تونس- الولايات المتحدة … علاقات هيمنة / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 16/8/2022 م …

على هامش الجَدَل حول التّصريحات الرسمية الأمريكية بخصوص تونس …




اتسمت العلاقات التونسية الأمريكية بالنّفاق منذ بداية القرن التاسع عشر، فرغم توقيع اتفاقية صداقة وتجارة سنة 1799، قصفت البوارج الأمريكية تونس (وطرابلس والجزائر) بين 1805 و 1815، بذريعة “مكافحة القَرْصَنَة البَحْرِية” ( قبل استبدالها بعبارة “محاربة الشيوعية” ثم “مكافحة الإرهاب” )، وكان بورقيبة مُتذَيِّلاً للإمبريالية الأمريكية، باسم العداء المُشترك للشيوعية وللإتحاد السّوفييتي، فدعم العدوان الأمريكي على شعب فيتنام، ودعم العدوان العسكري الأمريكي على لبنان، والتّدخّل في اختيار الرئيس، سنة 1958، وقاطع (مع السعودية ) نظام مصر بين عُدْواني 1956 و 1967، ودعا بورقيبة سنة 1965 إلى تقاسم فلسطين مع الإحتلال الصهيوني…

تغيّرت مظاهر تَبَعِية أنظمة البلدان الفقيرة، وأصبح جُزْءٌ منها يتم عِبْرَ “المُساعدات” ( وهي إسم غير مُطابِقٍ للمُسَمّى) و”المنظمات غير الحكومية”، وأهمها “مبادرة الشراكة الأمريكية للشرق الأوسط” ( ميبي –  US- Middle East Partnership Initiatve – MEPI) التي يوجد مكتبها الرئيسي بتونس، منذ سنة 2002، وهي تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، و “يو إس آيد”، فضلا عن “المجتمع المفتوح” و “وقف الدّيمقراطية” (نيد)، وغيرها، لكن لم تتراجع الولايات المتحدة عن التّجسّس على زعماء الدّول الحليفة ( دول حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي…) وعن التّدخّل المباشر في الشؤون الدّاخلية للبُلدان، وخصوصًا البلدان الفقيرة، مثل لبنان أو تونس، ما أثار استنكار بعض القوى، حيث تمارس حكومة الولايات المتحدة الإبتزاز، باشتراط تنفيذ حكومة تونس “إصلاحات اقتصادية” (مُناهضة لمصالح الفقراء) لكي تدعم مطالب تونس للإقتراض الخارجي، وفي مجال التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، عَلَّقَ وزير الخارجية الأمريكي (أنتوني بلينكن)، يوم الخميس 28 تموز/يوليو 2022، على تدنِّي نسبة المُشاركة في الإستفتاء المتعلق بدستور تونس (25 تموز/يوليو 2022) ما اعتبره “إضعافًا للديمقراطية ولحقوق الإنسان…”، وأَمَرَ الحكومة التونسية بالإسراع في احتواء الأزمة التي خلقها شكل ومحتوى الدّستور الجديد، ورفَضت 14 جمعية ونقابة  ومنظمة، منها الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، ومنها منظمات مُعارضة للرئيس “قيْس سعَيِّد”، هذا البيان واعتبَرَتْهُ تدخُّلاً في الشأن الدّاخلي التونسي، وسبق أن أدلى المُرشّح لمنصب سفير الولايات المتحدة بتونس “جوي هود”، أمام الكونغرس، بتصريحات في شكل أوامر للحكومة التونسية بضرورة الإلتحاق بركب التّطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصّهيوني، وضرورة “الإسراع بتنفيذ الإصلاحات” التي يشترطها المُقْرِضُون، ما أثار شبه إجماع ضدّ تصريحه، وضد تصريح وزير خارجيته، باعتبارهما “تدخلا صارخا في الشأن الوطني الداخلي التونسي وتعديا على السيادة الوطنية وعلى حق المواطنين في مقاومة مشروع الرئيس قيس سعيّد…” بدون تدخُّل خارجي، لكن هذا الموقف العَلَنِي يُخْفِي تبايُنًا في المواقف والممارسات، بين المنظمات التي تحصل على دعم مالي وسياسي ولوجِيستي من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وغيره، والمنظمات المُستقِلّة التي لا تحصل على تمويلات خارجية، فيما تعتزّ الحكومات المتعاقبة ب”روابط الصداقة وعلاقات الإحترام بين البَلَدَيْن…” وهي عبارات دبلوماسية مُنافِقَة لا تَعْكِسُ الواقع المُتّسِم بالضّغوطات والإبتزاز التي يُمارسُها الطّرف الأقْوى، أي الولايات المتحدة التي ربطت علاقات سياسية مع مُعظم القُوى السياسية، منذ فترة حُكم الجنرال زين العابدين بن علي، ومنها الإخوان المسلمون وحزب أو تَيّار نجيب الشابي (الذي يتغيّر إسمُهُ باستمرار) وكذلك حزب العُمّال، وتتدخّل الولايات المتحدة في الشأن الدّاخلي لجميع الدّول، وتُهدّد الجميع بقواتها العسكرية المنتشرة في ثمانمائة قاعدة في أنحاء العالم، فضلا عن المنظمات الدّولية التي تُديرها بشكل مباشر (مثل حلف شمال الأطلسي) أو بشكل غير مباشر، مثل صندوق النقد الدّولي، وتنعت أنظمة الدّول التي تختلف معها بالإستبداد والشُّمُولِيّة، كما دأبت حكومات الولايات المتحدة على عَسْكَرَة السياسة الخارجية، وحل استفزاز المنافسين (روسيا والصين) وشن الحُرُوب بالوكالة محل التفاوض والبحث عن حُلُول سلمية للمشاكل أو المسائل العالقة…

