غسان كنفاني.. وتحرير فلسطين بأبناء الغير! / د. فايز رشيد

 

د. فايز رشيد ( الأردن ) الأحد 10/7/2016 م …

من أقوال غسان كنفاني: ما كتبه عن الكفاح المسلح ومن أنه «لن يكون مجديًا إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم». كما دعا إلى «المزاوجة بين النظرية والممارسة». وعى غسان كنفاني حقيقة الدولة الصهيونية والحدود العليا التي قد تصل إليه في التسوية، لذلك رفض ما يسمى بالدولة المستقلة أو الحل المرحلي.

لكثرة المواضيع, تراني أدمج موضوعين في مقالة واحدة, بالرغم من أنني أكتب ست مقالات أسبوعيا لخمس صحف عربية! لكن الأحداث أوسع وأكبر من أن يتابعها مطلق كاتب. الذكرى الرابعة والأربعون لاستشهاد رائد الأدب التحرري الفلسطيني والعربي وأحد الرواد التحرريين العالميين. وبالرغم من استشهاده مبكرا في السن, دخل الأدب من أوسع الأبواب، نال العديد من الجوائز العربية والعالمية عن نتاجاته، وهو يعد في مصاف ارنست همنجواي وديستويفسكي وتشيخوف، استشهد من أجل قضيته ومبادئه مثل لوركا، وهو أديب من نمط سومرست موم وجون شتاينبك وكالدويل وجيمس جويس وغيرهم من الأدباء العالميين، كان وهو من الصعب على جولدا مائير في حياتها, وإسرائيل حتى هذه اللحظة, أن تدرك أن الجرائم البشعة التي اقترفت بحق كنفاني وغيره من الشهداء الفلسطينيين والعرب, وإن كانت قد أزالتهم وتزيلهم جسديا، لكنها خلدتهم وتخلدهم، فهم أحياء في ضمائر شعوبهم وأمتهم وكل القوى المحبة للإنسانية والعدل والسلام. غسان كنفاني حي في قلوب كل محبيه.

 

لقد امتلأتَ بالوطن الفلسطيني, وهو امتلأ ببقايا من جسدك, وقد انتشرت أشلاء منه في الغيم وفي الريح. امتصصنا غيابك بالحزن ومزيد من الانتساب للوطن الخالد.. يا من علّمتنا القدرة على العطاء. ليس منا من يحب الموت, لكنه في بعض حالاته يقترن بالفداء, بالتضحية والجمال, محولا بشاعته إلى سفر تكوين أزلي!.. هكذا أنت أيها الجميل في موتك, وقد تحوّل بما تركت, حياةَ أفق ممتد في التاريخ والمستقبل, يزنّره وطننا ويرعاه بانتظار الاكتمال الأخير, حين نحضنه ويجمعنا كلنا! إنه الوطن المخبأ في حنايانا, في قلوبنا وأرواحنا.

من أقوال غسان كنفاني: ما كتبه عن الكفاح المسلح ومن أنه «لن يكون مجديًا إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم». كما دعا إلى «المزاوجة بين النظرية والممارسة». وعى غسان كنفاني حقيقة الدولة الصهيونية والحدود العليا التي قد تصل إليه في التسوية، لذلك رفض ما يسمى بالدولة المستقلة أو الحل المرحلي. لم يكن غسان كنفاني منظّرًا في برج عاجي، بل عاش حياة البساطة والعمل مع أبناء شعبه في المخيمات. كان مثقفًا عضويًّا بامتياز، ارتبط بجماهير شعبه وعبّر عن قضاياها. بالفعل يستغرب الإنسان هذا الكم الهائل من النتاج في عمرٍ قصير. أنجز 6 روايات (منها من لم تكتمل), 5 مجموعات قصصية, 4 دراسات, ورسائل. عدا عن الأعمدة الصحفية باسمه الصحيح, والأخرى باسم فارس فارس. هو صحفي بامتياز, رأس تحرير العديد من الصحف العربية, وآخرها مجلة الهدف.

