من تاريخ النضال الطبقي والإجتماعي بالولايات المتحدة … 28 آب/أغسطس 1963 – مسيرة في واشنطن من أجل الوظائف والحريات / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 8/6/2022 م …
قدم الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كينيدي إلى الكونغرس في 19 تموز/يونيو 1963، مشروع قانون بشأن الحقوق المدنية، متجاهلاً المطالبات الاقتصادية، وأثار هذا الرفض المقنع للمطالب الاجتماعية والاقتصادية غضب العمال السود، فبَادَرَ النقابي الأسود “آسا فيليب راندولف” (1889 – 1979) لاقتراح تنظيم مسيرة بعنوان “مسيرة من أجل التوظيف والحرية”، وتم إقرارها في 2 تموز/يوليو 1963، من قبل ائتلاف من منظمات السود، يمثله القادة الرئيسيون للحركة: النقابي راندولف (صاحب بادرة هذه المسيرة) وروي ويلكنز وجيمس فارمر وجون لويس ويتني يونغ ( – Urban League – العصبة الحضرية) ومارتن لوثر كينغ، وتم اختيار الشيوعي السابق بايارد روستين (1910-1987) مُنسِّقًا.
شكّلت هذه المسيرة أحد الأحداث الحاسمة في نضال الأمريكيين السود من أجل الحرية والمساواة، بعد قرن من قرار “تحرير العبيد” الذي أصدره أبراهام لنكولن سنة 1865، وجاءت فكرة المظاهرة في العاصمة الفيدرالية من النقابي آسا فيليب راندولف، الذي سبق له أن هدد الرئيس روزفلت، خلال الحرب العالمية الثانية، سنة 1941، بمظاهرة ضد استبعاد السود من الصناعة العسكرية، واضطر روزفلت إلى إعلان نهاية استبعاد العمال السود من صناعة الأسلحة.
جرت المسيرة في واشنطن في 28 آب/أغسطس 1963 بدعم من العديد من الفنانين مثل مارلون براندو وبول نيومان وجوزفين بيكر وجوان بايز وبوب ديلان وماريان أندرسون، فيما بذل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ووسائل الإعلام جهودًا كبيرة لتشويه وتخريب المشروع، بدعوى أنها مبادرة لإثارة الشغب وممارسة العُنف، وانطلقت المسيرة، بمشاركة 250 ألف شخص (بحسب مجلة نيوزويك) وأكثر من 300 ألف شخص (بحسب المنظمين)، 20% منهم من البيض، ثم توجّهَ الجميع نحو نصب “أبراهام لنكولن” لسماع خطاب كل زعيم، وألقى “لوثر كينغ” خطابه الشهير بقوله “لدي حلم” ( I have a dream )، وحظيت المسيرة والخطب بتغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية والدولية، وتمت قراءة خطاب جيمس فارمر، الذي كان مسجونًا في لويزيانا، من قبل فلويد ماكيسيك، وكانت جوزفين بيكر المرأة الوحيدة التي ألقت خطابًا، أما في الجانب الفني، في نهاية التظاهرة، فقد شاركت عدة فرق موسيقية (الثلاثي بيتر، بول أنسد ماري – أوديتا – مطربو الحرية …) والمغنون ماهاليا جاكسون وماريان أندرسون وبوب ديلان وجوان بايز …
عند إطلاق المُبادرة، أجرى النقابي الأسود “آسا فيليب راندولف” مفاوضات صعبة مع القادة السود، مثل مارتن لوثر كينغ، وكذلك مع قادة المنظمات العمالية الوطنية الذين رفضوا دعم مطالب العمال السود، باستثناء والتر ريوتر، زعيم اتحاد عمال السيارات، فيما أعربت النقابات العمالية المحلية وبعض الكنائس عن دعمها للعمال والمواطنين السود.