أما على مستوى السياسات الدّاخلية الأمريكية فإن تغيير الرئيس أو أغلبية المجلس (الكونغرس) لا يُؤَدِّي إلى تغييرٍ في جوهر السياسات الطّبَقِية والمَيْز العنصري وخفض حصة الخدمات الإجتماعية من الميزانية الإتحادية، بالتوازي مع زيادة الميزانية العسكرية…       

بالعودة إلى العلاقات الأمريكية التونسية، أظهرت مجموعة من الوثائق التي كانت تُعتبر سرّية، قبل الإفراج عنها أو قرصنتها، أن قِصَر المسافة بين الوطن القبلي (الشمال الشرقي لتونس) والقواعد العسكرية الأمريكية بجزيرة صقلية، والتّواجد المُستمر للأُسْطُول السادس الأمريكي بغربي البحر الأبيض المتوسط يجعل من تونس منطقة استراتيجية (للقوة العسكرية الأمريكية) هامّة باللنسبة لما تعتبره الولايات المتحدة “الأمن القومي الأمريكي”، والذي يشمل في واقع الأمر كافة مناطق العالم، من تايوان إلى أوكرانيا ومن كولومبيا إلى فلسطين المحتلّة، ورَوّجت بعض المنظّمات التونسية “إن الحكومة التونسية لم تَطْلُب مَنْحها صفة الشريك الإستراتيجي من خارج حلف شمال الأطلسي”، ومنحتها الحكومة الأمريكية هذه الصّفة لتتمكّن من استخدامها كذريعة للتدخل من أجل “الحفاظ على أمن واستقرار تونس…” إذا اقتضى الأمر، وتُشرف الولايات المتحدة، منذ حوالي 15 سنة، عبر “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا) على تسليح وتدريب الجيش التونسي، وإشراكه في مناورات إقليمية أو قَارِّيّة دورية، كما صرّح “لويد أوستن”، وزير الحرب الأمريكي (رويترز- الثلاثاء 09 آب/أغسطس 2022) “إن الولايات المتحدة مُلْزَمَة بدعْم أصدقائها في تونس” (دون تحديد هؤلاء “الأصدقاء”) وكثفت الولايات المتحدة من ابتزازها وتدخُّلِها في الشّأن الدّاخلي التونسي، مُقابل وَعُود بالتّدخّل لكي توافق المؤسسات المالية الدولية على إقراض الحكومة التونسية، رغم انهيار الإقتصاد وتَبَعِيّتِهِ للدّائنين وتراكُم الدّيُون الخارجية، وتَرَاجُعِ التصنيف الإئتماني السيادي…

