قدر الحضارة: حقائق اقتصادية (6) … منتديات الدمار الشامل: دافوس واخواتها / زياد حافظ
زياد حافظ* – الاثنين 25/7/2022 م ..
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي العربي
سياسات وقرارات الدول الغربية هي نتيجة لتفاعل مع منتديات دولية تضم نخب العالم الغربي. وما يحكم ذهنية هذه المنتديات مخافة النخب من شعوب الدول التي تنتمي إليها. فالمسألة هي مسألة سلطة وعدم إشراك الناس فيها رغم الادعاءات بالديمقراطية وحكم المؤسسات ودولة القانون. لذلك انصب الجهد، وما زال، على إضعاف الناس بشتى الوسائل حتى عبر ترويج أفكار مخيفة كمشكلة تزايد السكّان التي تهدد رفاهية الرجل الأبيض وخاصة رفاهية النخب الحاكمة. لكن أكثر ما يقلقنا هو ما جرى من تسخير الفكر العلمي والعلوم لخدمة أجندة عقائديةغير انسانية جامدة وغير قابلة للتطوّر. الباحث الكندي مات اهريت في ثلاثية أصدرها في عامي 2021 و2022 تحت عنوان “صراع الاميركتين” (The Clash of the Two Americas) شرح كيف تم تسخير الفكر العلمي لصالح اجندة سياسية. وتم تلخيصها في مقال نشره على موقعة ” ذي كاناديان باتريوت” (The Canadian Patriot) في 1 تموز/يوليو 2022 تحت عنوان “انتقام الملتوثيين وعلم الحدود” (The Revenge of the Malthusians and the Science of Limits). ولا نختلف كثيرا مع الباحث الكندي لأننا نعتقد أن الفكر لا يمكن إلاّ أن يعكس إما إيجابا أو سلبا البيئة التي ينشأ فيها. فلا فكر في العلوم الاجتماعية وخاصة في الفكر الاقتصادي إلاّ أما لتبرير سياسات أو لنقض سياسات سائدة. فالفكر الاقتصادي تابع للقرار السياسي وليس العكس وإن كان التفاعل بينهما عميق يجعل كلاهما سببا ونتيجة لبعضهما البعض إما في آن واحد أو في فترات زمنية متقاربة.
في رحلتنا فيما يشكّل البيئة الفكرية والمؤسسية للقرارات الغربية التي حكمت العالم خلال القرون الماضية وحتى الماضي القريب جدا نجد أن في القرن العشرين والحادي والعشرين امتدادا لأفكار تبلورت منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كالملتوثية ونظرية الريع وفيما بعد الداروينية و”علوم تحسين النسل” (Eugenics) او ربما “التطهير العرقي” الذي اقتبسه النازيون فيما بعد. فإلى حد كبير يمكن القول إن السياسات الغربية هي تعبير عن هذه النظريات المدمرة. فالملتوثية تعتمد إلى ثلاث وسائل بيد الحكّام لتخفيف من تزايد النسل وهي الحروب والمجاعة والجائحات (طاعون، كوليرا، واليوم كورونا!) ونضيف الكوارث الطبيعية التي يجب اعتبارها “تصحيحا” (كما قال مالتوس نفسه!) لفقدان التوازن بين البشرية والطبيعة، وكل ذلك للحفاظ على الإمبراطورية البريطانية ونخبها!
لن نقارب هذه الأفكار التي عمّت الفضاء الفكري في الغرب في القرنين الماضيين ولن نقارب الأفكار المضادة لها وكانت موجودة فعلا لكن روّاد الفكر الملتوثي كانوا مؤثرين في السلطة وفي الجامعات حتى الساعة وخاصة في كلّيات الاقتصاد. لكن ما يهمّنا هنا هو استكمال عرض المؤسسات التي روّجت لتلك الأفكار وخاصة في القرن العشرين والحادي والعشرين. فهي في رأينا منتديات الدمار الشامل للبشرية بأشكال مختلفة ولكن بنتيجة واحدة أي تخفيف عدد السكان لتمكين واستدامة الاوليغارشيات المالية الحاكمة والتي استطاعت سرق معظم الثورات التي حصلت في القرنين الماضيين.
