنظيم الفلاحين والعمال في صفوفها كما ينبغي، بحيث يكونوا الطليعة في النضال بأشكاله المختلفة، ولكنها نجحت في تنظيم الطلبة سواء داخل أو خارج الوطن، وعلى هذا النحو شكل الطلبة وحركتهم الطلابية الركيزة الأساسية لمختلف الفصائل، وأحد أهم روافد الحركة الوطنية الفلسطينية،  شارك الطلبة في النضال الوطني الفلسطيني في الفترة الممتدة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي وحتى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994، وفي قيادة العمل التنظيمي والعسكري لعدد من الفصائل الفلسطينية، وفي تلك الفترة أيضاً دفع الطلبة ثمن عملهم الوطني والتحرري واعتقلت قوات الاحتلال عدداً كبيراً منهم، والذين برزوا في قيادة الحركة الأسيرة الفلسطينية داخل المعتقلات بنقل خبراتهم وتجاربهم القيادية من الجامعات إلى السجون، هذا إلى جانب إبعاد عدداً منهم ، واختفاء آخرين.

لعبت الحركة الطلابية في الجامعات دوراً مهماً في مراحل النضال الوطني الفلسطيني، فقد شارك الطلبة في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات، وذلك في المناسبات الوطنية والفصائلية، وكان للحركة الطلابية دوراً مهماً في التصدي للممارسات وسياسات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني. وقد سقط الشهيد الأول للحركة الطلابية في جامعة بيرزيت الشهيد شرف الطيبي بتاريخ 21/11/1984، وهو من مخيم خانيونس، وفي 4/12/1986 استشهد كل من الطالب صائب ذهب من مدينة غزة، وزميله الطالب جواد أبو سلمية من خانيونس، بعد خروج طلبة جامعة بيرزيت في مظاهرة حاشدة للتنديد بجرائم وسياسات الاحتلال ضد أبناء شعبنا.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد شارك نشطاء الحركة الطلابية في قيادة الانتفاضة الأولى في العام 1987، وآخرين في فعاليات الانتفاضة المختلفة، ولعبوا دوراً مهماً ومحورياً في التصدي لقوات الاحتلال والمستوطنين، وعلى مدار سنوات النضال الوطني الفلسطيني، لا سيما في الانتفاضة الأولى والثانية قدمت الحركة الطلابية الفلسطينية عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، وآلاف الأسرى والمعتقلين، كما أبعدت قوات الاحتلال عدداً من نشطاء الحركة الطلابية الفلسطينية خصوصاً في الانتفاضة الأولى. الأمر الذي يقود إلى نتيجة مفادها، أن الحركة الطلابية في فلسطين التي هي أكثر الأجسام الشبابية من حيث التنظيم، ليست حركات نقابية بحتة، بل حركات سياسية ذات أهداف عامة، وهو ما لا يمكن عزله عن كونه نتيجة التعبئة على الانتماء والتثقيف بالمواطنة داخل الحركات والأطر الطلابية.

اليوم الغالبية العظمى من قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، وأعضاء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وأعضاء المجلس التشريعي، والوزراء ووكلاء الوزارات، وقيادات الأجهزة الأمنية، والمجتمع المدني، هم من قيادات ونشطاء الحركة الطلابية الفلسطينية سابقاً الذين واصلوا أدوارهم الطليعية بعد تخرجهم من الجامعات.

 

العلاقة المتبادلة بين الحركة الطلابية والعمل الوطني المساواة عند الطلبة

بالنظر إلى الجامعات ، معظم الفصائل الفلسطينية يمكن أن نجد لها تمثيلاً في مؤسسات التعليم العالي لا سيما الجامعات من خلال الأطر والأذرع الطلابية، فهناك حركة الشبيبة الطلابية، والكتلة الإسلامية، والجماعة الإسلامية، وكتلة اتحاد الطلبة التقدمية، وكتلة الوحدة الطلابية، وجبهة العمل الطلابي … إلخ ، والتي تتنافس فيما بينها لاستقطاب جماهير الطلبة من خلال الوسائل الدعائية والتنظيرية ، وتوفير بعض الخدمات للطلبة ، كما كان للأنشطة الثقافية والعلمية والاجتماعية والتطوعية والرياضية والفنية، التي كانت وما زالت تنظمها الحركة الطلابية الفلسطينية في الجامعات الفلسطينية دوراً في ذلك.