لعل من أجمل روايات كنفاني, رواية «أم سعد» عن امرأة فلسطينية عاشت في المخيم فقيرة كما كل الفقراء, وهم دوما مادة الثورة. ولعل من أجمل من عبّر عن تضحيات الفقراء في الثورة الشاعر الصديق إبراهيم نصرالله, من وحي عملية الشهيدين أبناء العم صبحي ومجدي أبو جامع (قتلهما الأوغاد بعد أسرهما) في العملية الفدائية المعروفة بـ»الحافلة 300 عام 1984», يقول نصرالله في قصيدته بعنوان «الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق»: هادئٌ بحر غزة. هل جهّزت أمك الزاد؟ نصف رغيف وعشرين زيتونةً… برتقالة. فالطريق طويل إلى عسقلان, ركضَتْ تحت سقفين, دارتْ هنالك في «الحوشِ». سبعونَ عامًا ولما تزل طفلةً كغزالة. قلت يا أمُّ: ها عسقلان هنا, وهي أقرب من بابنا. لا عليك إذن لا عليك, واسمع الآن ما سأقول: إذا كثر الجند, كن يا صغيري قويًّا, وكن مثل نهدي الذي أرضعكْ, ومثل حليبي الذي جف من زمن.. طيبا, ولا ترتبك, إن قلبي معك. الخنساء الفلسطينية فقدت أبناءها الخمسة وثلاثة من أقاربها, ماتت منذ أسبوع, هي فقيرة وفيها أقول: مضت جدائلُك ..الفلسطينية… وهجًا… سوفَ أرقبهُ… يا من فتحتِ.. الأفقَ… ودقّت للفدا.. بابا. خنساءُ..أنت الأمُّ.. أنتِ.. الأختُ.. أنت حقيقة… بل أنت.. آلهتي.. ومن ضحايا… جعلتِ الأرضَ… محرابا.

أما الشريحة البورجوازية في شعبنا, فإن أصحابها إن أرادوا النضال (تباهيا بالطبع), وفي محاولة إقناع أنفسهم بـ»أنهم يعملون من أجل فلسطين», يفعلون ذلك من خلال العشاءات الفخمة, التي ينظمونها في الفنادق, ويجري التبرع بثمن تذاكرها المرتفعة السعر(والتي لا يقدر عليها حتى أبناء الطبقة الوسطى!) لجهة فلسطينية. أخطأت وذهبتُ إلى إحداها مرّة! فترى العجب العجاب: أحدث الأزياء العالمية, كما الروائح والابتسامات المزيفة باصطناع, كالتي رسمها سلفادور دالي في لوحاته السوريالية. رأيت هناك, منظرا متعاكسا مع نضالات فقرائنا, فخرجت فورا. هؤلاء لا يتقنون سوى نقد التنظيمات بالسؤال: ماذا فعلتم وماذا تفعلون, وصرتم مثلهم؟ كذلك منذ سنوات, وتنفيذا لقرار صادر من قمة عربية, قررت العديد من الدول العربية (وبخاصة دول الخليج) حسم نسبة بسيطة% من راتب كل فلسطيني يعمل لديها, والتبرع بالمبلغ المجموع لمنظمة التحرير الفلسطينية. انزعج كثيرون من الفلسطينيين من ذوي الرواتب الكثيرة, وابتدأوا الهجوم على الفساد في الثورة(حالات لا ننكرها بالطبع) لكن جهات أخرى كثيرة نظيفة وشريفة في مسلكيتها الثورية موجودة أيضا, وبإمكانهم التبرع لها. البعض جعلوا من أنفسهم أوصياء على الثورة من خلال مبلغ مالي شهري بسيط (لو تُرك الأمر لهم, لما تبرعوا بالطبع, تحت تبرير أن كل شيء في الثورة فاسد!)), يتبرعونه إجباريا وليس اختياريا. هؤلاء مع تحرير فلسطين, ولكن بتضحيات أبناء غيرهم, دون أن يدفعوا نقطة دم واحدة. أذكر مرّة وبعد استشهاد محمد سعدات, شقيق القائد أحمد سعدات, أن دعاني تلفزيون أبو ظبي على برنامج سياسي, وكان الضيف الآخر, أحد قادة السلطة الفلسطينية (هو مبتسم دائما)! زاود الأخ الضيف على كل من اعتبرهم (ينظرون) من الخارج! وعلى كل من يأتي إلى رام الله (وكأنه بأيدي السلطة إدخال الناس! يا سبحانك يا رب!)! أفهمه المحاور جابر (لم أعد أذكر الاسم الثاني, من يعرف يذكرني) حقيقتي وشرح له عن حياتي, وسأله بما معناه: لماذا لم نسمع عن شهيد من أبناء قادتكم؟ ارتبك الضيف, وناولته من جهتي, وضحكتُ في نفسي بعد أن أسقط في يده. هؤلاء بالطبع يدرِّسون أبناءهم في الولايات المتحدة وبريطانيا (ورغم أرصدتهم الضخمة, يرسلونهم منحا على حساب الثورة). لقد وصف الشهيد كنفاني هؤلاء (والبورجوازية الماصة لدماء البشر عموما) بالقول: «يسرقون رغيفك, يعطونك منه كسرة, وعليك أن تقوم بشكرهم»! ألم أقل لكم, إننا نفتقد شهيدنا الحيّ, وبخاصة في هذا الزمن الرديء!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.