محمود وتد.. بروفيسور فلسطيني وفلاح مقيم في ولاية نيوجيرسي باحث في هندسة المعلومات وعاشق الأرض
الأردن العربي – الخميس 30/6/2022 م …
إن حضرت الإرادة توفرّت الوسيلة ومن سار عليها وصل وهذه قصة بروفيسور فلسطيني، محمود محمد وتدو(60 عاما) من جت المثلث داخل أراضي 48 المقيم في الولايات المتحدة وهو باحث ومحاضر في هندسة المعلومات لكنه واسع الثقافة في مجالات شتى بعيدة عن الرياضيات والفيزياء.
ولد البروفيسور محمود محمد وتد في جت لعائلة مباركة الأبناء لأب تاجر وأم فلاحة وربة بيت. وصل في الأسبوع الفائت للبلاد ضمن زيارة للوطن بعد زيارة سابقة تمت في 2019 حيث فقد والدته في ذاك العام وهي أكثر من أثّر على روحه وعلى عالمه وكان الحديث التالي لـ “القدس العربي” معه.
هل تشركنا في انطباعاتك من زيارة الوطن هذه المرة؟
” أثناء إقامتي في الولايات المتحدة، كنت قريبا جداً من فلسطين عاطفياً، روحيًا وجسديًا، كنت أزورها تقريباً كل عام، ولفترة طويلة ولظروف عمل كنت أمكث شهور – ولكن وبسبب جائحة الكورونا منذ مطلع 2019 كنت بعيدا عنها. في هذه الزيارة ومنذ مجيئي تنقلت وزرت معظم فلسطين من هربيا القرية المهّجرة (على حدود غزة) إلى يافا وحيفا وما وراء عكا، إلى أعماق الضفة الغربية وبير زيت ورام الله. هذه أول مرة لم أشعر بوجود منطقة جغرافية تسمى الضفة الغربية، أعلام الكيان الأبيض والأزرق معلقة فى كل مكان حتى على مشارف رام الله الشمالية. المبكي أن اعتراف الكيان بالأراضي الفلسطينية يتم أثناء توقف تطبيق الإئشاد الجغرافي “وييز “عن إعطاء المعلومات عن الطريق وترديده لعبارة: “دخلت منطقة غير آمنة -المدن كرام الله” وبدلا من إعطاء أسماء الشوارع التي يراها ويعرفها يبدأ بترديد “يمينا الى”، “يسارا إلى” بدلا من ذكر أسماء الشوارع نفسها. أذكُر انه عندما زرت أريحا والجنوب في المرة الأخيرة (2019)، وعلى الرغم من الطريق السريع الذي يربط أريحا بالقدس وطرق المستوطنات شعرت أن هناك ضفة غربية مستقلة…. ليس الآن”. وفي هذا المضمار يتساءل وتد: إلى متى سيبقى هذا الوضع الراهن؟… العلاقة بين السيد والعبد، بين المُستعمِر والمقموع؟ إلى أي مدى سيستمر تأجيل الصدام الحتمي؟ وأي جيل سيدفع الثمن؟ من جهة أخرى وبمنطق متفائل- هل ستتكون مستقبلا عوامل طاغية جامعة عالمية لتغليب العدل الإنساني بدون سفك دماء؟
لأي مدى تغير فلسطينيو الداخل بنظرة من خلف المحيط بعدما غادرت البلاد قبل ثلاثة عقود ونيف؟. “للأسف تغيرنا ماديا أكثر من جوهريا في الحياة الثقافية والاجتماعية. مثلا كنا قبل عقود نجتمع على مقولة “يد الله مع الجماعة” أما اليوم فبتنا “حارة كل من يده له”. أو “العب وحدك ترجع راضيا”. مثلا السيارات والهواتف المحمولة وغيرها زادت وتحولنا منظومة استهلاكية تابعة للمنظومة الرأسمالية العالمية التي تشجع الاستهلاك وللأسف لسان حال الكثير اليوم “أنا آكل فأنا موجود”. هناك تطورات كبيرة في العمل والتعليم وزاد عدد المهنيين العرب في أراضي 48 ولكن ثقافيا هم مختطفون لأنهم يقومون بالعمل ضمن منظومة أيديولوجية لا يتماهى معه فالمهندس الذي يذهب للعمل في تل أبيب يضطر للتحول نفسيا و يرتدي قبعة مختلفة ولا يجد في بلده فعاليات ومؤسسات ثقافية تربطه ببلده. علاقاتنا مع المنظومة الصهيونية تقوم كـ أفراد معها وهذا هدفها. نجاح الفرد في مجتمعنا الفلسطيني لا يعود لنجاح المجتمع ودون مشروع وطني على الأقل داخل أراضي 48 سنتجه للضياع”.
