مقال هام … مساهمة في تبسيط مفاهيم الإقتصاد السياسي / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 18/8/2022 م …
من نظريات الإقتصاد الشّمولي إلى واقع الحياة اليومية
“اليد الخفية” للسوق
ابتكر “آدم سميث” (1723 – 1790 )، منتصف القرن الثامن عشر نظرية “اليد الخفية” ( The Invisible Hand ) التي تُحرّك الإقتصاد وتُحقّق توازنًا بين الإنتاج والإستهلاك، بين العَرْض والطّلب، دون أي حاجةٍ لتدخُّل الدّولة، وادّعى أن حُرِّيّة السُّوق “تعود بالنّفع على المُجتمع”، وإن “الإقتصاد المُخَطّط، وتدخّل الدّولة في توزيع السّلع وضَبْط أسعارها، مُضِرٌّ بالمجتمع”، وينكُر وَرَثَتُهُ من الليبراليين الإقتصاديين هيمنة الإحتكارات على حركة الإنتاج والتوزيع، والعرض والطّلب، وتحكُّمَ هذه القوى غير الخَفِيّة في مصير مليارات البشر…
يزعم السياسيون والبيروقراطيون والنقاد الإعلاميون والأكاديميون أن “آليات السوق” محايدة سياسياً وأيديولوجياً، بينما يتغافلون عن تلاعُب الرأسماليين بتكاليف الإنتاج وبالأسعار بالأسواق من أجل غايات تجارية مربحة.
إن الأسواق ليست محايدة بل هي في صُلْب الصراعات وتضارب المَصالح بين الأغنياء والفقراء، والأسواق مؤسسات مالية وتجارية ابتكرها البشر، ويتم تحديثها بشكل دوري، وتم تأسيسها مع ظهور التقسيم الصارم للعمل، كواسطة لتوزيع السلع والخدمات من المنتجين إلى المستهلكين، ويُمكن إلغاء هذه الواسطة وتوفير تكاليفها، إذا ما توفّرت سُبُل الإتصال المباشر بين المُنْتِج والمُستهلك، والقضاء على “الوساطة” والمضاربة.
يزيد الرأسماليون أرباحهم من خلال التلاعب بكل من العرض والطلب لخلق أو استمرار “نقص” المَعْرُوض، بهدف إجبار المُستهلكين على قُبُول ارتفاع الأسعار، كما ابتكرت الرأسمالية الإعلانات (الإِشْهار) لتحفيز الطلب بشكل مصطنع. من جهة أخرى يتلاعب أرباب العمل (الذين يُمثّلون حوالي 1% من سُكّان العالم) بـ “سوق العمل”، فإذا كان عدد العمال الذين يبحثون عن عمل أكبر من عدد الوظائف المتاحة، يُخَفِّضُ أصحاب العمل الأجور، فهم يُدْرِكُون اضطرار العمال لقبول الرواتب المنخفضة، في أوقات الأزمات والبطالة، ما يُضْعِفُ دَوْرَ النقابات والمنظمات العُمّالية التي نجحت في فرض حد أدنى للأجور، لكن تَطَوُّرَ أساليب الإستغلال، واستخدام التكنولوجيا وأتمتة قطاعات السيارات أو التعدين أو خطوط التجميع، هي عوامل سمحت لأصحاب العمل بإلغاء وظائف أقْسام أو حتى قطاعات كاملة واستبدال معظم العُمّال بالآلات، ما يُمكّن أرباب العمل بالتّلاعب بأسواق العمل، تمامًا كأسواق المنتجات، وذلك من أجل زيادة الأرباح، أما الأخلاق التي يتحدّث عنها “آدام سميث” فهي تلك التي تُشَرِّعُ الإستغلال والإضطهاد…
يتلاعب رأس المال المالي بسوق القروض وأسعار الفائدة الائتمانية، الأمر الذي يتسبب أحيانًا في أزمات، مثل “فقاعة العقارات” سنة 2008 بالولايات المتحدة التي تحولت إلى أزمة عالمية، فكانت المصارف والشركات من أكبر المُستفيدين (بفضل المال العام) فيما كان العمال الضحايا الرئيسيين لهذه الأزمة التي أظْهَرت (وهي ليست المرة الأولى) أن الشركات الكبرى تستغل الأزمات لابتلاع الشركات الأَصْغَرَ، بواسطة الإستحواذ أو الإندماج…
عودة إلى مسألة وظيفة السّوق في الدّوْرَة الإقتصادية، لنشير أن الأسواق كانت موجودة قبل الرأسمالية بوقت طويل ، لكن الرأسمالية جعلت من تعميمها قضية إيديولوجيه، فانتشر اقتصاد السّوق (بالقُوة المُسلّحة) في كافة مناطق العالم، عند انتصار النّظام الرأسمالي على منظومة الإنتاج السابقة له – أي ما قَبْل الرأسمالية- بحسب كارل ماركس ( 1818 – 1883).