نادي روما
في الجزء السابق عرضنا بشكل سريع نبذة عن عدد من المنتديات التي نشرت الفكر النيوليبرالي من جمعية “جبل الحاج” إلى “اللجنة الثلاثية” إلى “جمعية بيلدبرغ”. لكن هذه الجمعيات التي حملت الفكر النيوليبرالي كان ينقصها الدراسات المستقبلية والتوقّعات البيئوية التي تتفاعل مع الملتوثية الحديثة. فأولى تلك المؤسساتنادي روما الذي تأسس سنة 1968 على يد الصناعي اوريليو بيتشيي وألكسندر كينغ مدير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD). وهذا النادي ضمّ مائة عضو كامل العضوية من رؤوسا دول ومسؤولين سياسيين وعلماء وأساتذة جامعات ومسؤولين في الأمم المتحدة وديبلوماسيين وشخصيات سياسية مؤثرة من كل انحاء العالم. من بين الأسماء هناك ميخائيل غورباتشوف، والأمير الحسن بن طلال، وبيار اليوت ترودو رئيس وزراء كندا السابق ووالد رئيس الوزراء الحالي جاستين ترودو، والاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز،ومهدي المنجرة الاقتصادي المغربي الراحل المختص في الدراسات المستقبلية، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
الفكرة الأساسية لهذا النادي هو تحديد الإشكالية (problematic) التي تواجه البشرية. فالمشاكل التي تواجه البشرية كالفقر وتدهور البيئة والجائحات المرضية والجريمة والازدحام المديني لا يمكن معالجتها بشكل منفرد بل هي مترابطة بعضها ببعض. وبالتالي لا بد من توفير الوسائل والتفكير الذي يربط كل هذه المشاكل. لذلك أصدر النادي دراسة سنة 1970 حول قضايا البشرية كانت ممهدة لمؤلف صدر فيما بعد بعنوان “الحدود للنمو” (The Limits to Growth) سنة 1972. في هذا الكتاب ركّز على هاجس محدودية الموارد الطبيعية وأن النمو لا يمكن أن يستمر بالشكل الذي هو عليه. ثم جاءت الازمة النفطية سنة 1973 التي زادت من الاهتمام في البيئة. لذلك كان هذا المؤلف من أكثر الكتب البيئوية ترويجا حيث بلغت المبيعات 30 مليون نسخة!
الفكرة الأساسية للكتاب هو أن التزايد السكاني بمعدّلات هندسية ستصطدم مع واقع اضمحلال الموارد الأساسية للبشرية. ولهذا الغرض كرّس النادي جهوده لدعم التوقّعات المستقبلية غير أن حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات وبداية الألفية الثالثة شهدت نموا عالميا في الإنتاج ما نفى تقديرات النادي. لكن هناك من يعتقد أن الواقع الذي نشهده في العقد الثاني من الألفية الثالثة يؤكّد التوقعات التي نشرت منذ أربعة عقود. لن ندخل في السجال حول صحّة أو عدم صحّة تنبؤات النادي إلاّ أن ما يهمنا ابرازه هو التأثير على العديد من صنّاع القرار في الدول الغربية الذين تبنّوا إما ضمنا أو صراحة فكرة محدودية الموارد مقابل الانفلات في عدد السكان. لكن الخطورة تكمن في تمازج الفكر النيوليبرالي مع الملتوثية الجديدة التي أخدت الطابع “العلمي” بسبب استعمال المعادلات الرياضية والحاسوب لبلورة سياسات اعتمدتها الحكومات الغربية في بلادها وفرضتها أيضا على دول الجنوب الإجمالي وخاصة فيما يتعلّق بالبيئة. فعبر “الحفاظ” على البيئة يتم إفقار الدول والمجتمعات.