بلدتك جت لأي مدى وجدتها قد تغيرت ماديا؟
“هناك تغيير كمي كبير فالدين صار منتجا ومستهلكا ولا يعطينا روحانيات كما كان في الماضي بصرف النظر عن مفهومنا للدين. هل تسّرب الدين في روح الإنسان وشرايينه ويحّوله لإنسان روحاني أو اجتماعي ويبقى محصورا في جسده وأصبح الدين للحفظ والتعبد دون أن يتحول لمعاملات وتغيير البيئة والمجتمع. تغيرنا لكن في الأمور الجوهرية تراجعنا خطوة للوراء. والنجاحات الفردية مهمة لكننا كجماعة نحتاج للتعاون والترابط وعندما كنا في زمن العائلة الممتدة المتماسكة كانت أحوالنا أفضل لأن هذه العائلات الموسعة انهارت واستبدلت بأسر نووية منشغلة بذاتها بالأساس دون بلورة مؤسسات اجتماعية بديلة تكفل التكافل الاجتماعي”.
ما الذي أرسلك لـ نيويورك؟
“هو حب استطلاع بالأساس. تعلمت الثانوية في الكلية العربية الأورثوذوكسية ثم انتقلت لجامعة تل أبيب ثم الجامعة العبرية في القدس. وهنا شعرت بالاغتراب داخل المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية وشعرت بانعدام الثقة معها علاوة على تغيرات شهدها مجتمعي ورغبت بأن أخوض تجارب جديدة في الخارج”.
راض في أمريكا؟ “عمليا لا يوجد فارق بين مجتمع أمريكي ومجتمع فلسطيني فلكل منهما امتيازاته ومثالبه فهناك يوجد حريات وثقة ضرورية للعمل الجماعي وللابتكارات ونحن نفتقدها في المجتمعات العربية”. وردا على سؤال يقول البروفيسور محمد وتد متوددا “ولدت في عائلة مباركة الأبناء عدّت 15 ولدا ولك أن تفاضل بيني وأنا أب لأربعة بينما والدي أنجب 13 ولدا. آمنة بدران من قرية دير الغصون قضاء طولكرم في الضفة الغربية بالأصل وهي قرية جارة لقرية والدي جت. تمتاز والدتي بسرعة البديهة ودائما وجدنا لديها حلولا ودماغها تنفيذي بعكس دماغي التحليلي وهذا ما ورثته من أبي. أمي أمية لكن الحياة عركتها وأكسبتها مهارات متنوعة. والدي محمد أحمد عبد الكريم وتد ولد عام 1908 وعمل في التجارة وكان همزة وصل بين الريف والمدينة في عمله التجاري”.
نعود للبدايات متى قرّرت أنك ستكون مهندسا؟
“في البدايات لم أرغب بالذهاب للهندسة فكرّت بالعمل ومصدر الرزق ولا بالمواضيع المحببة على القلب. كنت أحلم أن أكون مخرجا سينمائيا في فترة شبابي والأهل رغبوا أن أصبح طبيبا فتوصلنا لحل تسوية وهو الالتحاق للهندسة. الأهم أننا أحب ألا يتدخل في أحد أو يقمعني وألا اتدخل بأحد ولذا رضيت بتعلم الهندسة وحريتي الكاملة نبعت من كوني فلاحا من عائلة فلاحين. في قريتي لم يكن سوى مدرسة ابتدائية وفتشت عن مدرسة ثانوية في مدينة للاطلاع على ثقافة المدن والاستفادة منها وهذا ما حصل فقد وجدت ضالتي في حيفا وأنهيت المرحلة الثانوية في الكلية العربية الاورثوذكسية حيث صغت هويتي المركبة من ثقافة الفلاحين ومن الحداثة المكتسبة. واستنتجت لاحقا أن مفهوم الهجرة في الإسلام مهم جدا لأنها تعني الحركة والحركة بركة وفرصة للتعلم وامتلاك التعددية وتقبل الآخر والتنوع وهذا يجعل المجتمع أكثر مناعة”.