كافحت الرأسمالية الأوروبية بشدة المفهوم المسيحي “للسعر العادل”، الذي يختلف عن “سعر السوق” ، القائم (نظريًا) على “التوازن بين العرض والطلب”، وابتكرت الرأسمالية نوعًا من “الدّيانة الجديدة” المتمثلة بالأسواق و “سعر التوازن”، وخلافًا لما ادّعاه “آدم سميث” من وجود “اليد الخفية”، فقد أثبتت الوقائع استحالة تحقيق السّوق الحُرّة “التوازن التلقائي” للإقتصاد، فقد تدخّلت الدّولة دائمًا لحماية المِلْكية الخاصة، وعندما تتالت أزمات الإقتصاد الرأسمالي، تدخّلت الدّولة (وليس اليد الخفية) لإنقاذه وضَبْطِ آليات السُّوق، بفعل توزيع المال العام على الأثرياء والمصارف وشركات الإنتاج والخَدَمات، ما سمح للشركات الإحتكارية بالإزدهار، والعودة إلى تحقيق الرّبح الوفير بعد فترة قصيرة من اختلال التوازنات، في حين انخفضت القيمة الحقيقية للرواتب وتدهوَرَ وَضْعُ الكادحين، خصوصًا بعد تآكل الدّخل بفعل ارتفاع الأسعار أو التّضخّم.
عن التضخم
بدأت زيادات الأسعار في الربع الأخير من سنة 2021، قبل الحرب في أوكرانيا ببضعة أَشْهُرٍ، وتفاقم هذا الوضع منذ الحرب مع ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام والمواد الغذائية، إذ استغلّت الشركات الإحتكارية نقص إمدادات المواد الأساسية الضرورية، لتبيع مخزوناتها القديمة من الغذاء والوقود بأسعار مرتفعة جدًّا، ما أثر على الفئات الأكثر فقرًا.
لا يمكن استبدال النفط والغاز بمواد أخرى، على المدى القصير، رغم الإقرار بتأثير تغيير المناخ على الاقتصاد العالمي، على مدى طويل. من جهة أخرى أحدثت النيوليبرالية تغييرات سلبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، فأصبح اقتصاد العديد من البلدان تحت سيطرة الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، التي نقلت بعض الأنشطة الإقتصادية الملوثة أو استأجرت أراضٍ خصبة لفرض الزراعة الأحادية المُعَدّة للتصدير، ولما انتشر وباء “كوفيد – 19″، أدى إغلاق الاقتصاد إلى شل الحياة بهذه البلدان، مع تعطيل قطاعات الإنتاج والنقل والتجارة الدولية، مما أسْفَرَ عن نقص في حجم العَرْض وعن ارتفاع الأسعار.
يمكن أن يتسبب تغير المناخ والظواهر الجوية المتطرفة في حدوث مشكلات في سلسلة التوريد أو تفاقمها، ومع ذلك ، فقد فرضت العولمة الإنتاج “في الوقت المناسب”، لتجنب المخزونات، باستثناء تلك التي تُبَرِّرُها المُضارَبَة، ولكن عندما يتوقف الإنتاج، يتوقف العرض أيضًا ولا يتم تلبية الطلب، مما يؤدي إلى عدم توازن العرض والطلب، وإلى زيادة الأسعار، مع التّأكيد إن التوترات الجيوسياسية ليست سبب ارتفاع الأسعار، لكنها عوامل مفاقمة.