المجتمع المفتوح
إذا كان نادي روما مؤثرا في السبعينات من القرن الماضي وحتى الساعة في ترويج فكرة الندرة وتزايد السكان كعائق للنمو والتنمية فإن الأفكار التي يروّجها رجل المال المجري الأصل جورج سوروس هي أكثر تأثيرا وخطورة على العالم والمجتمعات. وجورج سوروس اكتسب شهرته كمضارب ماهر في المال وإنشاء الصناديق الاستثمارية ك “كوانتوم فند” (Quantum Fund) إلاّ أن شهرته العالمية أتت من جرّاء تمويل مؤسساته المعروفة ب “المجتمع المفتوح” في العديد من الدول لنشر “الديمقراطية والحوكمة والعدالة والصحة والتربية” في دول أوروبا الشرقية في البداية ثم في دول الجنوب الإجمالي. هذه المؤسسات موجودة في 37 دولة والمركز الرئيسي لها في نيويورك. لكن هذه المؤسسات موزّعة تحت عناوين جغرافية كمبادرة المجتمع المفتوح لغرب إفريقيا وأخرى لجنوب إفريقيا وأخرى معروفة باسم جامعة أوروبا الوسطى وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. ولقد استثمر أموالا طائلة في تلك المؤسسات التي تحمل شعار “المجتمع المفتوح” المنتشرة في العديد من الدول. وقد بلغت تلك الاستثمارات ما يوازي 32 مليار دولار خلال العقود الأربعة الماضية والميزانية السنوية ارتفعت إلى 1،2 مليار دولار.
فالفكر الذي يحكم سياسات تلك المؤسسات التي يتحكّم بها سوروس وعائلته هو إنشاء “المجتمع المفتوح” الذي أوجده في الثلاثينات من القرن الماضي الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون والذي طوّره الفيلسوف النمساوي كارك بوبر في مؤلّفه الشهير بمجلّدين “المجتمع المفتوح وأعدائه”. نُشر المؤّلف سنة 1949 بعد ما نشر الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك مؤلّفه الشهير “الطريق الى العبودية” منطلق الفكر النيوليبرالي. الفيلسوف النمساوي بوبر كان صديقا ومرشدا لجورج سوروس. كذلك الأمر بالنسبة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل الذي يروّج أيضا عن ملتوثية جديدة تتلازم مع الداروينية لبلورة سياسات تتفاعل مع تلك الرؤية. نلاحظ هنا التشابك بين الشخصيات والتلازم الزمني في إطلاق تلك الأفكار التي تحكّمت بسياسات الدول الغربية.
وهناك من يعتبر أن وظيفة تلك المؤسسات هي الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم كما فعلت من قبلها مؤسسة روكفلر ومؤسسة فورد. لكن مفهوم الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم يحتاج إلى نقاش. فمؤسسات جورج سوروس اشتهرت بدعم ما يُسمّى بالمجتمع المدني بالتنسيق مع المؤسسات التابعة للوزارة الخارجية الأميركية في الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي. وبغض النظر عن “احقّية” اهداف تلك المؤسسات إلاّ أنها كانت تفضي إلى زعزعة الاستقرار في الدول التي عملت على تغيير نظامها السياسي. لا يخفي سوروس أفكاره حول دول الدولة الوطنية والدولة الأمة والعولمة. فهو يجسّد بامتياز أن المجتمع المفتوح لا يتكيّف مع الشعور الوطني والقومي وأن لا بد من فتح الحدود للتبادل التجاري والمالي دون أي عائق وأنه لا بد من نقل السطلة إلى القوى التي تؤمن بالمجتمع المفتوح. لا يخفي سوروس عداءه لكل من الصين وروسيا لأنهما دولتان أعادتا الاعتبار إلى مركزية الدولة في التنمية والنمو وليس لحكم السوق وآلياته التي تؤدّي إلى التمركز والاحتكار، بينما في جوهر الفكر النيوليبرالي وتجلّياته في “المجتمع المفتوح” دور الدولة محصور في الحفاظ على العقود التجارية والاقتصادية والملكية الخاصة وليس في تحديد مسار الاقتصاد. هذا يعني أن الدولة ليست معنية بحماية الثروات الموجودة على أرضها وفي جوف ارضها وألاّ يجب منع الشركات الكبرى الأجنبية (هنا المقصود الغربية فقط!) من الاستثمار (أي نهب ثروات الدول). الحقد الذي برز في مقالات متعدّدة لكل من الصين لا يهدف إلاّ لضرب تلك الحكومات التي تمنع الفوضى الاقتصادية. هنا تحوّلت الديمقراطية التي يروّج لها سوروس عبر مؤسساته إلى آلية لضرب التماسك الداخلي وزعزعة الدولة لصالح “انفتاح” إلى الخارج. هذا يذكّرنا بحقبة “الانفتاح” الساداتية التي أدّت إلى ضرب إنجازات ثورة 23 يوليو على الصعيد الاقتصادي وتكريس التبعية للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة بشكل خاص.
