ثورات بني حميدة ( قاهرة الأتراك 1889 )
الأحد 17/7/2016 م …
الأردن العربي … في زمن صعب، أخرج الأردن فيه عن سياقه التاريخي لمدة اربعمائة عام و في أعتى سنوات الاحتلال التاريخي التي غلفت بقشرة الدين مارس الأتراك أبشع أساليب الهدم الممنهج لحضارة الأردن التاريخية والتمزيق المحترف لنسيج الأردن الاجتماعي دفع الأردنيين لابتكار وسائل تكيف اجتماعية تمكنهم من البقاء في صراع مرير وطويل مع الاحتلال التركي ، تخلل ذلك الصراع أكثر من ثلاثة وخمسين ثورة أردنية صغرى سبقت تتويجها جميعا بالثورة العربية الكبرى التي كان فرسان العشائر الأردنية عمودها الفقري .
واحدة من مفاصل هذه الثورات كانت ثورة بني حميدة والتي تؤرخ لبدأ العد التنازلي لنهاية الاحتلال التركي البغيض حيث تصنف ثورة الحمايدة كواحدة من أهم النضالات التي بذلها أجدادنا في سلسلة الثورات الصغرى التي قادها الأردنيون ضد الاحتلال التركي بحيث تؤشر كل الأحداث بعدها الى تسارع الانهيار في قوة الاحتلال العثماني .
بني حميدة
قبيلة بني حميدة ويُعرفون أيضاً بــ (الحمايدة) من أكبر قبائل المملكة الأردنية، حيث يتوزع أبناء هذه القبيلة في ثلاث محافظات أردنية كبيرة في الطفيلة و الكرك و مأدبا، ذكر القلقشندي قبيلة تدعى (الحميديين) وهي أحد بطون ” جُذام “، وقال الجزيري في الدرر المنظمة ج2 ص1324 (أن عقبة والد حميدة) .
وأشار الراحل روكس بن زائد العزيزي في معلمة التراث الأردني الى أن جميع الدلائل والمراجع تشير على أنهم بطن من من جذام وكانوا أربعة أخوة هم ( فاضل ، تايه ، ذويب ، قبلان) مع مجموعة من أقاربهم .
وتوزع بنو حميدة على تجمعيين للماء في بادية الأردن هما “وادي الموجب، ووادي الوالة والهيدان”
ذباحة الدول
بعد أن تحول الأردنيون من حالة الحضر التاريخية إلى البداوة نتيجة التشتيت الممنهج والهدم المتواصل لتجمعاتهم السكنية من قبل قوات الاحتلال التركي الذي تفنن بجرائم الردم لكل بيت حجري مبني على أرض الاردن حيث تقلص على اثر ذلك عدد السكان بشكل متسارع، دفع الأردنيين إلى التحول لنمط حياة قابل للتكيف مع هذا الإرهاب المغولي الممارس من قبل الاحتلال التركي، وفرض الأتراك سلسلة ضرائب مقرونة بعمليات نهب متكرر فتبدأ الضريبة تصاعديا بخمسة وعشرين بالمئة وتصل الى حد المصادرة الكاملة للأملاك بمزاجية الجابي التركي وحجم الرشوة المدفوعة .
عام 1913 نشمية من بني حميدة ، و يظهر خلفها بيوت الشعر و الخيام حيث ذاق بني حميدة مرارة الترحال و التنقل الدائم نتيجة هدم منازلهم و نهب مؤنهم و الإمعان في الانتقام من أبنائه من قبل الاحتلال العثماني و بدأت ملامح الاستقرار تعود بقيام الثورة العربية الكبرى وانتصارها
تحت هذا النمط من الظلم والاستغلال اضف لذلك أخذ أجدادنا كحطب لمعارك الترك في رحلة السفربرلك لحماية عرش حريم السلطان المتخم بمنهوبات الدول المحتلة ومسروقات تنمية الشعوب الخاضعة للاحتلال التركي البغيض، فاختارت العشائر الأردنية أنماطا مختلفة من المقاومة للاحتلال وتميز بنو حميدة باختيار أماكن تجمع ضباط الاحتلال التركي وعسكرهم وإبادتهم على مدى سنوات حتى وصل عدد الجنود الأتراك الذين قضوا على يد فرسان عشائر بني حميدة إلى أكثر من مائتين جندي تركي ولعل تسمية بني حميدة بعد تلك الثورة بــ ( ذباحة الدول ) كانت فأل خير على الأردنيين ونذير شؤم على محاربيهم وإن كانت كلمة ( الدول) تعني مراكز العسكر والمخافر ولكن أخذت على معناها المجازي بعد أن (ذبحت) دولة الاحتلال بهمة وعزم كل الأردنيين بعدها بعشرين عام يوم استجاب القدر لكفاح الأجداد بإعلان الثورة العربية الكبرى ضد أربع قرون من القمع والإرهاب والحرق والقتل والسرقة باسم الدين.
