نظرية السبعين سنة! / عبد الله السناوي
ثورة «يوليو» إرث عام، لا يخص تيارا سياسيا بعينه، ولا جيلا دون آخر.
من حق جميع الأطراف الفاعلة فى المشهد العام باتساع العالم العربى كله، لا مصر وحدها، أن تبدى وجهة نظرها فى «يوليو» بالاتفاق أو الاختلاف، لكن بشرط ألا تزيف التاريخ وحقائقه الأساسية.
فى سبعينيات القرن الماضى إثر حرب أكتوبر أنهيت شرعية ثورة «يوليو» تماما وانقطعت صلتها بما بعدها من حقب سياسية توالت.
هذه حقيقة يصعب إنكارها، أو التدليس عليها.
الانقلاب على «يوليو» وشرعيتها وإنجازاتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسى، بصورة تسمح بانتقال واسع لدولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات.
وهذه حقيقة أخرى يصعب القفز عليها.
كأى نظام ثورى فهو فعل استثنائى انتقالى، قاد أوسع عملية تغيير فى البنية الاجتماعية بالتاريخ المصرى كله، أخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض فى الوقت نفسه معارك مفتوحة فى إقليمه وعالمه، ودخل حروبا طاحنة فى الصراع على المنطقة.
بأدوارها التحررية اكتسبت مصر مكانة كبرى فى المعادلات السياسية الدولية، قادت تحرير القارة الأفريقية وأسست حركة «عدم الانحياز» مع الهند ويوغسلافيا.
لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التى تبنتها، أو خارج السياق التى عملت فيها والعصر الذى احتضن تفاعلاتها.
هذه هى الأصول العلمية فى النقاش العام، أما إهدارها واعتبار كل ما جرى بعدها يدخل فى مسئوليتها، ففيه اعتداء صارخ على الحقائق الرئيسية التى ترتبت على الانقلاب عليها، وفيه تحميل للثورة بأكثر مما تطيقه الحقائق، فالثورة انتهت منذ عقود طويلة، وشرعيتها طويت صفحاتها، والنظم التى تلتها انقلبت على خياراتها السياسية والاستراتيجية.
بعض الكلام ينطوى على تعميم عشوائى دمج بين نظم وعصور متناقضة وأغلبه استهدف التشهير بالتاريخ لإغلاق صفحة «جمال عبدالناصر»، وما تمثله من قيم أهدرت وأحلام أجهضت.
مع بداية الانفتاح الاقتصادى عام (١٩٧٤) تردد فى السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية فى البنية الطبقية للمجتمع، التى نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية «يوليو».
كانت انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧) ذروة الصدام الاجتماعى، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» عام (١٩٧٨).
فى بداية عهد «مبارك» نجح فى وضع كمادات ثلج فوق الرأس المحموم، لكنه مال بالوقت إلى جمود طويل لا صلة له بدعاوى الخمسين سنة ــ حسب التعبير الذى تردد فى مطلع القرن.
فى «يناير« (2011) عاد الكلام مجددا عن «يوليو» من منظور جديد.
هناك من حاول أن يصور «يناير» كأنها ثورة على الستين سنة التى تلت «يوليو»، بزعم ــ لا يمكن إثباته ــ أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد.
هكذا تحولت الدعاوى إلى نظرية تستهدف فكرة الثورة ومعناها وأدوارها، التى دفع المصريون أثمانها كاملة.
كان ذلك استخفافا بحقائق التاريخ وهزلا فى مقام الجد.
بحركة الزمن يمكن توقع إضافات جديدة تمنع التعرف على مناطق القوة والضعف وفرص التصحيح والإضافة، كأن يحمل «عبدالناصر» مسئولية «السبعين سنة»، ثم «الثمانين سنة».. وهكذا بلا نهاية دون إدراك لمغبة ذلك على سلامة النظر إلى المستقبل.
لماذا «جمال عبدالناصر» بالذات؟
فى استهدافه حيا وميتا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
أى كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروعه، أو يلحق به سياسات «أنور السادات» و«حسنى مبارك» وما بعدهما، تجهيل بالتاريخ يستهدف الذاكرة العامة حتى يكفر المصريون بأى معنى حقيقى للثورة، وحقوقهم الطبيعية فى التحرر والاستقلال والعدل، أو أية تطلعات للتصحيح والتصويب حتى يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة ـ كما طمحت «يناير» المجهضة.
بقوة الفعل التاريخى، لا الافتراضى، اكتسب «عبدالناصر» شعبيته وامتد إرثه بكل ما فيه من أحلام أجهضت.
حسب تعبير شهير للإمام «أحمد بن حنبل» عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز».
كانت جنازته بحجمها الاستثنائى والحزن العميق فيها شهادة لا تخطئ بعمق تجربته وإلهام مشروعه.
وكان مثيرا طغيان صورته بعد الرحيل حيث مصداقية الرؤية فى اختبار الزمن.
بأى نظر موضوعى فإن «يوليو» الحقيقة الكبرى فى التاريخ المصرى الحديث.
أمام عالم جديد يتبقى من التاريخ دروسه الأساسية وأفكاره وقيمه، التى صاغت مشروعات بعينها.
استوعب «عبدالناصر» فى مشروعه أفضل ما كان مطروحا من خيارات عصره، دمج التحرر الوطنى بالالتزام القومى العربى وبفكرة التغيير الاجتماعى والانحياز للطبقات الفقيرة.
كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر فى الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق فى العمل وفى عائد الناتج القومى، أن يكون إنسانا كريما فى وطنه وآمنا على مستقبله.
وكانت توجهاته العروبية أفق حركته فى محيطه.
أية توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.
هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أى التواء فى صلب المشروع الوحدوى العربى.
لا يمكن الحديث عن أى استنساخ لـ«حركة عدم الانحياز»، أو الوحدة العربية على النحو الذى جرى فى خمسينيات القرن الماضى.
الاستلهام غير الاستنساخ.
قيم المشروع وحدها هى التى تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكنا أن يقف من جديد على أرض صلبة.
إنكار العدالة الاجتماعية انتقاص من فكرة الحرية نفسها.
الكلام المرسل عن العدالة الاجتماعية أثناء ثورة «يناير» سهل على الأيدى الخفيفة أن تلتقطه، وتذهب به إلى حيث تريد.
عندما افتقدنا تراكم التاريخ خسرت فكرة الثورة اتصالها بحقائق مجتمعها وتاريخها، وأفقدت نفسها مرجعيات ترشد دعوتها إلى العدالة الاجتماعية من واقع تجربة مصرية معاصرة.
حدة السجال الممتد شهادة لـ«يوليو» بقوة النفوذ على الرغم من انقضاء الأزمان والرجال.
قوة «يوليو» فى مشروعها الذى غيّر خريطة مجتمعها وتجاوز حدودها إلى عالمها.
أفضل ما يتبقى من إرثها احتفاظه بقدرته على إلهام المستقبل.
الصراع على «يوليو» هو صراع على المستقبل.
رغم ضراوة الحملات عليها، واتصال التشهير بها عقدا بعد آخر، حتى ذكراها السبعين، فإنها تتأبى على مغادرة مسرح التاريخ الفعلى حيث إلهام المستقبل.
التعليقات مغلقة.