لا يجب أن ننسى أن سوروس لا يرحم حتى الدول الغربية. فهو الذي ضارب ضد الجنية الإسترليني سنة 1992 وحقق أرباحا فاقت المليار دولار. وهو أيضا من كان وراء الحملة على عملات دول جنوب شرق آسيا سنة 1997 كما اتهمه رئيس مليزيا آنذاك محمد محاذير بالتحريض على تدمير الاقتصادات الآسيوية لصالح الشركات الكبرى. عداءه للصين ولروسيا قد يكون هدفه منع الحكومتين لشركات سوروس في الاستثمار في المعادن والشركات الصينية الروسية.
يحاول سوروس إعطاء بعد نظري لفكره السياسي الاقتصادي عبر نظرية الانعكاسية (reflexivity theory) حيث تتفاعل الأسباب مع النتائج وتصبح الأخيرة “أسبابا” لمرحلة ثانية. هذا هو جوهر الفكر الدوري (circular reasoning) الذي يحوّل إلى حقائق وقائع قد تكون افتراضية أو غير قابلة للبرهان. فهي نوع من السفسطة التي تعطي لباسا أنيقا لواقع غير مقبول. لسنا هنا في إطار تفنيد ذلك النوع من التفكير بل فقط للإشارة إلى ما يستند إليه جورج سوروس وفي حقيقة الأمر جوهر الفكر النيوليبرالي المدمّر للمجتمعات والشعوب وبالتالي للحضارة حيث يستحضر الداروينية على قاعدة الملتوثية، صراع البقاء هو لصالح الأقوياء وأن كثرة الشعوب تهدّد الموارد التي يتنعّم بها الأقوياء.
دور مؤسسات سوروس في تشجيع الثورات الملوّنة في الدول التي كانت في فلك الاتحاد السوفيتي يتلاقى مع الثورات التي روّج لها جين شارب الأميركي في تشجيع مؤسسات المجتمع المدني في التمرّد على السلطات القمعية (على حد قوله!). ويحدّد موقع المؤسسة على الشبكة العنكبوتية أن المهمة الأساسية كانت التشجيع على التمرّد على الاتحاد السوفيتي واليوم على نشر الديمقراطية في روسيا والصين! أما جين شارب فقد نفى قبل رحيله سنة 2018 أي علاقة أو حتى أي معرفة مع جورج سوروس لكنه أبدى اعجابه وتأييده لأفكاره. فهل يمكن تصديق ذلك؟ ربما. سوروس لم يكن مؤيّدا للكيان الصهيوني كما يتصوّر البعض ولكن لم يكن معاديا له بينما هدف جين شارب كان زعزعة الدول العربية المعارضة للكيان لذلك تعرّض سوروس، وهو يهودي، لانتقادات كبيرة من المحافل الصهيونية. ولولا الدور الاستراتيجي الذي يلعبه في مواجهة روسيا والصين لربما تمّ القضاء عليه، ما يعني أن الكيان الصهيوني ليس بتلك المرتبة من الأهمية في الفكر الغربي من الأهداف الاستراتيجية لضرب كل من روسيا والصين وأي دولة تعتبر أن سيادتها واستقلاليتها فوق أي اعتبار.