وجب وضع حَدٍّ لتوزيع المال العام على الأثرياء والمصارف والشركات العابرة للقارات، وفرض ضريبة على الثروة وعلى أرباح الشركات والأعمال المُسمّاة “حُرّة”، أما على المدى الطويل، من الضروري وضع القطاعات الأساسية تحت سيطرة الدولة والعاملين ، لتنظيم إنتاج الضروريات الأساسية وأسعارها، والحفاظ على دخل لائق للمواطنين، وضمان جودة المنتجات والخدمات بأسعار مدعومة، أو تتطابق مع دَخْل الكادحين والفُقراء.
من المستفيد من “التوظيف الكامل” في البلدان الرأسمالية المتقدمة؟
استُخْدِمَ مصطلح “التوظيف الكامل”، وما هو سوى مفهوم ( Concept ) لا يتوافق مع الواقع، لأول مرة سنة 1913 من قبل الاقتصادي البريطاني آرثر سيسيل بيغو، زميل جون ماينارد كينز في كامبريدج.
عرّف جون ماينارد كينز، سنة 1936، “التّوظيف الكامل” على النحو التالي: يتم تحقيق التوظيف الكامل عندما يجد جميع الأشخاص الذين يرغبون في العمل وظيفة ، باستثناء أولئك الذين لا يستطيعون” أما منظمة العمل الدولية (ILO) فقد عَرّفَتْهُ كما يلي: حالة يتم فيها تقليل البطالة في إقليم ما إلى نسبة ضعيفة لا يمكن السيطرة عليها، أي بمعدل يقل عن 5% من السكان النشطين (القادرين على العمل)، وبالنسبة لصندوق النقد الدولي، يتم تحقيق التوظيف الكامل عندما تقتصر البطالة على فترة الانتقال الطبيعية بين وظيفتين، أي “عندما يحصل كل من يريد العمل على وظيفة“.
كانت معظم الوظائف التي تم إنشاؤها في السنوات الأخيرة في قطاعات الخدمات ذات الإنتاجية المنخفضة، مثل الفنادق والمطاعم والسياحة والنقل وأنشطة الخدمات الشخصية (التوصيل والصحة ورعاية الأطفال والمرضى والمُسنِّين، وما إلى ذلك) وخدمات الأعمال (الإدارة والأمن الخاص وتكنولوجيا المعلومات والتسويق والإتصالات والإعلان إلخ.) إلخ، يتباكى أصحاب ومُدِيرُو مثل هذه الشركات من “صعوبة العثور على موظفين بسبب نقص المرشحين”، فهذه القطاعات معروفة بظروف عملها السيئة جدّا والأجور المنخفضة للغاية، ولهذا السبب لا يجدون موظفين يقبلون ظروف العُبُودية…
ينتقد بعض الاقتصاديين أُسُسَ فكرة التّوظيف الكامل” لأنه يمكن تحقيقه على حساب العاملين في أسفل درجات السّلّم الوظيفي، حيث يتم خلق وظائف بعقود غير مستقرة وبدوام جزئي، وهي شروط مفروضة على العاملين الذين يُجْبَرُون على قبول ظروف عمل سيئة و بأجور منخفضة، تحت التّهديد بفقدان إعانات البطالة ( وهي من اشتراكات العاملين) والمساعدات الاجتماعية، لذا فإن التوظيف الكامل ليس وضعًا مناسبًا لجميع العمال، إذْ لا يؤدي نمو التوظيف، حَتْمًا، إلى تعزيز وضع الموظفين ولا يؤدي دائمًا إلى زيادات في القيمة الحقيقية للرواتب، وهي سياسات بدأت الرأسمالية النيوليبرالية تطبيقها منذ أكثر من أربعة عقود، تمثّلت في خصخصة الخدمات العامة، وإضعاف النقابات العمالية (منذ 1979 في بريطانيا العظمى ومنذ 1980 في الولايات المتحدة) وقمع أي شكل من أشكال الإحتجاجات العمالية …
