قل لي ما مرجعيّتك … أقول لك من أنت / أ.د. بثينة شعبان
د. بثينة شعبان ( سورية ) – الأحد 17/7/2022 م …
أن ينشغل الغرب بالترويج لآراء هنري كيسنجر حول أوكرانيا في مؤتمر دافوس في أيار المنصرم، ومن ثمّ في لقائه في مجلة “ذا سبكتاتور” في أول تموز الجاري، فهذا أمر مفهوم لأنّ كيسنجر أمضى قرناً من الزمن في خدمة الغرب، وخاصّة في خدمة الكيان الإسرائيلي الغاصب بشتّى الوسائل والطرق، وسخّر كلّ إمكاناته الفكرية والدبلوماسية والعقائدية لذلك.
ولكن أن ينشغل بعض العرب ووسائل الإعلام العربية للترويج لنظريات كيسنجر ومقترحاته، فهذا يعني أنّ من يفعلون ذلك فقدوا البوصلة التي تعبّر عنهم وعن انتمائهم ومصلحتهم.
وللتذكير فقط، فإنّ هنري كيسنجر لعب دوراً أساسياً في أعقاب حرب 1973 كي يقنع السادات بالتوقيع على سيناء 2، بعد أن اخترع سياسة الخطوة خطوة، وبذل قصارى جهده إما لإلحاق سورية بهذا المسار أو لفصل المسار المصري عن السوري، وهذا ما فعله.
وحين زار نيكسون الرئيس حافظ الأسد عام 1974 واتفقا على أسس متكافئة للسلام، وأنّ الأمن يجب أن يتحقّق لكلّ الأطراف، وليس لإسرائيل فقط، استعجل وزير الخارجية كيسنجر الرئيس نيكسون، وعمل على إنهاء الاجتماع. ومن ثمّ لدى عودة نيكسون واجه فضيحة واترغيت وأنهوا رئاسته.
وما يعزيه كيسنجر إلى نيكسون في الشرق الأوسط هو نتاج هندسته هو، ومحاضر جلساته في سورية ومصر تشهد على ذلك حين قال في مجلة “ذا سبكتاتور” في 2 تموز 2022: “في الشرق الأوسط نجح في شقّ عملية السلام، والتي كانت تعتبر جهداً واحداً إلى مقاربة تعتمد الخطوة خطوة، والتي نجم عنها سلسلة من اتفاقات سلام” اتفاقات كانت كلّها لمصلحة الكيان الإسرائيلي، ودقّت إسفيناً في وحدة الموقف العربي مازالت آثاره التدميرية تلقي بنتائجها وليس فقط بظلالها على الوضع العربي من المحيط إلى الخليج.
ومهّد الطريق لاستهداف إسرائيل وداعميها لكلّ دولة عربية على انفراد.
أما فيما يتعلّق بإيران، والاتفاق النووي الإيراني، يقول كيسنجر في المقابلة ذاتها: “في الحقيقة لا يوجد بديل عن إزالة القوة النووية الإيرانية. ليست هناك طريقة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط مع أسلحة نووية في إيران، لأنه قبل أن يحدث ذلك هناك خطر أكيد أن تقوم إسرائيل بضربة استباقية، لأنّ إسرائيل لا يمكن لها الانتظار لأمور ردعية” طبعاً من دون أيّ ذكر لامتلاك إسرائيل أسلحة نووية.
