قوة الهيمنة الدينيّة على الفرد والمجتمع / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – السبت 2/7/2022 م




     لم يكن الدين وليد عصر محدد من العصور التاريخيّة في حياة الإنسان, بل هو قديم بقدم تشكل وعي الإنسان ذاته, الذي راح منذ تشكل الارهاصات الأوليّة لهذا الوعي أو التفكير بواقعه المحيط به يتوجه – أي الإنسان – إلى معرفة هذا الواقع وخاصة الطبيعيّ منه والاجتماعي معاً. حيث شكل هذا الواقع بدوره مجموعة كبيرة من الأسرار والألغاز, تكمن في تشكله وحركته وتبدله وتأثيره على حياة الإنسان نفسه.

     إن العلاقة اليوميّة المباشرة بين الإنسان والطبيعة بشكل خاص, وما تحمله هذه العلاقة من جهل الإنسان ذاته بأسرار هذه الطبيعة, جعلته يخاف بعض ظواهرها التي كانت تشكل خطورة عليه كالرعود والعواصف والزلازل والبراكين والصواعق وغيرها, مثلما جعلته بعض ظواهرها الأخرى يأنس لها, وهي الظواهر التي منحته السعادة والدفء والأمان ولقمة العيش والاستقرار. ومع كلتا الحالتين في علاقته هذه راح يتعبد هذه الظواهر الطبيعيّة ويقدم لها الأضاحي وطقوس العبادة, إما خوفاً منها أو حباً لها. ومن هذه الأرضيّة الفكريّة والنفسيّة, بدأ ظهور الدين أو الديانات البدائيّة, وهي الديانات التي ارتبطت بالطبيعة أولاً ثم بالحياة الاجتماعيّة ثانياً. فعلى مستوى الطبيعة عبد الشمس والقمر والكثير من مفردات الطبيعة ومنها الحيوانيّة والنباتيّة, وعلى مستوى المجتمع فيما بعد, راح يجسد علاقاته الاجتماعيّة في حالات تطورها برموز دينيّة, كعشتار آلهة الخصب, وفينوس آلهة الجمال, وديانا آلهة الصيد, وبعل إله المطر وتموز إله الزراعة والرعي, وباخوس إله الحرب وغيرهم الكثير, وكان للتوتميّة/الطوطميّة وعبادة الأجداد والملوك مكانتها الواسعة فيما بعد أيضاً في حياة الشعوب البدائيّة, وهي عبادات لم تزل أثارها قائمة حتى اليوم عند الكثير من المجتمعات ومنها عالمنا العربيّ, فرموز الديانات البابليّة والكنعانيّة والأشوريّة والأكاديّة لازال لبعضها وجود أو حضور فاعل في البنية الفكريّة والنفسيّة والقيميّة لدى مجتمعاتنا, يتجلى في أفراحنا وأحزاننا والكثير من علاقاتنا الماديّة والروحيّة.. فسن الذيب, ونضوة الحصان, ودمغة الكف الملطخة بالدم على جدران بيوتنا, والخرزة الزرقاء, وغيرها الكثير. هي رموز فاعلة عند مجتمعاتنا في الريف بشكل خاص, وحتى في حياة مجتمعات مدننا.

     ومع الديانات التي ارتبطت بشخصيات كاريزميّة كالبوذيّة والكونفوشيوسيّة والمانويّة, ثم مع الديانات  السماويّة التي جاءت في مراحل متطورة من حياة الإنسان, وخاصة الديانات الابراهيميّة, راح الدين يشكل حالة أكثر حضورا وتداخلاً بالنسبة لحياة الأفراد والشعوب العامة والخاصة.

مكانة الدين الإسلاميّ في حياة معتنقيه أنموذجاً:

     على العموم لم يزل الدين حتى اليوم من الناحية الأخلاقيّة والعقديّة يشدنا نحو قيم قوم لوط وناقة صالح وعصا موسى.. ولم يزل الفكر الدينيّ يسيطر على قضايا عصرنا ويعمل بهذا الشكل أو ذاك على حلها.. كما أن الكثير من أساطير الدين وخيالاته التي تشكلت بفعل جهل من قام بتفسير النص الدين وتأويله أو وضعه, وخاصة الحديث منه لخدمة السلطان ومن لهم مصالح أنانيّة ضيقة من المشايخ, لم تزل متجذره في الحياة الشعبيّة والوعي الشعبي بكل مستوياته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. والفكر الدينيّ في عمومه فكر متشابك بآلاف الخيوط مع شبكة حياتنا بكل تفاصيلها من حيث خلقها وسيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, فهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة فيمن مسامات حياتنا اليوميّة المباشرة, كالعطاس ودخول المرحاض والاستنجاء والحيض والنفاس وطريقة السلام أو تأديّة التحيّة ليعضنا, وطريقة أكلنا .. الخ. والأهم من كل ذلك أن للإله قداسته المطلقة عند معتنقي الدين الإسلامي, ومنحه كل ما يدل على عظمته.. فله قدمت ولم تزل تقدم الأضاحي, وطلب بركاته في سائر أعمالنا وحركاتنا وسكناتنا, ولنصرة ونشر دينه جُهزت الجيوش وحاربت باسمه وتحت رايته, وشكرته الشعوب على الانتصارات والخسائر معاً, وله قدمت النذور والصلوات والدعوات, وبنيت المساجد والجوامع وكل دور العبادة, وجمعت لها الأموال باسمه وفرشت بأجود السجاد, وزينت بأغلى وأجمل مواد التجميل والرسوم والمبرقشات, أي كرس الفن الجميل كله من أجله, في الخط والرسم والنحت التي زينت أماكن عبادته, وباسمه أقيمت الأعياد والأفراح وغير ذلك.

     ملاك القول: أمام كل هذه القداسة يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا هنا وهو: هل نعتقد أنه من السهل بمكان أن يواجه هذا الدين بشكله المشوه اليوم ويُحَدَ من تأثيره على حياة الفرد والمجتمع؟. أي هل من الممكن أن يعاد للدين اعتباره الإنسانيّ وقيمه النبيلة التي جاء من أجلها خدمة للإنسان الفرد والمجتمع معاً؟. نقول: رغم أن السوس قد نخر الكثير من بنيته العقيديّة والتشريعيّة من خلال المتكلمين والفقهاء وشيوخ الطوائف والفرق والسلطان, وأن السل قد سيطر على بنية جسده الروحيّة,  وعلى جملة بنية علاقاته الداخليّة من خلال ظهور الطوائف والمذاهب والطرق الصوفيّة, فكانت النتيجة ظهور الكراهية والحقد والتطرف والتفرقة وعدم احترام الرأي الاخر وتكفير المختلف وزندقته وحتى قتله أو التمثيل به. هذا إضافة إلى سيطرة القوى السياسيّة الاستبداديّة ومن في قلوبهم زيغ على تفسير نصوصه وتأويلها لمصالحهم الأنانيّة الضيقة, ودفع الدين والتدين باتجاه تسطيح العقول ودروشتها وأسطرتها.

     إن التربيّة الدينيّة التي تريدها السلطات الاستبداديّة ومشايخ السلطان, هي تربيّة تتعامل مع إنسان الفطرة, الإنسان الطبيعي الذي لوثه الواقع ولا بد من تطهيره وتنقيته روحياً وأخلاقياً وفقاً للخطاب الديني المشبع بالطائفية والمذهبية والطرقيّة, الذي يؤمن به هؤلاء الدعاة والمشايخ ومن يوجههم سياسيّاً. أي يوجههم نحو تربية الحلال والحرام التي أقرت في العصور الوسطى , بعيداً عن التربية الحقيقيّة العقلانيّة التنويريّة المعاصرة التي تهدف إلى تربية الفرد كمواطن في دولة لها قوانينها وأنظمتها القائمة على المواطنة وما تحتاجه هذه المواطنة من عدل ومساواة وحريّة بين مكونات المجتمع والدولة معاً.. أي تربية المواطن الذي يعرف الصح والخطأ فيما يقول أو يفعل من وجهة القانون, مع التأكيد على نسبيّة الأخلاق, الخاضعة بالضرورة للحركة والتطور والتبدل عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, وضرورة اختيار القيم النبيلة التي تحترم الإنسان وتؤكد على إنسانيته, ولا تفرق بين ذكره وانثاه, ولونه وعرقه عند بناء الدولة والمجتمع, فالكل مواطن .. والكل مسؤول عن بناء الوطن والمواطنة معا.   

كاتب وباحث من سوريّة.

[email protected]   

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.