المنتدى الاقتصادي العالمي
أما المنتدى الاقتصادي العالمي الذي أنشأه كلوس شواب سنة 1971 والمعروف بمنتدى دافوس لأن اللقاءات السنوية تحصل في المنتجع السويسري فهو من أخطر المنتديات التي تشكّلت في الغرب والتي كانت وما زالت مؤثرة عند النخب الغربية الحاكمة وأو الطامحة للحكم في بلادها. ومن الصعب اعداد مقاربة كاملة لذلك المنتدى لضيق المجال وكثرة المواضيع المتعلّقة به سواء كانت في العضوية، والأعمال، والسياسات التي يروّجها. لذلك ستكون مقاربتنا مجتزئة عن عمد ولكنها فيها من المعلومات ما يكفي لإعطاء فكرة عن المؤسسة وعن خطورتها.
ففيما يتعلّق بنشأة المنتدى فكانت سنة 1971 سنة الولادة في مدينة كولونيي السويسرية (Cologny)على يد كلوس شواب. المرشد الفكري لشواب آنذاك وحتى اليوم كان هنري كيسنجر. نلاحظ تلازم التواريخ بين قرار إدارة نيكسون بقطع العلاقة مع الدولار وما تلاها من تحوّلات في أسعار النفط وتسعير النفط بالدولار. كما نلاحظ تلازم التواريخ مع اللجنة الثلاثية والقرب من تاريخ إنشاء نادي روما ولكن من هذه المؤسسات دور وظيفي يصب في توجه عام هو سيطرة الغرب على العالم. كما نلاحظ وجود الأشخاص نفسها في هذه المنتديات. الجدير بالذكر أن المنتدى الاقتصادي العالمي كان في البداية منتدى الإدارة الأوروبية (European Management Forum) تحوّل سنة 1987 إلى المنتدى الاقتصادي العالمي. بات واضحا مع اقتراب انهيار المنظومة السوفياتية أن إدارة العالم تحتاج إلى رؤية مشتركة يهيمن عليها الغرب.
المنتدى تموّله حوالي ألف شركة من الشركات العالمية العملاقة التي لا يقل رأس مالها عن 5 مليار دولار. أما مساهمة هذه الشركات فتتراوح بين 60 ألف و600 ألف فرنك سويسري. وهناك ثلاث مستويات من الاشتراك: الاشتراك الفردي السنوي 52،000$ بينما الشريك القطاعي (Industry Partner) اشتراكه 252،000$ والشريك الاستراتيجي (Strategic Partner) 527،000$ سنويا. هذه اشتراكات مرتفعة جدّا ما يؤكّد أهمية المنتدى لتقبل الشركات والافراد على الاشتراك السنوي بهذه المبالغ.وتقدّر الميزانية السنوية بما يوازي 5 مليار فرنك سويسري أي أكثر من 5 مليار دولار سنويا إذا ما اعتبرنا سعر صرف الفرنك السويسري يوازي 1،03 دولار. ما لاحظناه خلال بحثنا هو عدم وجود تقارير سنوية تظهر الوضع المالي للمنتدى ما يثير الشكوك حول الاعتام المتعمّد من قبل إدارة المنتدى. شركة بلومبرغ استطاعت أن تحدد 450 شركة مدرجة في البورصات العالمية والمشتركة بالمنتدى بينما تقارير المنتدى تشير إلى حوالي ألف شركة مبوّبة ابجديا وقطاعيا دون تحديد حجم المساهمة. لكن إذا سلمنا بصحة ما يعلنه المنتدى فإن الشركات العملاقة العالمية هي التي تساهم في المنتدى ما يعني أنها توافق على الطروحات والأفكار التي يروّج لها المنتدى.