تهدف كل شركة تقليل تكلفة الإنتاج وزيادة حجم المبيعات، ولكن حصل، على مدى خمسة عقود، تباطؤ في الإنتاجية، بالتوازي مع نَقْلِ الأنشطة الاقتصادية التي تتطلب المزيد من العمالة (المنسوجات والجلود وتجميع الأجزاء الميكانيكية أو الإلكترونية، وما إلى ذلك) إلى البلدان ذات الرواتب المنخفضة، كالصين وفيتنام وموريشيوس، على أن تستثني التكنولوجيا العالية والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية من نقل نشاطها خارج البلدان الرأسمالية المتطورة، وتشكل هذه العملية شكلاً من أشكال الضغط على عمال “المركز” (الدّول الرأسمالية الإمبريالية)، تُضاف لها “الإصلاحات” النيوليبرالية التي تهدف إلى إضعاف الهياكل النقابية أو أي تمثيل للعمال في مكان العمل، ثم مثلت أزمتا 2008 و 2020، على سبيل المثال، فرصة جيدة لممارسة الابتزاز ضد الموظفين، وتوزيع المال العام على الأثرياء، فمنذ سنة 2008 حصلت المصارف والشركات الكُبْرَى على مبالغ ضخمة من ميزانية الدولة، أي من الضريبة على دَخْل الأُجَراء وضريبة استهلاك السلع والخدمات، وكانت هذه المصارف والشركات الكُبرى تتلقى إعانات منذ عقود، بالإضافة إلى خفض الضرائب على الأرباح وإعفاءات مختلفة من اشتراكات الضمان الاجتماعي، وكُلّ ما يُيَسِّرُ الحفاظ على ربحية العديد من القطاعات الاقتصادية، لكن لم يستفد عُمّال وموظّفُوا هذه الشركات من المال الذي حصل عليه أرباب العمل، بل بالعكس، ساءت حالهم (ظروف العمل والرواتب والحوافز…) واستفاد مالكو الأسهم فقط من هذه الإعانات والإعفاءات الضّريبية، ما يُعَمِّقُ الفجوة الطّبقية، بواسطة المال العام، ولما تعللت الشركات بالتضخم وبزيادة أسعار الطاقة لترفع أسعار منتجاتها (منذ الرّبع الأخير من سنة 2021)، تناسى مُديرُوها أن التضخم يؤثر على الأُجراء، ورفضوا زيادة رواتبهم ، فلم يتحسّنْ وضع الموظفين، بل ترافقت الزيادة في الأسعار مع ضغط كبير على الموظفين، فيما زادت أرباح المساهمين.
إن “التوظيف الكامل” أو خلق وظائف جديدة لا يرفع الأجور، بل تم استخدامه لإجبار العمال على قبول الوظائف المطروحة في السوق بالظروف التي يمليها رأس المال، فهو في وضع قوي، يدعمه جهاز الدّولة، وتُساعده الدّولة علىة لَجْم العمل النّقابي، عبر القوانين التي تشدد القيود على العاملين، وتُحارب تأسيس النقابات وتُحاصر العُمّال الأكثر وَعْيًا، لِيُصْبِح العامل (الأَجِير) مُحاصرًا، باسم الأزمة وباسم “كوفيد” وباسم التضخم، لتستمر الأجور المنخفضة وظروف العمل المتدهورة، على الرغم من بعض التمردات القليلة، في الولايات المتحدة أو في بريطانيا العظمى أو في ألمانيا.
تراجع النضال السياسي الذي يستهدف أسس النظام الرأسمالي، فتراجع العمل النقابي والنضال المطلبي، وتضَخّم نُفُوذ وهيمنة الأثرياء والمضاربين من غير المنتجين .
التعليقات مغلقة.