فلكل إطار طلابي برنامج تثقيفي، يكون على شكل دورات، وندوات، وورش عمل، ومحاضرات، بالإضافة إلى الكتيبات، والمجلات الدورية، والنشرات، ووسائل الدعاية: كاليافطات، وأشرطة الكاسيت، وغيرها من الوسائل التي تسهم في “أدلجة” العضو وتعزيز ارتباطه بالجماعة، وتؤثر إيجابياً في عملية التنافس لاستقطاب الطلبة غير المنتمين لأي إطار طلابي. ويحتدم هذا التنافس في إطار انتخابات المجالس الطلابية للجامعات الفلسطينية، التي عادة ما تعتبر نتائجها مؤشراً على مدى قوة وجماهيرية التنظيمات السياسية على صعيد الشارع الفلسطيني العام، وليس مجرد فوزاً أو تقدماً لإطار طلابي على صعيد العمل النقابي في الجامعات أو انتخاباً لبرنامجه النقابي فقط، على أهمية البرنامج النقابي في تحديد اتجاهات الطلبة التصويتية والتي لا يمكن عزلها عن رضا أو عدم رضا الجماهير عن أداء الحزب السياسي الذي يمثله الذراع الطلابي في الحيز العام.

وقد كان للحركة الطلابية الدور الكبير والهام في متابعة واقع العملية التعليمية في الجامعات والكليات والمعاهد، الأمر الذي انعكس إيجاباً في قيام إدارات بعض الجامعات بإقرار بعض المتطلبات الجامعية المرتبطة في القضية الوطنية أو تلك المرتبطة في قضايا الانتماء والمواطنة، مثل مقررات القضية الفلسطينية، الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، مكافحة الفساد تحديات وحلول، وغيرها من المساقات التي تعزز قيم الانتماء والهوية والولاء الوطني والمواطنة عند الطلبة.

استطاعت الحركة الطلابية بجهودها وعملها الدؤوب أن تتحرر من البنى العشائرية، ومن هيمنة النظام الاجتماعي التقليدي السائد في الأراضي الفلسطينية داخل أسوار الجامعة، يعود ذلك إلى أسباب عدة لعل أهمها، أولاً أن العلاقة بين الطلبة ليست قائمة على رابطة الدم والقرابة، وإنما قائمة على أساس  تنظيمي حزبي مصلحي (علاقات الزمالة والصداقة)، وثانياً أن المرجعية الفكرية والأيدلوجية لغالبية الأطر الطلابية هي مرجعية تقدمية، وثالثاً أن الانتخابات الطلابية التي كانت تجرى سواء على مستوى الأطر الطلابية أو على مستوى مجالس الطلبة بشكل دوري في غالبية الجامعات ما ساهم في نشر الوعي الديمقراطي البعيد عن العصبيات ، كما أن الانتخابات بذاتها كانت تدور حول قضايا ذات أبعاد سياسية ونقابية، ولم تكن فئوية مناطقية (جهوية) ، ورابعاً يحسب للحركة الطلابية أن أعضائها يصنفون على أنهم (نخبة) إلى حد ما.

لذلك كان الطلبة أحراراً في اختيار أنشطتهم اللامنهجية ، واختيار موادهم الدراسية (الإنسانية) إلى حدٍ ما، ساعدهم في ذلك إدارات الجامعات الوطنية ، وهيئة أكاديمية في غالبيتها كانت محسوبة على الحركة الوطنية الفلسطينية، يضاف لذلك إدخال مفاهيم وأنشطة مرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتربية المدنية والوطنية ، فالمنهاج الجامعي لم يكن يركز على تمجيد وتعظيم “الرئيس” أو “الحاكم” أو خطاباته المتلفزة أو الإذاعية ، والتي كانت جزءً من المقررات والامتحانات كما كانت تفعل بعض الأنظمة السياسية العربية، بقدر ما كانت تركز تلك المناهج على قيم مرتبطة بالانتماء للوطن كشكل من أشكال المواطنة وعلى بناء رؤية نقدية ديمقراطية.