ليست هناك من معلومات منشورة حول آلية إدارة المنتدى وكيف تؤخذ القرارات. فالإعتام هو سمة سلوك المنتدى الذي يفتقد على ما يبدو من قبل منتقديه من مبادئ الديمقراطية في انتقاء الشخصيات التي تٌكلّف بإدارته. كما أن المعلومات حول “اتعاب” المسؤولين في المنتدى تفيد إنها تصل إلى أكثر من مليون فرنك سويسري سنويا. والغموض حول التمويل والانتقاء للشخصيات يثير الشكوك والريبة حول منتدى يطمح (أو يطمع!) الى حكم العالم بأسره، أو على الأقل ذلك العالم الذي تحكمه النيوليبرالية وخاصة في الغرب ولصالح الرجل الأبيض!
يدعو المنتدى كل سنة حوالي ألف شخصية من كافة أنحاء العالم ليؤكّد “عالمية” المنتدى وطبعا لترسيخ فكرة العولمة والأطروحات المرادفة والداعمة للعولمة. وهذه الشخصيات تمثّل النخب الحاكمة في دولها أو المؤثّرة عليها. فتضم رؤساء سابقين ووزراء وسفراء ونوّاب وجامعيين ورجال أعمال في كل القطاعات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية وإعلاميين من كافة الأطياف والاخصائيين في تكنولوجيا التواصل بمختلف أشكاله. لذلك الحضور هو من يعطي الأهمية وقوّة الدفع للمنتدى الذي ينقل لهم أفكاره عبر “ورش عمل” أو “عصف أفكار”. وبالتالي أصبح المنتدى اهم مؤسسة دولية تروّج للعولمة كمنهاج سياسي واقتصادي وبيئوي وإن كان على حساب سيادة الدولة الامة وخصوصيات الشعوب.
ولذلك الأمر ابتكر قاعدة فكرية نظرية لتبرير ذلك. الفكرة الأساسية التي يعتمدها المنتدى في مقاربته للمشهد الاقتصادي والاجتماعي والبيئوي في العالم هو نظرية رأس مالية صاحب المصلحة (stakeholder capitalism). والتعريف ل “صاحب المصلحة” هو العامل بالشركة، والمستهلك، والمورّد للشركة. نلاحظ هنا التغييب المتعمّد للمجتمعات بل للإنسان. فبالنسبة لتغييب المجتمع فهذه الذهنية تتماهى مع ما قالته مارغاريت تاتشر أنه ليس هناك شيء اسمه “مجتمع” بل مجموعة أفراد. مارغاريت تاتشر قادت حملة تفكيك دور الدولة في العجلة الاقتصادية وكتابها المفضّل كان مؤلف فون حايك “الطريق إلى العبودية”. كما أن تلك النظرة للإنسان والمسؤولية امتداد لفكرة ميلتون فريدمان الذي اعتبر أن المسؤولية لرجل الاعمال هو إثراء المساهمين وليس المجتمع. لذلك يغيّب المنتدى إنسانية الانسان ويكتفي بالدور الوظيفي له كمستهلك أو كعامل في حركة الإنتاج أو كمورّد للإنتاج. النظرة للمجتمع وللإنسان نظرة سلبية كما يؤكّده “المفكّر” الإسرائيلي يوفال هراري كبير المستشارين لكلوس شواب والذي سنعرضه لاحقا.
من سخرية المشهد الذي يعطيه المنتدى زعمه مكافحة الفقر ويدعو أثرياء العالم للحضور بطائراتهم الخاصة لمعالجة الفقر في العالم. فإما هناك استخفاف في العقول وإما هناك ظاهرة توحّد (autism) لا تلاحظ انقطاعها عن العالم. وقد أظهرت مجلّة “فوربس” الأميركية على موقعها الإلكتروني منذ أكثر من سنتين مدى انقطاع المنتدى ومشرفيه عن الواقع ولا أحد يستطيع اتهام المجلّة بأنها يسارية بل العكس فهي رمز الرأس المالية الأميركية.هذه الصورة السلبية المتصاعدة للمنتدى أجبرت رئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون على منع وزراءه حضور المنتدى الذي كان مروّجا أساسيا للإجراءات التي تبنّتها الدول الغربية لمواجهة جائحة كورونا والتي أدّت إلى انكماش كبير في النشاط الاقتصادي العالمي وتضخما في الأسعار تفاقم مع الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوروبية بمقاطعة روسيا. والمنتدى كان من المؤيّدين لتلك الإجراءات “دفاعا عن الديمقراطية” وعن “خطورة التغيير في المناخ” الذي سببه الوقود الاحفوري (fossil fuels) كما جاء في أحد تقاريره.
