«رفقة عمر: مذكرات انتصار الوزير (أم جهاد)»: النساء في ساحة النضال
تروي “أم جهاد” أنها، بعد أعوام من التردّد، قرّرت نشر مذكّراتها بعدما تلقت تشجيعاً من الأبناء والأهل والإخوة الحريصين على توثيق تاريخ الثورة الفلسطينية، فقرّرت تجميع ما كتبته خلال أعوام ماضية واستكماله ثم نشره في كتاب، على الرغم من علمها بأنه “ليس من السهل عليها” أن تختزل مسيرة حياتها مع زوجها، المليئة بالتفاصيل الحلوة والمرّة والقاسية، في عدد من الصفحات.
«رفقة عمر: مذكرات انتصار الوزير (أم جهاد)»، كتابٌ توثّق فيه المؤلّفة بدايات تأسيس حركة التحرر الوطني الفلسطيني “فتح”، كما عاشتها واطّلعت عليها، إلى جانب نخبةٍ فلسطينية نهضت بمشروعٍ وطني، باعتبار أنها كانت فاعلة وشاهدة على تحوّلات ومنعطفات في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من القرن العشرين.
الكتابُ الصادر مؤخراً، عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، ضمن سلسلة “ذاكرة فلسطين”، وثّقت فيه “أم جهاد” أيضاً، تجربتها في العمل الفدائي والنسائي، وتأسيس أول خلية نسائية لحركة “فتح”، وكذلك تأسيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وكيف رحلت وتنقلت حيثما تطلّب الواجب النضالي، فطبعت البيانات، ونقلت الرسائل والسلاح، وشاركت في معسكرات التدريب، وتولّت قيادة “قوات العاصفة” مؤقتاً، والتقت العديد من القادة الزعماء العرب منذ بواكير الثورة الفلسطينية في ستينيّات وسبعينات القرن الماضي. مبيّنة كيف استطاعت الصمود في جميع مراحل النضال الصعبة، ولعل أقساها اغتيال رفيق دربها أمام عينيها على أيدي مجموعة من الكوماندوز الإسرائيلي.
عن تحوّلات سياسية عظيمة في تاريخ الثورة
خلافاً لمذكرات نسائية فلسطينية أخرى، على قلتها، كما ورد في مقدمة الكتاب، جاءت المذكرات “مشحونة بالعاطفة فيلمح في كلماتها كثير من الحنين تجاه “أبو جهاد” – خليل الوزير، في حين تسهب في تذكر حكايتها مع رفيق دربها حتى تاريخ استشهاده في عام 1988. وتعترف: “كنت أفتقده وأشتاق إلى رؤيته”، ثم تنثني إلى تذكر “اللحظات الحلوة التي عشتها معه”، وتنبش تفصيلات “سعادة اللقاء بعد طول غياب”، بينما كانت رسائلهما تزحم البريد بين غزة والكويت، أين كانت إقامتهما.
وركّزت “أم جهاد” على الكيفية التي تمكّنت خلالها من المواءمة بين دورها أما لخمسة أبناء وزوجة ومناضلة. تقول “أم جهاد”: “لم أكن قط المرأة أو الزوجة التي تقف على هامش الحلم بالحرية أو النصر، فمنذ اللحظة الأولى التي تعاهدنا بها أنا وخليل على حب فلسطين أصبح الوطن والعمل لخدمة شعبنا عنوان حياتنا”.
كما ركّزت على تجربتها النضالية من خلال انخراطها المبكر في حركة “فتح”، ثم من خلال دورها في المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1973، والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، واللجنة المركزية لحركة “فتح”، والمجلس التشريعي الفلسطيني الأول في عام 1996، والثاني في عام 2006. وكان أن شغلت منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية لعشر سنوات من عام 1994 إلى عام 2004.
تكمن أهمية سيرة المناضلة الفلسطينية، ومسيرتها النضالية في العمل السياسي والعسكري الفلسطيني، مع ابن عمها خليل الوزير “الرجل الأول والأخير” في حياتها، في أنها عايشت تحوّلات سياسية عظيمة في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، وكانت، بحكم مكانتها الاجتماعية وموقعها ودورها النضالي، شاهدة على كثير من المحطات الفاصلة، ووجدت ذاتها متعايشة مع الخطر والحروب والاغتيالات والصراعات الدائرة في كل مكان.