من العبث بَثَّ الأوْهام عن احتمال دعم الإمبريالية الأمريكية (مهما كان اسم ولون الرئيس، واسم الحزب الذي يمتلك أغلبية داخل الكونغرس) للدّيمقراطية أو للحُرّيّات في بلد مثل تونس أو الأردن أو المغرب أو لبنان، أو الصّين أو فنزويلا أو إيران، في حين تُحاصر أساطيلها دُوَلاً عديدة، وتنظم استخباراتها العسكرية الإنقلابات ضد الحكومات التقدمية، وتدعم الكيان الصهيوني والدّكتاتوريات، وتعتدي جيوشها على العديد من البلدان والشّعوب، فلا يمكن أن تكون الإمبريالية الأمريكية حامية للكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني وكافة الشّعوب العربية، مع ادّعائها الدّفاع عن الدّيمقراطية والحُرّيّات في أي مكان من العالم…

أظْهَرت الإمبريالية الأمريكية قُدْرَتها على دعم أعْتَى الدّكتاتوريات ثم التّخَلِّي عن أي حاكم دكتاتور، من أجل المُحافظة على المصالح الأمريكية (شاه إيران أو موبوتو رئيس زائير أو فرديناند ماركوس…) أو لتغيير رأس السّلطة مع المحافظة على نظام عميل، مثلما حصل في مصر وتونس بعد انتفاضات 2010/2011، حيث شكّل “جيفري فلتمان” (مساعد وزير الخارجية الأمريكي، ومساعد بول بريمر في العراق المحتل) حكومات يتزعمها رجال النظام السابق بتونس ثم بمصر.         

إن أي حديث عن استقلالية قرار الدُّوَل المُثْقَلَة بالدُّيُون يُعتَبَرُ غير واقعي، ويفقد مصداقيته خصوصًا عندما يصدُرُ مثل هذا الحديث عن منظمات تُمَوِّلُها صناديق وأوْقاف ومنظمات أمريكية وأوروبية، أو عن زُعماء منظمات وأحزاب – من معظم الإتجاهات السياسية – يحتفلون بالسفارة الأمريكية بيوم الرابع من تموز/يوليو من كل سنة، أو عن وزراء يَرْكَعُون أمام الدّائنين وأمام زعماء أوروبا وأمريكا الشمالية، بينما يتعاملون بعجرفة وعَنْجَهِيّة مع النّقابيين ومع فئات الشعب الكادح التي تحتج على ارتفاع الأسعار وعلى انتشار البطالة والفقر…

إن تأييد قسم هام من المواطنين للرئيس قَيْس سعَيِّد، منذ انتخابه، سنة 2019، رغم غياب البرنامج والخطط، كان تعبيرًا عن رَفْض المنظومة التي حكمت “باسم الثورة”، بعد انتفاضة 2010/2011، ونتيجة لغياب قُوة تقدُّمية قادرة على تنظيم الغضب وتحويله إلى ثورة ضد الإخوان المسلمين وائتلافهم الحاكم، وبدأ جزء من المُؤَيِّدِين ينفَضُّ عن “قيس سعيّد” بسبب انكشاف عجزِهِ عن تلْبِية المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لأن قيس سعيد ليس نبِيًّا مُخلِّصًا، بل يُمثِّلُ منظومة فكرية ليبرالية في مجال الإقتصاد، ومحافظة في مجال السياسة، وهو مدعوم في الخارج من قِبَل بعض الدّول الأوروبية ومن أنظمة مصر والإمارات والسعودية، وفي الدّاخل من قِبَل شرائح من البرجوازية الصغيرة، ومجموعات سياسية صغيرة لا تمتلك برنامجًا مُستقلاًّ وأهدافًا ثورية تعمل على تحقيقها، ولولا دعم القوات المُسلّحة (الأمن الدّاخلي والجيش) وقسم من البرجوازية لما تَمَكَّنَ من البقاء في الحُكْم، ولما تمكّن من قَمْع الإحتجاجات ومن مُصادرَة الحُرِّيّات، تمامًا كما فعل سَابِقُوه، ولن يتمكّن من البقاء في منصبه، رغم الدّستور الذي صاغَهُ على مَقاسِهِ، إذا لم يستجب لمطالب العاملين والفُقراء والكادحين من أُجَرَاء ومُزارِعين ومُعطّلين عن العمل، ولمطالب سُكّان المناطق الدّاخلية (البعيدة عن السّواحل) الذين أطلقوا معظم الإنتفاضات بالبلاد، منذ أربعة عُقُود، أي منذ “انتفاضة الخُبز” ( 1983/1984) مرورًا بالحَوْض المنجمي سنة 2008 إلى انتفاضة 2010 – 2011 …