فالمنتدى من أهم مؤيّدي حركات والأحزاب الخضر في أوروبا في حربها ضد الغاز والنفط والفحم وساهم بالتالي في تسييس الحركة البيئوية وإن كان على حساب المجتمعات ليس في الغرب فحسب فحتى في عالم الجنوب الإجمالي. والمعروف أن الطاقة هي شرط ضرورة وكفاية لأي تقدّم في المجتمعات بل للحضارة. فأي هجوم على الطاقة هو هجوم على تقدّم المجتمعات وحتى الحضارة. ليس هدفنا هنا مناقشة ملابسات الحركة البيئية وأجندتها بل فقط الإشارة أن تلك الاجندة تحتاج إلى نقاش معمّق وموضوعي بينما أصحاب تلك الحركة يرفضون النقاش ويعتبرونه معاديا “للحقائق العلمية” التي لا يريدون مناقشتها. لقد أصبحت الحركة البيئوية حركة دينية وتمارس الاقصاء والتكفير كما تمارسه الحركات الدينية المتطرّفة. فالمدافعون عن البيئة ليسوا محصورين ب “جهاديي” الحركة بل هناك مواقف متوازنة بين الحفاظ على البيئة ومقتضيات النمو والتنمية. فنادي روما كان أوّل من روّج لفكرة “حدود” النمو والتنمية ومنتدى دافوس يريد ترسيخ راس مالية معولمة تؤدّي إلى نزع التصنيع في العالم، أي إفقاره، لتخفيف عدد السكان والنسل.
“إعادة التعيين الكبير” (The Great Reset)
الضجة التي أحدثها المنتدى سنة 2020 تعود إلى إعلان كلوس شواب عن برنامج المنتدى للحقبة المقبلة تحت عنوان المؤلف الذي أصدره “إعادة التعيين الكبير” أو (The Great Reset). وهذا الموضوع يتطلّب نقاشا معمّقا لخطورة ما يُطرح من أفكار تهدّد البشرية. منطلق الفكرة التي تلازمت “صدفة” مع انتشار جائحة الكورونا حيث الجائحة كشفت “عورات” النظام العالمي على الصعيد السياسي والاقتصادية والصحّي والثقافي والبيئوي ما يفرض ضرورة إعادة النظر في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئوية. وبالتالي، فالمحاضرة التي ألقاها شواب في 2020 بمناسبة عقد الدورة الخمسين للمنتدى جاءت في اعقاب انتشار جائحة الكورونا وحرب الأسعار النفطية بين بلاد الحرمين وروسيا. والمحاضرة التي استعادت مضامين مؤلّفه تتضمن ثلاث أجزأ. فالجزء الأول يعود إلى خلق الظروف التي تؤدّي إلى تمكين صاحب المصلحة في الاقتصاد وجعل الاقتصاد لأصحاب المصالح (stakeholder economy). أما الجزء الثاني فيهدف إلى “طريقة أكثر عدلا واستدامة ومرونة (equitable, sustainable, and more resilient). الجزء الثالث يهدف إلى تسخير الابداعات التكنولوجية التي ستوجدها الثورة الصناعية الرابعة لإحداث تنمية أكثر عدالة واحتراما للبيئية و”أذكى” (fairer, greener, and smarter development). هذه الأجزاء تهدف إلى إعادة هندسة المجتمعات على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي والبيئوي وفقا لرؤية تعتبر أن الحكومة الوطنية فشلت في المهمات التي أوكلت إليها وأنه لا بد من هيئة أو حكومة عابرة للدول لا تخضع للتجاذبات السياسية الداخلية وتستطيع أن تأخذ القرارات المطلوبة التي يحدّدها العلم.