أما بالنسبة للصين، يقول كيسنجر إنه على الصين أن تقبل قواعد السلوك “التي تمّ تطويرها في الغرب”. وبالمناسبة هذا مصطلح جديد أطلقه الأمريكان منذ حوالى عامين كبديل للأمم المتحدة وإعادة التأكيد أنّ الغرب هو الذي يضع القوانين، وعلى العالم أن يطيع إذ لا أحد في العالم يعلم ما هي قواعد السلوك هذه، وكيف تمّ تطويرها، وهل هي بديل لنظام الأمم المتحدة التي أرسيت دعائمه بعد الحرب العالمية الثانية وتسليم القيادة للغرب من خلال إكراه دول العالم على قبول هذه الأحجية الجديدة من قبل الغرب.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فمن الواضح أنّ كلّ نصائح كيسنجر تنطلق من مخاوفه أن يحقق بوتين ما أراد تحقيقه في هذه الحرب، بينما تتجه الأحوال في الولايات المتحدة وأوروبا لأن تسوء أكثر وأكثر في الأيام والسنين القادمة، ولذلك فقد حذّر من إطالة الحرب في أوكرانيا، وحثّ قادة الغرب على حمل أوكرانيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا حتى وإن كانت شروط التفاوض أقلّ من الأهداف التي تريد الخروج بها من الحرب، وقال: “يجب أن تبدأ المفاوضات خلال شهرين قبل أن تؤدي إلى اضطرابات وتوترات لن يكون من السهولة بمكان التغلّب عليها”.
لا شكّ أن كيسنجر يعلم علم اليقين أن هذه الاضطرابات والتوترات ستكون في أوروبا والولايات المتحدة وليس في روسيا؛ إذ من اللافت أن كيسنجر لم يدعُ إلى الحوار بين روسيا والغرب في 2008 ولا في 2014 ولا في 2022 قبل بدء العملية العسكرية في أوكرانيا في 24 شباط 2022، ولكنه يدعو إلى ذلك في 2 تموز 2022 بعد أن حققت روسيا ببطء ولكن بثبات أهدافاً مهمة جداً للعملية التي بدأتها وبعد أن انعكست العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا وبالاً على الغرب نفسه، بينما تمكّنت روسيا من تجاوز كلّ آثار العقوبات التي ارتدّت غلاءً ونقصاً في المواد، وبداية اضطرابات في أوروبا نفسها.
كيسنجر لا يدّعي سوى أنه الحريص على مصلحة وهيمنة الغرب، ولا يخفي حقيقة دعمه الدائم والمستمرّ للكيان الصهيوني واحتلاله لفلسطين، ولكلّ من حاول الاعتداء على حقوق العرب، وأنه بذل قصارى جهده لإخراج مصر من الموقف العربي الموحّد بعد حرب تشرين، وهو فخور بذلك.
ولكن أن يتبنّى البعض من المستهدفين بنظرياته وسياساته رؤاه وتحليلاته وآرائه ومقترحاته على أساس أنه المفكر السياسي العظيم في القرن العشرين وعلى أساس أنه مهندس السياسة الأمريكية فهذا ما يثير الاستغراب.
لا بدّ لنا ونحن نناقش قضايانا وقضايا حلفائنا وأصدقائنا أن نكون واضحين ما هي المرجعيات التي نستند إليها؟ أهي مرجعيات قومية عربية تخدم قضايانا، أم هي مرجعيات الأعداء الذين يستهدفوننا لبست قفازات الفكر الفذّ واللامع، والحيادية الغائبة دائماً عن المواقف والمستخدمة فقط للتضليل وحثّ الآخرين على تقديم تنازلات.
ولنتذكّر أنّ الغرب يلمّع منظّريه، ويسلّط عليهم الأضواء ويرفعهم درجات إلى مستوى الأممية والعالمية، بينما نحن لا نحترم مرجعياتنا ولا نرفع من شأنها لأنّ بعض العقول مازالت مستعمرة تؤمن أنّ كلّ ما هو قادم من الغرب هو بالضرورة رفيع المستوى واستثنائي، وهذا ما عمل الإعلام الغربي على توطينه في أذهان سكان مستعمراته.
فهل نتحرّر نحن جميعاً ونشكّل مرجعياتنا ونثق بها ونسلّط الأضواء عليها، ونكفّ عن الترويج للاستعمار الفكري والسياسي والذي هو لا يقلّ خطورة عن استعمار الأرض؟
التعليقات مغلقة.