تذكر “أم جهاد” في تمهيدها للكتاب السِّيَري/ المذكرات، والتي تنتهي فصوله بعودتها إلى أرض الوطن عام 1994، أنه “جاء ليلقي الضوء على رحلة حياتي مع رفيق دربي خليل الوزير، خليل الذي أثرَ فيّ منذ لقائنا الأول في الرملة وأنا ابنة خمسة أعوام، خليل الذي انتمى بجوارحه كلها إلى الوطن، خليل الذي دعمني وآمن بعملي ودوري طوال مسيرة حياتنا، ونحن نحلم بالوطن والحرية، خليل الذي عاش المعاناة مع أبناء شعبه، من اللجوء إلى المطاردة والسجن والشتات والحرب والاستهداف والاغتيال، خليل الذي رفض أن يقف على الهامش بينما وطنه يغتصب وشعبه يجرّد من حريته، خليل الثائر منذ صباه، وهو الذي تعاهد بالدم مع رفيق دربه أبو عمار على شاطئ البحر، وفجرا الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبقيا رفيقي درب حتى النهاية”.
وفي هذا العمل السردي، الفريد من نوعه فلسطينياً وعربياً، يلاحظ القرّاء كيف تتكامل فيه الشراكة العاطفية والزوجية مع الشراكة السياسية الوطنية الكاملة، وكيف تحوّل معها عش الزوجية إلى خلية ثورية في العمل الوطني المقاوم، فالمؤلّفة منذ صباها كانت عضواً فاعلاً في حركة “فتح” منذ انطلاقتها في الأول من شهر كانون الثاني/ يناير 1965، وهي هنا تسرد فصولاً من تاريخ “الرجل الثاني” في ثورة الـ 65، الذي تولى منصب نائب القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، كما عرفتها وعايشتها، منذ وصوله مع عائلته من الرملة (مسقط رأسه) إلى قطاع غزة في العام 1948، ساردة قصة ترحالها مع رفيق دروب النضال بين الكويت والجزائر ولبنان وسورية والأردن وتونس، إلى أن تمكّنت من العودة مع عائلتها، التي فقدت سندها وعمادها الملقب في الأوساط الفلسطينية بـ “أمير الشهداء”، في الشهر السابع من العام 1994 إلى جزء من أرض فلسطين المحتلة بعد 32 عاماً أمضتها في الشتات.
عذابات “رحلة الكفاح والثورة”
يحتلُّ الشهيد القائد خليل الوزير (أبو جهاد)، (وُلد في مدينة الرملة شمال غرب القدس المحتلة، في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1935 واُغتيل في ضاحية سيدي بوسعيد شمالي تونس العاصمة، في 16 نيسان/ أبريل 1988)، دوراً مركزياً في تشكيل حركة “فتح”، وإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ البدايات، فقد شكّل تنظيماً مسلحاً في قطاع غزة منذ العام 1954 حيث نُسب لهذا التنظيم تفجير خزان المياه “زوهر” قرب بيت حانون، في 25 شباط/ فبراير 1955، وذلك بعد أن غادر جماعة “الإِخوان المسلمون” التي كان قد انضم إليها لأنّ عناصرها شاركوا في القتال ضد المحتل الصهيوني عام النكبة. وكان سبب مغادرته لها أنهم (أي الإِخوان المسلمون) رفضوا مشروع الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، الذي قدّمه لهم لأنهم كانوا مشغولين بخلافاتهم مع الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.