من أكثر المعلمين في الكلية العربية الاورثوذكسية قد ترك تأثيرا عميقا عليك؟
“كنت أبيت في قسم الداخلية وحنا أبو حنا ترك بصمة كبيرة على روحي من ناحية تقريبي من شخصية المثقف المستقل وحرية الفكر وحب اللغة العربية. تخرجت منها وذهبت لجامعة تل أبيب وفيها درست الهندسة الميكانيكية وفي التزامن كنت أعلّم فيزياء في ثانوية مدينة الطيرة وأعتز أنني أسسّت فرع الفيزياء فيها ومنه تخرج عدد كبير من الطلاب صاروا أطباء ومهندسين ومحاسبين. عملت 4 سنوات معلما حتى انتقلت للجامعة العبرية في القدس وفيها حزت على الماجستير في التكنولوجيا التطبيقية وتخصص في علم المواد”.
بين حيفا ويافا
وحول تجربة المدينة وبالذات حيفا يقول وتد”حبيت حيفا ولكن كنت وما زلت أحب يافا فهي مركز الثقافة الأول في فلسطين ووجهها، مدينة المسارح والفنون والصحافة منذ عقود طويلة وكانت حيفا في البدايات قرية مقابلها رغم أنها عروس الكرمل”.
البحث عن أفق خلف المحيط
وعن سؤال الانتقال للولايات المتحدة قال إنه سافر بسبب عدم الثقة بيني وبين المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية والفضول والبحث عن تحديات جديدة سافرت للولايات المتحدة والتحقت في جامعة في كاليفورنيا وتعلمت الإدارة، أي من البناء إلى المسؤولية في البناء. انتقلت لجامعة تكساس وقدمت ماجستير جديد وانتقلت لجامعة نيويورك. لاحقا عملت محاضرا باحثا في جامعة وليام بيترسون في نيوجيرسي بدءا من 1994 وهي جامعة خاصة تعنى بمساعدة الطلاب الفقراء وطلاب الأقليات وفيها أنا مختص بإدارة المنظومات المعلوماتية والمعرفية وهدفها مساعدة الشركات على العمل أفضل وفعلا في الولايات المتحدة وجدت أن الحركة بركة”.
وفي الغربة البعيدة تزوج محمود وتد من سيدة مقدسية تدعى نيروز(عيد الربيع في إيران) وكانت قد تخرجت من بير زيت من جامعة بير زيت في موضوع الحسابات وفي أمريكا حازت على ماجستير في تدقيق الحسابات والآن في طور الانتقال للمنظومة الأكاديمية للعمل في تدريس الحسابات في جامعة أمريكية. وردا على سؤال يتابع حديثه عن أسرته” بنتي الكبرى ياسمين تعلمت علم الأعصاب في جامعة أمريكية وما لبثت أن انتقلت لعلوم سياسية ومشروعها الأساسي الآن تعلم الحقوق والانخراط في الدفاع عن القضية الفلسطينية. وابني ماجد طالب في الثانوية موهوب في الموسيقى والعزف ورزقنا بتوأمين نور وآدم والعائلة التي وهبها الله بتوأمين هي عائلة محظوظة وسعيدة ونور تحمل عقلية تنفيذية كوالدتي أما آدم فعقليته تحليلية مثلي وكافتهم محبون للمطالعة لكنهم مختلفون من ناحية إجادة العربية رغم أننا نعلّمهم داخل البيت لكن بنتي ياسمين تتقن العربية على أكمل وجه. أنجبنا أربعة أولاد وكان النظام أن ننجب ثلاثة لأن إثنين قليل وأربعة كثير وحسب علم الاجتماع ثلاثة أولاد يعني ماكو مهارات داخل البيت تناسب مهارات خارجه”.
ويكشف عن محاولة غير موفقة للعمل في العالم العربي ويقول”عملت في المغرب لمدة عام ضمن مشروع لتشجيع الابتكارات لكنني اكتشفت أن الدولة هناك لا توفّر الشروط المطلوبة لذلك مما يدفع نحو هجرة العقول العربية للمغرب. عدت للولايات المتحدة واستأنفت عملي في التعليم والبحث داخل الجامعة وتابعت مسيرتي رغم إصابتي بمرض نادر يقيد حركتي أحيانا”.