بل أن الحركة الطلابية في معارضها الفنية والثقافية ، وفي احتفالاتها الحزبية والوطنية، وفي مختلف أنشطتها، كانت تمجد الشهداء والأسرى والجرحى والمفقودين، والثورة والمقاومة، والتضحية في سبيل الوطن ، والدفاع عن الأرض ومواجهة المحتل، والاعتزاز بعلاقة تنظيماتها مع حركات التحرر في العالم ، وتآخيها مع الأحزاب التقدمية المعادية للاستعمار والبرجوازية والامبريالية، لذلك كانت الحركة الطلابية “تمجد” قادة الثورة، ليسوا باعتبارهم “زعماء سياسيين” بقدر ما هم مقاتلين من أجل حرية الشعب الفلسطيني.

من المهم الإشارة هنا إلى أن المناخ التعليمي داخل الشعب والفصول الدراسية ، كان تعليماً حوارياً في غالبيته ، خصوصاً في المواد الإنسانية ، كما أن النقاش والحوار بين الطلبة كان ذو بعد وطني، بصبغة ديمقراطية . وفي الفصول الدراسية تعلم الطلبة الحوار والنقاش والاستماع للرأي الآخر، واستخدام الحجة والمنطق وراكموا في تعبئتهم الوطنية.

كما أن غالبية الجامعات لم يسبق لها وأن قامت بممارسة الفصل بين الطلاب والطالبات على أساس جندري ، سواء في الفصول الدراسية أو في الساحات وغيرها . بعض الممارسات المعزولة كانت نتاجاً لحضور صفوف مواد الشريعة مثل (الثقافة الإسلامية) التي تعتبر متطلب إجباري في جزءٍ من الجامعات ، إضافة إلى كليات الشريعة التي تمارس الفصل بين الطلاب والطالبات في الجلوس في الفصول الدراسية . أما انتخابات مجالس الطلبة التي نجحت فيها الكتلة الإسلامية المحسوبة على تيار الإسلام السياسي والتي تمارس الفصل داخلياً بين أعضائها على أساس الجنس سواء بالاحتفالات أو الاجتماعات أو المسيرات وغيرها ، فلم تقم بتطبيق القناعات الأيدلوجية حول الفصل بين الطلاب والطالبات في الحيز الجامعي العام ، سواء في مرافق الجامعة ، أو مجالس الطلبة، أو الأندية الطلابية.

قد يكون من المهم الإشارة هنا ، أن البيئة الاجتماعية والجغرافية التي تقع فيها الجامعات أثرت ولعبت دوراً في موضوع المساواة والنظرة للمرأة وأدوار النوع الاجتماعي، ذلك (أن الإنسان ابن بيئته) وفقاً لما قاله عالم الاجتماع المعروف “ابن خلدون”، ما خلق نوعاً من التباين في مواقف الكتل الطلابية الإسلامية نفسها من جامعة لأخرى حول قضايا المرأة، ويمكن التدليل على ذلك بقراءة مواقف الكتل الإسلامية الطلابية بين جامعتي “بيرزيت” في الضفة الغربية و”الجامعة الإسلامية” في قطاع غزة على سبيل المثال . وعلى الرغم من ذلك ظلت غالبية الحركة الطلابية لا سيما منها المحسوبة على فصائل منظمة التحرير تعمل وفقاً لمبدأ المساواة وعدم التمييز بين الجنسين، ولعبت الحركة الطلابية درواً أساسياً ومحورياً في تجسيد مبدأ المساواة بين الطلاب والطالبات الذي يعتبر ركيزة أساسية لا غنى عنها في تحقيق المواطنة.

 

واقع الحركة الطلابية وسؤال الخروج من الأزمة: الاستنهاض واستعادة الدور

 

لا أحد اليوم يجادل أن الترهل الذي أصاب الفصائل الفلسطينية، انعكس أيضاً على أطرها الجماهيرية والطلابية، وأن حالة من التراجع أصابت الحركة الطلابية، فالظروف اختلفت عن السابق، بل الأدوات وطرق العمل لم تعد كما كانت في السابق إلى حدٍ ما.

