ما بين زيارة البابا لكندا .. وزيارة بيلوسي لتايوان / د. بثينة شعبان
د.بثينة شعبان ( سورية ) – الإثنين 8/8/2022 م …
السردية التي سبقت ورافقت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان تشترك في كثير من المعنى والهدف ودوافع الغموض مع الزيارة التي قام بها قداسة البابا فرانسيز إلى كندا وقدّم خلالها اعتذاره لما تبقى من السكان الأصليين هناك، الزيارتان تصبّان في حرص الغرب على الإبقاء على صورته التي اخترعها وزرعها في أذهان العالم كحامٍ «لحقوق الإنسان» وللقيم لـ«الديمقراطية» و«الأخلاقية» التي تسعى الشعوب في كل أرجاء المعمورة إلى تحقيقها.
اللافت في زيارة البابا هو أن تعتذر عن جرائم بإبادة بشرية مهولة لم تشكل مادة خصبة للدارسين والباحثين على مدى قرون وذلك بسبب الغموض المتعمد الذي يلفّ هذا الملف وندرة المعلومات المتاحة لأن المستعمرين العنصريين الأوروبيين من اللذين ارتكبوا الجرائم هم الوحيدون الذين كتبوا التاريخ وكشفوا عن قدر من المعلومات التي يناسبهم الإفصاح عنها وطمسوا كل ما يمكن أن يشكّل إدانة لهم في أعين الآخرين، وبسبب معالجة هذا الملف بهذه الطريقة وتغييب معظم الحقائق عن سجلات التاريخ تمكنت هذه الدول ذاتها التي قامت على حطام حضارات عريقة أبادتها عن وجه الأرض ببشرها ومدنها وتاريخها، من أن تنصّب ذاتها وقيمها حامية «للديمقراطية» و«حقوق الإنسان» في العالم! فهل هناك أغرب عن المنطق من أن يتمكن من أبادوا حضارات وثقافات وشعوباً من أن يدّعوا أنهم هم الذين ينشرون «الديمقراطية» في العالم وأنهم هم الأحرص على «حقوق الإنسان» في كل مكان؟!
ومن اللافت جداً أن الإعلام الذي يسمي نفسه إعلاماً حراً لم يتطرق أبداً إلى التاريخ المغيّب للسكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ويتساءل عن سبب عدم وجود معلومات وحقائق عن هذه الشعوب إلا التي أفصح عنها هؤلاء الذين قاموا بارتكاب جرائم الإبادة لهذه الشعوب، وفي كل ما قرأت يعتمد الجميع أسلوب «الغموض البناء» كما يسمونه الذين لا يريدون أن يصدقوا القول أو أن يفصحوا عن المعلومات الدقيقة للحدث، وقد تطوّر هذا «الغموض البناء» خلال زيارة البابا إلى كندا وكل السرديات التي اهتمت بالزيارة وعبرت عنها، تطوّر خلال زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان إلى «الغموض الاستراتيجي» لأن الخطر هنا أدهى وهو خطر حاضر وقائم ويمكن أن يشكّل تهديداً وجودياً للجميع. ولأن هذا الغموض ضروري لممثلي الولايات المتحدة ليتجنبوا التناقض القائم والواضح بين اعترافهم بجمهورية الصين عام 1979 وبين كل الخطوات التي يتخذونها والتي توّجتها زيارة بيلوسي، لتشجيع تايوان أن تكون في مواجهة مع الصين بدلاً من أن تكون جزءاً من وحدتها الوطنية.
والغموض هذا ينطبق أيضاً على النيات والأهداف المراد تحقيقها ليس فقط بالنسبة للعلاقة مع تايوان أو مع الصين وإنما بالنسبة لعلاقة الحزب الديمقراطي بالحزب الجمهوري داخل الولايات المتحدة ذاتها وعلاقة هذه الزيارة بالانتخابات النصفية القادمة وعلاقتها أيضاً بالوضع المتردي في الولايات المتحدة، وكالعادة فإن مسؤولي الولايات المتحدة يركزون على الصورة والانطباع أكثر من تركيزهم على المعنى الحقيقي والنتائج المرجوة من العمل ذاته وكأن عقلية هوليود تحكم الساسة الأميركيين الذين لا يولون الحقيقة والمغزى الاهتمام نفسه الذي يولونه للانطباع والصورة المتشكلة في أذهان المتلقين حتى وإن كانت نتائجها مقلقة على المدى المتوسط أو البعيد.