ﻭﻛﺎﻥ ﺳﺒب الثورة ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻓﺮﺽ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﺠﻨﻴﺪ ﺍلاﺟﺒﺎﺭي وﺯﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﻀﺮﺍﺋﺐ ﺿﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻨﻲ حميدة وﻗﺪ ﺃﻏﺎﺭ ﻓﺮﺳﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﺣﻤﻴﺪﻩ في ذلك الوقت على مركز العسكر العثماني والتي كانت تسمى “الدول” واشتبكوا مع عسكر الدولة العثمانية وقتلوا منهم الكثير حتى أطلق عليهم اللقب الدارج ( ذبّاحة الدول).
وقد استبق ثورة بني حميدة عام 1889 سلسلة من المواقع الحامية خاضها بنو حميدة مع الأتراك استبقتوا فيها ثورتهم الرئيسية ونسرد منها على سبيل الذكر لا الحصر :
موقعة صباح الهروط
و التي وقعت في عام 1887 أي سبقت ثورة بني حميدة الرئيسية بعامين ووقعت في أراضي ماعين الى الغرب وتمرد فيها بنو حميدة عن دفع الضرائب وواجهوا حامية تركية مدججة بالسلاح فاقت المائتين من جنود الاحتلال.
أحداث المعركة: تلخصت بصباح ذات يوم من أيام نهاية الحصاد حيث جمعت المحاصيل على شكل بيادر وكانت في منطقة ” لب ” حيث أغار المحتلون الأتراك وسرقوا ما طالت أيديهم من قطعان ومحاصيل فرد عليهم بنو حميدة الغارة بعد إطلاق صيحة الحرب (سياح يا هلي) ويقصد به وادي السياح إحدى نخوات بني حميدة .
وخاض المعركه فرسان بني حميدة الذين سمعوا الصيحة ووصلوا أرض المعركة واستمر القتال حتى مغيب الشمس .
وفي نهاية الموقعة ولعى اثر عدّ الشهداء و الجرحى كان بنو حميدة قد قدّموا كوكبة من الشهداء ونالوا من المحتل التركي عددا من القتلى وبقيت حالة التوتر صفة العلاقة بين الأتراك والعشائر الاردنية .
موقعة الذهيبة والثمد
جمع الأتراك قوة عسكرية مدججة لتأديب بني حميدة فوضع بنو حميدة خطة دفاعية تلخصت بإدخال الجيش التركي حقول القمح اليابسة وإشعال النار بها وكانت ضربة قاصمة وصف على إثرها بنو حميدة بقاهرة الأتراك لما تركته من أثر بالغ في جسد دولة الاحتلال التركي نظرا لدقة التخطيط وعدد الخسائر .
ثورة بني حميدة 1889
على إثر التراكمات وتراجع هيبة المحتل أمام الضربات المتلاحقة من فرسان العشائرالأردنية قرر الاحتلال التركي الإمعان في غلوه فرفع الضرائب ووفر فرقة ضخمة لجباية المال وبدأوا بسرقات منظمة لقطعان الإبل والخراف التابعة للعشائر الأردنية ويسرت عمليات متابعة وملاحقة لأبناء العشائر الاردنية واستمر الكر والفر ورفض الظلم الذي تلخص بتصيد العشائر الأردنية في مواسم الحصائد والتنقل بحسب دوران الفصول لفرض ارهاب الاحتلال معتقدين ان هذا النمط من الهمجية سيخضع القبائل الأردنية ومن بينها بنو حميدة الذين باتوا هدفا مهما على قائمة الاحتلال التركي نظرا لما فعلوه بجسد الاحتلال من طعنات يصعب اخفاؤها .
وحينها حشد الاحتلال التركي لحملات انتقامية ارتكزت على مصادرة أملاك بني حميدة ونهب ممتلكاتهم وفرض ضرائب مضاعفة وطرح أملاكهم في مزايدة ونهب أموالها لتغذية حكم حريم السلطان في اسطنبول، وتشير صحيفة البشير البيروتية تفاصيل لتحدي بني حميدة وباقي العشائر المتعاضدة معهم في شهر تموز من العام 1889 في الأردن بعد أن رموا قفاز التحدي برفض الضريبة والإنصياع لإجرام الاحتلال التركي وتشير البشير : ( فقد عهد والي سوريا إلى صاحب السعادة (فوزي باشا) قومندان جاندرمة ولاية سوريا بتحصيل الأموال الأميرية واجراء التعداد فسار حتى بلغ مضارب بني حميدة الذين يرفضون دفع تلك الضريبة)، وعندما وصل القومندان فوزي باشا إلى مضارب بني حميدة صاحوا صيحة الحرب واستنصر لهم أبناء العشائر الاردنية فركب الخيل أكثر من ألف فارس من بني حميدة يرادفهم فرسان العشائر الأردنية وكانت واقعة عظيمة بين دولة الاحتلال وفرسان العشائر الاردنية تحت لواء بني حميدة قدّم فيها الأردنيون خيرة أبنائهم شهداء على مذبح الحرية وطريق الاستقلال من أبشع أربع قرون من التجارة بالدين على أرضنا وانتهت المعركة بقتل العشرات من الترك الذين مارسوا متعتهم بخطف الرهائن والتمثيل بالأسرى وفضت المعركة دون كسر شوكة العشائر الأردنية الذين أعادوا الكرة بعدها على الاحتلال بأكثر من موقعة حتى اذا ما أُعلن عن ثورة الكرك بعدها في عام 1910 كان فرسان العشائر الاردنية وبنو حميدة معهم على رأس طوابير الثورة التي كانت فيما بعد الخط الفاصل بين تاريخ الثورات الصغرى وقدوم الثورة العربية الكبرى التي أطاحت بتاريخ الاحتلال والاستبداد لتتوج مسيرة العشائر الأردنية الطويلة لنيل الاستقلال وإعادة الأردن إلى مسار التاريخ والحضارة والبناء والتنمية .