ومما ترويه رفيقة الدرب والشريكة في “رحلة الكفاح والثورة” في مذكّراتها، أنه خلال إقامتهم في بيروت، كان “أبو جهاد” “يذهب إلى دمشق ليتابع العمليات العسكرية، ويعود إلى بيروت ليقضي معنا يومين، يتابع خلالهما لقاءاته مع الشباب، والقادمين من الخارج، ومسؤولي المجموعات، ويزور رؤساء تحرير صحف النهار والحياة والمحرر، ويُعدّ مقالات سياسية يحاول نشرها ولا يجد تجاوباً، وقد دفعه هذا الأمر إلى اتخاذ قرار في قيادة قوات العاصفة أن يصدر نشرة تحت اسم العاصفة، وهكذا بدأ يعدّها ويصدرها”. ولم تدم إقامة عائلة “أبو جهاد” طويلاً في بيروت، إذ بعدما شاركت “أم جهاد” في المؤتمر الأول للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في القدس، عادت إلى بيروت، لكنها فوجئت بأنّ أبو عمار طلب منها في 2 أيلول/ سبتمبر 1965 المغادرة فوراً والذهاب إلى دمشق، لأنّ القيادة قرّرت إخراجها من الأراضي اللبنانية ونقلها إلى سورية بسبب الخوف من اعتقالها، على أثر اعتقال السلطات اللبنانية لأحمد الأطرش، أحد قادة “فتح”، وعندما استقرّت في دمشق تفرّغت للعمل الحركي في صفوف الحركة، وأسّست أول خلية نسوية فتحاوية هناك.
مذكرات مشحونة بالعاطفة والحنين
نقرأ من المقدمة: “جاءت مذكرات أم جهاد مشحونة بالعاطفة تجاه زوجها خليل الوزير (أبو جهاد) فيُلمَح في كلماتها الكثير من الحنين حين تسهب في تذكر حكايتها مع رفيق دربها حتى استشهاده”. وبحسب مصادر أطلعت على الكتاب، فإنّ “أم جهاد كتبت ما كان سيكتبه أبو جهاد، كبير شهداء المقاومة الفلسطينية، لو لم يتم اغتياله في منزله في تونس عام 1988، والذي يشمل أسراراً ربما تُذكر للمرة الأولى”.
تروي “أم جهاد” أنها، بعد أعوام من التردّد، قرّرت نشر مذكّراتها بعدما تلقت تشجيعاً من الأبناء والأهل والإخوة الحريصين على توثيق تاريخ الثورة الفلسطينية، فقرّرت تجميع ما كتبته خلال أعوام ماضية واستكماله ثم نشره في كتاب، على الرغم من علمها بأنه “ليس من السهل عليها” أن تختزل مسيرة حياتها مع زوجها، المليئة بالتفاصيل الحلوة والمرّة والقاسية، في عدد من الصفحات.
عبر 280 صفحة من القطع الكبير، تسرد “أم جهاد” تجربتها الشخصية، وأهم ما عايشته من أحداث وأزمات سياسية مرت بها الثورة الفلسطينية كما جرت دون التدخل والتوقف عندها بالتحليل والنقد، وهو أسلوب ربما يترك للقرّاء هذه المهمة دون أن يضعهم أمام استنتاجات جاهزة. ومن الملاحظ في هذا السياق، أنّ “أم جهاد” أغفلت ذكر عدة أحداث وأزمات هامة في تاريخ حركة “فتح”، من ذلك عدم ذكرها لانشقاق صبري البنا (أبو نضال) عام 1974، وكذلك إغفال “الصراع الفلسطيني الداخلي” داخل منظمة التحرير والانشقاقات والتكتلات الفلسطينية مثل تشكّل “جبهة الرفض” في عام 1974، واسمها الكامل “جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية”، والتي انتخب القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الراحل أحمد اليماني (أبو ماهر) كأمين سر لها. وأيضاً تشكّل “جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني” في 25 آذار/ مارس 1985 برئاسة الراحل خالد الفاهوم، الرئيس الأسبق للمجلس الوطني الفلسطيني. في الوقت الذي تحدثت فيه عن انشقاق سعيد مراغة (أبو موسى) عن الحركة في عام 1983.
ومن الأحداث والأزمات السياسية التي تسلط عليها الضوء في الكتاب، هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967، والمؤتمر الثاني لحركة “فتح”، وأحداث أيلول/ سبتمبر الأسود من عام 1970، ثم المؤتمر الثالث للحركة في أيلول/ سبتمبر 1971، وتفاصيل كثيرة عن منظمة التحرير والعمل الفدائي في جنوب لبنان، واغتيال العدو الإسرائيلي للقادة أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر في 10 نيسان/ أبريل 1973، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والحرب التي شنتها قوات ما عُرف باسم “فتح الانتفاضة” في طرابلس ضد حركة “فتح”، بدعم سوري، ومغادرة لبنان إلى الأردن ثم إلى تونس.