تظل هذه المسيرة واحدة من أكبر التظاهرات السياسية في الولايات المتحدة، وكانت مثل هذه التظاهرات تُؤَشِّرُ إلى ارتفاع معنويات المواطنين السّود الذين عانوا قُرونًا من العُبُودية والإستغلال والإضطهاد، ولا يزالون عُرْضةً للعنصرية والإقصاء والإغتيال، وكانت مسيرة 28 آب/أغطس 1963 إحدى حَلَقات نضال الأفروأمريكيين، فقد سبقتها عدة دعوات للمقاطعة ومظاهرات كما حدث في برمنغهام، المدينة التي تعتبر الأكثر تمييزًا في البلاد، أما فيليب راندولف (رمز الحركة النقابية السوداء) فقد تمكّن من الحصول على أحد المكاسب، عند تهديده روزفلت، سنة 1941، وتأجلت المسيرة التي هَدَّدَ بها، لتنطلق بعد 22 سنة، من أجل حقوق السود.
تعرضت هذه المسيرة لانتقادات شديدة على وجه الخصوص من قبل مالكولم إكس ومانينغ مارابل، اللّذَيْن يعتبرانها بمثابة تعبئة تهدف استعراض القوة، دون الرغبة في حصول تعبئة وتغيير في وضع السكان السود، وأثارت هذه المسيرة العديد من الإنتقادات والتنافس بين قادة المنظمات السوداء، وأعرب لوثر كينغ و “المعتدلون” عن مخاوفهم من “التطرف”، لا سيما من جانب حركة الطلاب السّود (لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية – SNCC) بقيادة الخطيب الشاب جون لويس.
مكّنت التغطية الإعلامية من إبْراز نضال الأمريكيين الأفارقة من أجل المساواة، ما أدّى إلى إقرار قانون الحقوق المدنية للعام 1964 الذي يَحْظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، وفي العام 1965، اعتمد الكونغرس “قانون حقوق التصويت” الذي يحظر التمييز العنصري في التصويت، وبذلك استغرق تطبيق تدابير 1865 قرنًا كاملا، ولا يزال السّود في أسفل درجات السُّلّم الإجتماعي.
اشتد الفصل العنصري في الولايات المتحدة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، رغم التّحَرُّري القانوني أو الشّكلي للمواطنين السُّود، من أحفاد العبيد، الذين يُشكّلون حوالي 12,5% من العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، ولكنهم محرومون من الحقوق المدنية، وكانوا ضحية الفصل العنصري في المؤسسات المفتوحة للعموم، كالفنادق والمطاعم أو الحدائق والملاعب الرياضية، وكذلك في المدارس، وفي وسائل النقل العام، ويُؤَدِّي الحرمان من الحقوق إلى التمييز في العمل وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، وهو المَيْز الأشد قسوة، بل لا يزال المواطنون السود يعانون من عنف الجماعات الأشد يمينية، ومنها المليشيات المُسلّحة، والمنظمات أو الأفراد العنصريين الإرهابيين، وكذلك العنف المؤسسي، بواسطة أجهزة الشرطة والقضاء من خلال الشرطة وجهاز القضاء، وهي نفس الممارسات والأسباب التي أدّت في العام 1964 إلى اندلاع احتجاجات في أحياء ومعازل السود بالمدن الصناعية الكبرى، حيث يسود البؤس والاكتظاظ السكاني ونقص التغذية، في شيكاغو وكليفلاند وفيلادلفيا وهارلم وغيرها، وانطلقت أعمال شغب، ذات صبْغَة عنصرية، تَلَتْها احتجاجات، بين سَنَتَيْ 1965 و 1968، في حي واتس، وهو أحد معازل السّود في لوس أنجلوس وفي ديترويت ونيوارك ونيوجيرسي والعديد من المدن الأخرى، أسفرت عن المئات من القتلى، وفي العام 1965 أيضًا تم اغتيال “مالكولم إكس”، وكانت حركة الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي واحدة من أعظم نقاط التحول في التاريخ الأمريكي، وتفرّعت عنها العديد من الحركات والمجموعات الأكثر جذْرِية، مثل الفهود السّود، لكن جهاز الدّولة الأمريكية، الذي يُمثّل أقوى قُوة رأسمالية في العالم، تمكّنَ من قَمْعِ هذه الحركات، ولم يستسلم المواطنون السّود والفُقراء، بل انطلقت حركة إضرابات واسعة خلال النصف الثاني من سنة 2021، وكذلك خلال السنة الحالية (2022)، وزاد عدد الإحتجاجات على عُنف الشرطة، أي عنف الدّولة والسُّلُطات المحلّية…
التعليقات مغلقة.