بنو حميدة في كتب الرحالة
قدم الدكتور غازي الذنيبات مقالا لخّص فيه بعض ما ذكره الرحال بيركهارت قبل نحو مائتي سنة وتحديدا في عام 1804 حيث زار الرحالة الفرنسي المولد جون لويس بيركهارت بلاد الشام والحجاز ومصر والسودان ووضع احدى روائع كتب الرحالة التي وصفت المكان والزمان والسكان برز فيها جزء من تاريخنا وما امتاز به الأردنيون من سماحة وخلق وكرم وانسانية، وفي معرض حديثه يذكر الكاتب عرب الحمايدة بما هم أهله إذ يسرد الرحالة السويسري ثلاث قصص تصف كرم الحمايدة وشهامتهم.
يذكر هذا الرحالة اقامته لدى عائلة حميدية حيث كان بضع أمتعته عندهم بينما يتجول هو وفريقه في المناطق التاريخية والأثرية، وقد أمضى أياما بضيافة الرجل وعندما همّ بالرحيل وجد ابنه الصغير في البيت فأراد أن يكرمه فاعطاه بضعة قروش ذهبية ورحل، وبعد مسير ساعات وإذا بالبدوي الحميدي يتبعه على جمله ليعيد له نقوده غاضبا وموبخا وقائلا له : ( ماذا تريد أن تقول عني العرب؟ أخذ بدل ضيافته، والله لو كان ابني يدرك معناها لقتلته)، وهنا يقول بيركهارت:( وأقسم أن بيت هذا البدوي ليس فيه حبة من قمح أو قطرة من سمن).
كما يذكر بيركهارت أيضا أنه وفي احدى زياراته لشيوخ بني حميدة وبعد أن أقام ليلته مكرما في مضاربهم علم في اليوم التالي أن شيخهم قد تعرض لطعنة قاتلة؛ كان يئن منها أنينا يقطع نياط القلب حتى أدركه أجله، ولم يخبروه حتى لا يفسدوا عليه ضيافته .
أما الواقعة الثالثة أن هذا الرحالة قد زار إحدى المدن في دولة مجاورة (نعرض عن ذكرهها احتراما لأهلها الطيبين) وبعد أن ذاق الأمرين من اهلها يقول : ( وجدت فيها أناسا يدعون أنهم عرب وحاشا لله أن يكونوا عربا، العرب الأقحاح اؤلئك الذين عرفتهم في في مضارب بني حميدة الذين لن انسى ما حييت ما بلغه جودهم وكرمهم ). هؤلاء هم أهل الجود (هلا الجود) قبائل بني حميدة ، لقد كانت القبائل والعشائر الأردنية حاضنة خير، تفوح طيبا كحامل المسك، وكان لزعماء القبائل وشيوخها اهتماماتهم التي تتجاوز حدود القبيلة إلى حدود الوطن الكبير والأمة، وتشهد لهم أعواد المشانق التركية التي حملت رؤوس أحرار العرب الذين كانوا يهتفون على أعواد المشانق أن طاب الموت يا عرب والمنيّة ولا الدنيّة .إرث الاردن
المصادر والمراجع:
صحيفة البشير، عدد شهر تموز 1889م .
الصحافة مصدرا، (تاريخ الاردن) (1876- 1923) ، د.هند ابو الشعر ، 2015 .
الاستاذ سليمان القوابعة، بحث غير منشور.
تسامح العشائر- عرب بني حميدة مثالا ، د.غازي الذنيبات ، وكالة عمون الاخبارية ، 1 أيار 2011.
رحلات بيركهارت، ترجمة أنور عرفات، وزارة الثقافة والإعلام، عمان، الأردن، 1969 .
اضاءات على ثورة الكرك 1910، د. نوفان السوارية و محمد الطراونة ، دار رند، الكرك ، 1999 .
معلمة التراث الاردني، روكس بن زائد العزيزي، دائرة الثقافة والفنون، 1983 .
تاريخ الأردن المعاصر للأول الثانوي الأدبي، مساهمة الأردنيين في اليقظة العربية و حركة بني حميدة، وزارة التربية و التعليم، 2015.
التعليقات مغلقة.