ورغم كل ما سجلته انتصار الوزير من أحداث ومواقف، إلّا أنه يبدو أنّ الهدف الأساس الذي أرادته من كتابة مذكّراتها يتمحور حول تسليط الضوء على رحلة حياتها مع زوجها ورفيق دروب الكفاح والنضال، وحضورهما معاً في الفعل الوطني الفلسطيني، فنراها تروي الكثير من التفاصيل عن اللقاءات التي جمعتهما في غزة، بعدما اضطرّت عائلته إلى النزوح إليها إثر نكبة 1948، وانخراطهما معاً في العمل الفلسطيني الميداني، وتشكيل مجموعات مقاومة في قطاع غزة خلال سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية، وهذا كله ساهم في نشوء علاقة حبّ بينهما، أثمرت مراسلات عاطفية ونضالية بينهما، وتكلّلت بالزواج في 19 تمّوز/ يوليو 1962، ثم سافرا معاً إلى الكويت، وكان ياسر عرفات في استقبالهما أمام سلّم الطائرة في مطار الكويت.
رصاصات الغدر في الليلة السوداء
“الأيام الأخيرة قبل الاغتيال” هو عنوان الفصل السادس من الكتاب ولعله الأهم والأكثر تأثيراً على القرّاء؛ تذكر “أم جهاد” أنه في 14 نيسان/ أبريل 1988 أي قبل يومين من عملية الاغتيال انقطعت الكهرباء في منزلهما في تونس “كانت المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر، وكأنه إنذار عما سيحدث”. مضيفة: “مباشرة بعد ذلك زارنا ضيف آخر هو الأخ جبريل الرجوب، وجلسنا معه حتى الرابعة صباحاً. وفي اليوم التالي، انشغل أبو جهاد بالتحضير لاجتماع مجلس أمناء مؤسسة الرعاية الاجتماعية والثقافية العربية، وهي مؤسسة أطلقها أبو جهاد بهدف تعزيز إرادة البقاء والنمو والتطور لدى مجتمع عرب فلسطين المحتلة (أي عرب 1948) ودعم إرادة التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية، وضمت شخصيات بارزة كالأخضر الإبراهيمي والأمير السعودي محمد الفيصل والملكة الأردنية دينا عبد الحميد والشيخ القطري حمد بن جاسم، وغيرهم من كبار القادة العرب. وعقد أبو جهاد في ذلك المساء الاجتماع التأسيسي لهذه المؤسسة ثم التقى الأخ فاروق القدومي (أبو اللطف)”. لتأتي بعد ذلك على ذكر تفاصيل دخول الوحدة العسكرية الإسرائيلية المنزل وتنفيذها عملية الاغتيال بوحشية بالغة، وتورد تفاصيل مؤثرة جداً، من ذلك تناوب القتلة الصهاينة على إطلاق الرصاص على جسد زوجها حتى بعد وفاته. ولما ركضت نحو الشرفة للاستنجاد، لم يأتِ أحد ولم يتحرك أحد ولم تصل الشرطة إلّا بعد ساعة ونصف الساعة على تنفيذ عملية الاغتيال. مؤكدة بأنّ هذه الليلة السوداء لم تغب عنها للحظة، وهي: “الليلة التي ودعت فيها رفيق عمري وحبيبي وصديقي وقائدي أبو جهاد. الليلة التي أخذته مني رصاصات الغدر بعد خمسة وعشرين عاماً أمضيناها معاً في النضال والمقاومة”.. “لا شيء يعوضني عن فقدان أبو جهاد. وربما عزائي الوحيد كان الوفاء والحب الذي عبّرَ عنه شعبنا وأصدقاؤنا حول العالم بعد استشهاده”.
ويأتي كتاب «رفقة عمر: مذكرات انتصار الوزير “أم جهاد”»، الذي صدر قبل أسابيع قليلة من الذكرى الـ 34 لاغتيال مهندس الانتفاضة الشعبية الأولى التي اندلعت في كانون الأول/ ديسمبر 1987، في إطار الجهد الذي يقوم به “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في نشر مذكرات العديد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية أمثال: أكرم زعيتر وأبو ماهر اليماني ومعين الطاهر وغيرهم، بوصفها امتداداً ثرياً للمسيرة الفلسطينية ورافداً من روافد توثيق تجربتها النضالية ضدّ المشروع الصهيوني.
التعليقات مغلقة.