اليوم تعيش الحركة الطلابية الفلسطينية تراجعاً حاداً، بفعل عدد من التحولات التي شهدتها داخل بنائها وخطاباتها وممارساتها، وبفعل التغييرات الدراماتيكية على المستوى العام والتي لم تستطع امتصاص صدمتها، خصوصاً اتفاق أوسلو، وما تلاه من تأسيس للسلطة الوطنية وتحول عنيف في النظام السياسي الفلسطيني، وما أفرزته هذه التغيرات من وجود معارضة ومولاة للمرة الأولى في تاريخ الحركة الطلابية، بعد أن كان التناقض الوحيد مع الاستعمار، وطغيان الطابع الخدمي على البعد الوطني والنقابي والسياسي المتزامن مع هيمنة خطابات تعلي الخلاص الفردي على حساب الهم الجمعي في المجتمع، وحالة عامة من التيه والتخبط وانتشار الخطابات الشعبوية والعنيفة، عوامل أدت متراكمة إلى خفوت بريق الحركة الطلابية وخبو وهجها وحولت بنى الأطر الطلابية من منصات انتماء ونضال إلى هياكل ذكورية ضعيفة تعلو فيها المصلحة الفردية على مصلحة الجماعة، هذا إلى جانب تغيب الطالبات عن المشهد.

أسباب كثيرة أدت إلى ترهل وتراجع دور وحضور الحركة الطلابية في المشهد الوطني، ولكن ما هو السبيل لإعادة إحياء دور الحركة الطلابية المنشود؟

بات المطلوب اليوم من الحركة الطلابية الفلسطينية، العمل على عقد مؤتمر وطني تقييمي شامل، لاستخلاص العبر وللخروج برؤيا من شأنها أن تعيد للحركة الطلابية بريقها وحضورها وفاعليتها، وإعادة النظر في اللوائح والأنظمة التي تحكم سير عمل الأطر الطلابية، وإجراء الانتخابات الدورية لمجالس الطلبة في الجامعات كافة، بمعزل عن التأثر بالظرف السلبي العام.

وهو ما يجب أن يترافق مع نشر وتعزيز ثقافة الحوار وقبول الآخر بين الطلبة، ومراجعة الأطر الطلابية لمجمل خطاباتها، وفتح حوار دائم بين الحركة الطلابية وإدارات الجامعات ومنهجته، وتحييد مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية عن الخلافات التنظيمية والفصائلية، وضمان عدم تدخل المؤسسة الأمنية الفلسطينية في الشؤون الداخلية للجامعات وللحركة الطلابية، والتوقف عن ملاحقة الطلبة من قبل الأمن الفلسطيني على خلفية العمل النقابي أو الانتماء السياسي، وإجراء تعديلات جذرية على دساتير مجالس الطلبة بما يضمن حضور الطالبات في المشهد الانتخابي، يضاف لذلك تعزيز مشاركة جميع الأطر الطلابية في عضوية مجلس الطلبة التي تتخطى نسبة الحسم، على أرضية التمثيل النسبي المباشر.

أيضاً هنا مهم الإشارة إلى موضوع اختيار مرشحي أعضاء مجلس الطلبة وأعضاء الهيئة الإدارية والمنسق، وأعضاء نوادي الكليات، إذ أصبح اختيارهم، كمرشحين لمجلس الطلبة استناداً لأبعاد مناطقية جهوية، بعيدة عن الكفاءة والحضور والجماهيرية، على الرغم من أن الاختيار يجب أن يستند على معيار الكفاءة، والقدرة على خدمة الطلبة والدفاع عن مصالحهم، بعيداً عن المناطقية و(الشللية)، والحسابات التنظيمية الضيقة، وهو ما يجب السعي باتجاه تحقيقه. كما أن رئيس مجلس الطلبة ومنسق (الإطار الطلابي)، يجب ألا يكون من نفس المحافظة التي تقع بها الجامعة، كما جرت العادة مؤخراً عند بعض الأطر الطلابية في بعض الجامعات.