السجال الذي دار بين الولايات المتحدة والصين قبل زيارة بيلوسي وخلالها يشبه إلى حدّ بعيد تبادل السرديات بين الغرب وروسيا لسنوات وخاصة للأسابيع الأخيرة التي سبقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث كان التركيز الغربي على اللقاءات بين الرئيس الأميركي جو بايدن والزعماء الغربيين في إطار الجي 7 أو الناتو أو اللقاءات عبر الأطلسي بين المسؤولين الأميركيين ومسؤولي الاتحاد الأوروبي وزيارات مسؤولين غربيين إلى كييف ومن ثمّ توسيع الناتو وضم هولندا والسويد إليه وإصدار حزمة عقوبات لم تصدر بحق أي بلد في العالم تجاوزت الستة آلاف عقوبة على روسيا، ولكن وبعد انتهاء تأثير كل استعراضات القوة التي يتقنها الغرب بشكل كبير والتي لا تشكل جزءاً من ثقافة الشرق ولا تعنيه في أغلب الأحوال، ما النتائج التي نلمسها على الأرض وكيف تتناسب هذه النتائج مع السرديات التي استخدمها الغرب في حينه؟
بعد خمسة أشهر على الحرب الغربية بالوكالة على روسيا في أوكرانيا نستطيع القول: إن البلد الذي دفع الفاتورة الباهظة لهذه الحرب هي أوكرانيا ذاتها، حيث تحوّل ملايين الأوكرانيين إلى لاجئين ومهجرين وتم تدمير مدنهم وقراهم وبناهم التحتية وأسلوب عيشهم بطريقة لا يعرف أبعادها إلا الذين عانوا من هذه الحروب لأجيال ويعرفون ماذا تعني الحرب بالنسبة للمجتمعات والعوائل والأفراد وتاريخهم حاضرهم ومستقبلهم وقد عرف العراقيون النتائج الكارثية لزج بلادهم في حرب عبثية بالوكالة عن الدول الغربية ضد إيران، أي إن كل الادعاءات الغربية بإرسال المعونات إلى أوكرانيا هي عمليات لتصريف أسلحتهم وإغناء جيوب مالكي مصانع السلاح لديهم على حساب الشعب الذي يزعمون مساعدته، أما بالنسبة للدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية فإن الوضع الاقتصادي والمعيشي لديهم أسوأ بكثير من الوضع الاقتصادي والمعيشي في روسيا التي انهالت عليها آلاف العقوبات منهم. وقد تكشف السنوات المقبلة أن نتائج هذه الحرب أكثر كارثية على أوروبا مما توقعه أو تخيله أحد لدى حدوثها.
قد يظن البعض أن الولايات المتحدة نجحت في أن تنفّذ كلمتها في زيارة بيلوسي لتايوان وأن «الغموض البناء» بين الاعتراف بصين موحدة وبين تشجيع تايوان على الدوران في الفلك الأميركي قد نجح وأن الصين لن تتمكن من أن تفعل شيئاً ملموساً في هذا الإطار، ولكنّ هؤلاء لا يدركون عمق الفرق بين التفكير الغربي الذي يركّز على الصورة والحدث والآن وبين التفكير الصيني الاستراتيجي العميق والهادئ ولكنه الأكثر فاعلية والأكثر حصاداً للنتائج الحقيقية.
لم يكن من المتوقع أبداً أن ترتكب الصين فعل حماقة بحق طائرة بيلوسي ولا أن ترتكب عملاً يرخي بظلاله الكارثية عليها مستقبلاً؛ إذ ما قامت به الصين ليس استعراضاً عسكرياً فقط وإنما مناورات عسكرية بالذخيرة الحية في المياه والمجال الجوي المحيط بجزيرة تايوان، بحيث تطوّق المناورات الجزيرة بشكل غير مسبوق يصل إلى حد فرض حصار على مجالها البحري والجوي، ويعلّق أستاذ في جامعة الدفاع الوطني في الصين على هذه المناورات بالقول: «في الواقع يتيح هذا ظروفاً جيدة جداً لنا عندما نعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي في المستقبل بما يؤدي إلى توحيدنا».
لا شك أن هذه المناورات سيُبنى عليها في الصين وستشكل تحذيراً للمسؤولين في الولايات المتحدة وتايوان أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل عامل الجغرافيا الذي يصبّ كلياً في خدمة الصين ويشكّل رادعاً لأي حماقة يمكن أن تفكّر بها الولايات المتحدة في قضية تايوان بعيداً عن مجرد الصورة أو الانطباع وخدمة الأهداف الانتخابية الداخلية. وفي الوقت ذاته وضعت الصين نانسي بيلوسي وأفراد عائلتها على قائمة العقوبات وألغت اجتماعات بين مسؤولين رفيعي المستوى في وزارتي الدفاع الصينية والأميركية كما أوقفت الصين التعاون مع الولايات المتحدة في ملفات عدة. وبالإضافة إلى منطق الجغرافيا فإن منطق الاقتصاد يقول: إن 42 بالمئة من صادرات تايوان تذهب إلى الصين بينما 15 بالمئة فقط تذهب إلى الولايات المتحدة، و22 بالمئة من واردات تايوان تأتي من الصين بينما 10 بالمئة فقط منها من الولايات المتحدة. المناورات العسكرية التي أقامتها الصين في مضيق تايوان قد عطلت الملاحة البحرية ووصول السلع إلى أمكنة مختلفة من العالم وبهذا أعطت الصين مؤشرات حول خطورة ما يمكن أن تقوم به لردع التدخل في شأنها مع تايوان ما اضطر نانسي بيلوسي إلى التصريح أنها لا تقصد تغيير واقع الحال، ووزير الخارجية الأميركي أن يعلن أن الصين بالغت في اتخاذ إجراءات لا مبرر لها. كما أن وزيري الخارجية الروسي والصيني أعلنا في أعقاب زيارة بيلوسي عن تعاون بينهما لبناء عالم جديد قائم على العدالة.
إذاً وبدلاً من «الغموض الاستراتيجي» الذي تبنته الولايات المتحدة أسلوباً لتجنب ملامسة الحقيقة والواقع، تردّ الصين بمشهد «استراتيجي» سوف يكون أساسياً «للتفكير الاستراتيجي» الصيني لاجتراح الخطوات الحقيقية واللازمة لإعادة توحيد الجزيرة مع الصين والانتهاء بصين واحدة في الزمان والمكان المناسبين، وهذا هو الفرق بين من يعتمد إبادة الشعوب لبناء دولته وبين من يراكم حضارات وخبرات على مدى قرون ويستفيد منها في كل خطوة وقرار، وخاصة إذا كان الهدف هو تغيير موازين القوى مرة وإلى الأبد.
التعليقات مغلقة.