عدد كبير من الصحف كالنيويورك تايمز والغارديان ولو دفوار وفرع الاخبار لهيئة الارسال البريطانية أي أل بي بي سي، وهيئة الارسال الكندية اعتبر أن مشروع دافوس أطلق نظريات المؤامرة من قبل اليمين واليسار. غير أن سياسيين كجو بايدن رئيس الولايات المتحدة، وجاسيندا اردم رئيسة وزراء نيوزيلاندا، وجاستين ترودو رئيس وزراء كندا أدخلوا مفاهيم مشروع دافوس في خطابهم الانتخابي وبرامجهم السياسية.
أين تكمن الخطورة في العناوين الجذّابة التي يطرحها منتدى دافوس؟ فمن الصعب ان نرفض مسبقا مفهوم التنمية الأكثر عدلا خاصة إذا كانت مستدامة وأكثر رئفة بالبيئة. كما من الصعب اعتبار أداء الحكومات في العالم أداء جيّدا يمكن تجديد الثقة بها. لكن ما وراء هذه الشعارات نظرة تشاؤمية بالبشرية والتي عبّر عنها بكل وضوح كبير مستشارين كلوس شواب يوفال هراري الذي يعتبره البعض الفيلسوف المفكّر لمنتدى دافوس.
أتيحت لنا الفرصة أن نشاهد محاضرة على اليوتيوب ليوفال هراراي القاها في شهر أيار 2022 وما سمعناه كان مرعبا بالنسبة للسياسات التي يمكن أن تترجم أفكاره. بشكل مختصر، يعتبر هراري أن هناك فائض من السكان في العالم لا قيمة لهم بسبب الثورة التكنولوجية وخاصة مع الذكاء الاصطناعي الذي سيجعل من الانسان الالي (robot) يحلّ مكان العامل في الإنتاج الصناعي والزراعي. وبالتالي لا مبرر لوجود بشر يأخذون من الموارد المتناقصة. هذه هي الملتوثية في أقصى تعبيراتها. ويضيف أن الانجيل بشطريه العهد القديم والعهد الجديد لا يوجد حلاّ لتلك الأزمة. قد نجيب أن في العالم العربي الإسلامي يعطى القرآن الكريم جوابا واضحا في الآية الكريمة “إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن لله لغفور رحيم” (النحل 18). هذه النقطة بالذات تستدعي مراجعة أسس الفكر الاقتصادي الوضعي في الغرب وضرورة إيجاد نموذج ارشادي (paradigm) مختلف في مقاربة العلاقة بين الانسان والبيئة. فبدل أن تكون العلاقة جدلية حيث يأخذ الانسان من الطبيعة ولا يعطي يمكن أن يغيّر الانسان سلوكه ويتفاعل مع الطبيعة. لكن هذا موضوع نبحثه في مقاربة منفصلة لضيق المجال ولضرورة الاستفاضة به.
المهم هنا أن أفكار هراري تدعو بصراحة إلى تخفيض عدد السكان في العالم وهذا ما لا يمكن أن نوافق عليه أولا لضخامة الاجرام الذي يدعو إليه وثانيا لأنه غير ضروري لأن أرض الله واسعة ونعمته لا يمكن أن نحصيها. هنا يكمن الفرق في النموذج الارشادي الذي نسعى إليه والذي لا يعرفه هراراي. والسياسات التي تتبعها حكومات الغرب تهدف إلى تحقيق تلك الرؤية التشاؤمية لمستقبل البشرية التي لا نوافق على صحتّها رغم ادعاءها بالعلمية ولكن هذا حديث لوقت آخر.
التعليقات مغلقة.