لم تتغيّر طبيعة النّظام، بعد انتخاب قيس سعَيّد رئيسًا، ولا يُبشِّرُ الوضع بخَيْر سواء قَبْلَ أو بَعْدَ الإستفتاء على الدّستور (25 تموز/يوليو 2022) فلا برامج ولا خطط ولا ميزانية لمعالجة مشاغل المواطنين من بطالة وفقر وارتفاع أسعار السّلع والخدمات الضرورية والأساسية، مع ارتفاع عجز الميزانية، وارتفاع الديون الخارجية، وغياب برامج التنمية، وقَمْعُ الحُرّيات والحركات الإجتماعية، ويمكن التأكيد اليوم أنه يمكن للدّساترة، أنصار بورقيبة وبن علي، أو الإخوان المسلمين العودة إلى السّلطة، من خلال انتخابات ديمقراطية، إذا لم تتمكّن القوى التّقدّمية من إنشاء جبهة وبرنامج وقُوى قادرة على التّصدّي لأي محاولة لاستعادة الحُكْم من قِبَل الرّجعية.

يتطلّبُ الوضع في تونس (كما في مصر أو غيرها) استخلاص الدّرُوس من تجربة “الجبهة الشعبية”، بعد 2011، بهدف تأسيس تحالف يضُمُّ القوى التّقدُّمِية (لا مكان فيها لهيمنة طرفٍ ما، تلافيًا لما حصل خلال تجربة “الجبهة الشعبية” )، حول برنامج مطلبي يتضمن تعيين لجنة تدرس إلغاء الدّيُون، وتحسين الوضع المعيشي للمواطنين الكادحين والفُقراء، وبرنامج أشْمَل يتضمّن تحقيق السيادة الغذائية وتوجيه الإستثمار نحو إنتاج الغذاء والدّواء وتلبية الحاجيات الأساسية للمواطنين، كما يتضمّن سُبُلَ مُشاركة المواطنين في الحياة السياسية اليومية، وفي التخطيط المُستقْبَلِي، وإطلاق النّقاشات حول التعاون الإقليمي والعلاقات الخارجية المُبْنِيّة على المصلحة المُتَبادَلة للشُّعوب، خلافًا لعلاقات الهيمنة التي تفرضها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، والقَطْع مع “التّقاليد” السياسية السابقة التي جعلت القوى التقدّمية واليسار تُقدّم الشُّهُداء والمُصابين والمَساجين، لتستغل القوى الرجعية والإنتهازية تضحيات أبناء الفُقراء، والإستيلاء على السُّلْطة.

ماذا أعدّت القوى التّقدّمية لمعارضة تدهور ظروف العيش وارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والبطالة؟ وما أعدّت من بدائل لتكون حاضنة للكادحين وللفُقراء، بهدف تطوير النضال المطلبي وتحويله إلى نضال ثوري، ضد منظومة اقتصادية وسياسية، وليس ضد بعض الرُّمُوز…

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.