أما على مستوى الأطر الطلابية فمن الضروري أن يكون هناك تمثيل أعلى للطالبات في الأطر الطلابية يساوي نسبتها، والتي تزيد كثيراً عن نسبة الطلاب الذكور في مؤسسات التعليم العالي، وذلك تعزيزاً للمساواة وعدم التمييز، وتأكيداً على مبدأ المشاركة في الحياة الطلابية. كما سيكون مفيداً للحركة الطلابية الاستفادة من أنشطة المؤسسة الرسمية والأهلية الفلسطينية من أجل تحقيق أهدافها، لا سيما فيما يخص رفع الوعي والتمكين، وتعزيز قيم الانتماء والهوية الوطنية والمواطنة، والتركيز بشكل مباشر على القضايا النقابية التي تهم الطلبة، لا سيما جودة التعليم، وإدخال مقررات جامعية جديدة تلبي حاجات الطلبة، والتصدي بحزم لظاهرة خصخصة الجامعات، ومواجهة ظاهرة “تجارة” بعض التخصصات سواء في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، ومواجهة ظاهرة التطبيع، ونقل ملف انتهاكات قوات الاحتلال ضد الطلبة والأساتذة والجامعات إلى الاتحادات الطلابية العالمية، وحث المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية لأخذ دورها في توفير الحماية للجامعات الفلسطينية والحق في التعليم.

كما أن تعزيز التنسيق والتعاون المشترك بين مختلف الأطر الطلابية في مؤسسات التعليم العالي، يشكل مدخلاً مهماً وأساسياً في تبادل الخبرات والمعارف، بما فيها إعادة إحياء مخيمات العمل التطوعي على مستوى جامعات الوطن، واعتبار ذلك أحد المداخل الأساسية لتعزيز المواطنة كقيمة، والتفكير بشكل جدي في تطوير آليات وأدوات العمل التطوعي للانتقال من العمل التطوعي التقليدي للعمل التطوعي الاحترافي.

 

كما نعتقد أن على الحركة الطلابية الانتباه إلى ضرورة ربط الجامعة بالمجتمع بشكل أكبر وأكثر لتعزيز ونشر ثقافة المواطنة والانتماء والشعور الوطني، وذلك في مواجهة ثقافة التمييز وعدم تكافؤ الفرص، عن طريق عقد المزيد من الأنشطة داخل وخارج الجامعة بالشراكة مع البلديات، ومؤسسات المجتمع المدني، والوزارات المختلفة.

وتطوير خطابها لكي يكون خطاباً تنويراً تحررياً، مناهضاً لخطاب الكراهية والعنف والتطرف، وأن تعمل مع إدارات الجامعات لمراجعة المقررات الجامعية بما يسهم في بناء شخصية الطلبة، وتزويدهم في المعارف الأساسية ، على أن تكون تلك المناهج جديدة ومنسجمة مع التقدم الذي وصلت له الجامعات في مختلف دول العالم ، مناهج تسهم في تنمية التفكير النقدي والرؤى التحليلية.

أخيراً ، إن استعادة الحركة الطلابية لدورها للحفاظ على الهوية الوطنية، يتطلب مزيداً من التصاقها بجماهير الطلبة، وبالعمل معهم، وبضرورة استقطابهم لصفوفها، وباستخدام أدوات وآليات عمل جديدة، في مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، كما يتطلب ذلك من الحركة الطلابية الانخراط بفاعلية أكثر في القضايا الوطنية العامة، وتعزيز مشاركة الطلبة في الشأن العام، وتحصين الطلبة من الأفكار المشبوهة التي تستهدف الوطنية والكينونة والكيانية الفلسطينية . بعبارة أخرى الحركة الطلابية مطلوب منها مواجهة كي الوعي الجمعي والفردي الذي يستهدف الشباب الفلسطيني وفي مقدمتهم الطلبة ، من خلال بنائها ومساهمتها في تشكيل الوعي الفردي والجمعي لهم بما يؤدي لاستعادتها أدوارها ومحوريتها.

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.