لا عدالة بلا أخلاق
وردا على سؤال حول طبيعة المجتمع الأمريكي واحتمالات التغيير عليه يقول وتد”تهمني منظومة العدل وهناك أنشط بين الأميركيين لإطلاعهم على عدالة القضية الفلسطينية. هناك تزايد في عدد الشباب الأمريكيين ممن يتعامل مع القضية الفلسطينية بشكل أفضل لكنه يحتاج لدعم الطبقة السياسية الفلسطينية. هذا الجيل الأمريكي الجديد بمن فيهم اليهود الأمريكيون اليوم بخلاف المؤسسة الحاكمة أقرب نسبيا إلى فلسطين من قربه لـ إسرائيل وهذا بفضل الإعلام الاجتماعي الذي مكّن الالتفاف على وسائل الإعلام التقليدية الغربية. حس العدل في أمريكا دائما موجود ولكن وجود منظومة توجهه نحو ناحية معينة وتحاول تغريه فتكون النتيجة كما تريد الحكومة. الأمريكيون مادة خام ولكنه يتأثر بالمنظومة الأمريكية السياسية والاقتصادية ولكنه يتأثر اليوم أكثر بشكل إيجابي بالقضية الفلسطينية بفضل الإعلام غير الرسمي. نستشعر ذلك داخل الجامعات وفي الندوات والمؤتمرات لكن هذه المسيرة تحتاج لمركز سياسي فلسطيني يغذي الطبقات الشبابية الأمريكية بمن فيهم اليهود ويوسع مداركهم المعرفية. هذا التغيير لم يحدث بسبب الجهود المؤسساتية الفلسطينية من خلال إستراتيجيات نافذة)، إنما من خلال جهود فردية وجماعات صغيرة فلسطينية. في النهاية، من المهم التشديد على أنه من دون رؤية واضحة لما نريده وبدون حركات مبنية للنهوض بالقضية من خلال خدمة الناس بدلاً من التلاعب بهم واستغلالهم لأهداف ضيقة وانتهازية، لن نستطيع تغيير واقعنا وعليه يجب علينا أن نتكاتف ونعمل كفريق كلٌ منا يعرف دوره للوصول إلى الهدف. وفي هذه المناسبة نؤكد أن الاستمرار في الدفاع عن عدالة قضيتنا مهم ومتابعة تجريم الجانب الصهيوني مهم وكذلك متابعة التشديد على لا أخلاقيات للكيان الصهيوني، مهم”.
جمعية للسرد الثقافي
وعن دوره هو شخصيا يقول: “نعم أنشط سياسيا ضمن جمعية أسّسناها لنشر الرواية الفلسطينية في أوساط أمريكية ونقوم بتوزيع كراسات ومواد ومضامين وروايات شفوية ومكتوبة فلسطينية باللغة الانجليزية. نعم يستطيع القارئ الأمريكي أن يفهم قصة قرية فلسطينية مهجّرة في الجليل مثل سحماتا عندما تروى ببساطة وبسرد روائي.أنشأنا في أمريكا برنامج محاضرات تربط الباحث العربي في الغرب مع الوطن من خلال محاضرات معرفية تعطي اتجاهات جديدة ترعاها جمعية أهلية هي عبارة عن منصة للكلام وقام بعض معارفي باستنساخها في مدينة باقة الغربية داخل أراضي 48. وفي الحديث عن ذلك يطلب من الجميع إذا أمكن تسجيل أو كتابة قصص فلسطين قبل وبعد نكبتها منوها لقيامه وآخرون بترجمة كتاب محمد خشان: سحماتا شاهد على النكبة ” وطبعه ونشره بالانجليزية واليوم أفكر أيضا بطبع ونشر كتاب فيه مجموعة شهادات وسرديات (من 20 إلى 40 شهادة).
الجيل الفلسطيني الشاب
وردا على سؤال حول الجيل الفلسطيني الجديد في الولايات المتحدة وهل هو مطلع ومتمكن من رواية شعبه يقول وتد: “نعم ولا. لديهم عواطف جياشة وتنقصهم المضامين والأدوات. وبسيرة الشباب أشارك في مشروع منح في الولايات المتحدة لطلاب من أصول عربية وكانت الجامعة التي أدرِّس بها اول من تصدرت ونجحت بتأسيس هذا المشروع في امريكا. كذلك أنا اليوم موَّجه اكاديمي لطلاب الدكتوراة العرب في أمريكا والعالم العربي”.
البروفيسور محمود وتد محب للتجوال في الطبيعة وتسلّق المرتفعات وشغوف برياضة الكاراتيه وكتابة الشعر وتدغدغه مشاعره الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز وهو حائز على الحزام الأسود في التايكوندو في نادي جامعة نيويورك وكان مدربي أول مدرب للفريق الأوليمبي الأمريكي في هذا الفرع الرياضي. وتد بروفيسور فلسطيني في هندسة المعلومات والمعرفة وما زال مسكونا بحّب الأرض وزراعة الباميا والبندورة أجمل هواياته.
التعليقات مغلقة.