الولايات المتنافرة الأمريكية / محمد عبدالمنعم الشاذلي

محمد عبدالمنعم الشاذلي* ( مصر ) – الإثنين 19/9/2022 م …




  • سفير مصري سابق وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية …

نظرة متأملة للعلم الأمريكى تكشف حقائق قد تكون خافية من خلال النظرة العابرة. فلنتأمل الفرق بين مربع النجوم الأزرق وبين مستطيل الخطوط. المربع الذى يضم خمسين نجمة تمثل الحاضر بعدد الولايات الحالية للدولة، أما المستطيل الذى يضم ثلاثة عشر خطا فيمثل التاريخ والبداية والمستعمرات الثلاث عشرة الأولى التى ثارت على الاستعمار البريطانى ووقع مندوبون عنها إعلان الاستقلال Declaration of independence ‏فى يوم 4 يوليو عام 1776 وهو التاريخ الذى صار عيدا قوميا للدولة.
••

‏كثير من الأدبيات التاريخية والسياسية تقول إن الولايات المتحدة هى الدولة الحديثة الشابة رغم أن هناك دولا أخرى أحدث منها تاريخيا مثل إيطاليا التى رغم تاريخ الامبراطورية الرومانية العتيد إلا أن دولة إيطاليا الحديثة نشأت فى أعقاب حرب أهلية ضروس أدت إلى توحيد الدويلات الإيطالية فى عام 1861، كما أن ألمانيا قاطرة الاتحاد الأوروبى لم تتوحد إلا بعد ذلك بعشر سنوات فى عام 1871.
‏ونحن اليوم ننظر للولايات المتحدة على أنها دولة تحتل مساحة قارية تجعلها فى المركز الخامس مساحة بين أكبر دول العالم، وتمتد أراضيها من سواحل المحيط الأطلسى إلى سواحل المحيط الهادئ مساحة تصل إلى 9.834 مليون كيلومتر مربع. بينما كانت البداية أكثر تواضعا؛ حيث لم تتجاوز مساحة المستعمرات الأصلية 1.1 مليون كيلومتر مربع.
‏إلا أن مساحة الولايات المتحدة تضاعفت فى عام 1803 بصفقة شراء لويزيانا عندما اشترت الولايات المتحدة الأراضى التى كانت مملوكة لفرنسا فى أمريكا الشمالية والتى تبلغ مساحتها نحو 2.25 مليون كيلومتر مربع والتى باعها نابليون بونابرت لتمويل مغامراته العسكرية فى أوروبا، ويجب التنويه أن صفقة لويزيانا تتجاوز كثيرا ولاية لويزيانا المعروفة اليوم لكنها تضم ولايات أركنساس وميسورى ونبراسكا وأوكلاهوما وأجزاء من ولايات كولورادو ولويزيانا ومينيسوتا ومونتانا ونيومكسيكو وداكوتا الجنوبية وتكساس ووايومنج! ودفعت صفقة لويزيانا بالدولة الحديثة إلى مصاف الدول الكبرى، فأتاحت لها أراضى خصبة للزراعة والرعى وثروات خشبية من الغابات البكر وأراضى صيد الفراء خاصة القندس الذى مثلت جلوده ثروة كبيرة ولعل الأهم أنها أدخلت حوض نهر المسيسبى العظيم فى حدود الدول شريانا للنقل ومفتاحا للاستعمار وتوطين الغرب.
• •

‏أجج التوسع نحو الغرب التصادم مع السكان الأصليين الذين أسموهم الهنود الحمر ووصلت إلى أوجها بسبب مد خط السكة الحديد عبر القارة من المحيط إلى المحيط عندما لجأت الشركات التى تنشىءالخط إلى صيد الجاموس البرى الـBison ‏لإطعام العمال بلحومها كمصدر رخيص للطعام حتى انقرض تماما، وتم استيراد الفصيل الأوروبى فى النصف الثانى من القرن الـ20 لإعادة توطينه فى أمريكا. ولما كان هنود السهول يعتمدون فى حياتهم على الجاموس البرى فى الغذاء والكساء فاصطدموا بالأمريكان فى الحروب الهندية التى لعلها تكون أول حرب إيكولوجية فى التاريخ وبعدها انتقل الطمع إلى الأراضى التى اغتصبوها وحددوا إقامة شعوب الهنود الحمر فى مجمعات Reservations ‏بائسة ومهينة.
‏وما كادت الحروب الهندية تنتهى حتى قامت الحرب المكسيكية التى انتهت سنة 1848 بانتصار الولايات المتحدة واستيلائها على 1.4 مليون كيلومتر مربع من أراضى المكسيك تشمل ولايات أريزونا، كاليفورنيا، كولورادو، نيفادا، نيو مكسيكو، ووايومنج ثم كانت الصفقة التجارية الأخيرة بشراء ألاسكا التى تبلغ مساحتها 1.5 مليون كيلومتر مربع من الإمبراطورية الروسية سنة 1867 وأصبحت ولاية فى سنة 1959.
‏مع بداية القرن الـ 20 بدأت طموحات الولايات المتحدة للتوسع شرقا والحصول على نصيب فى التجارة مع الصين واليابان لتصير قوة دولية عظمى فوضعت عينها على هاواى لتكون قاعدة بحرية لها تخدم طموحاتها، واستولت عليها سنة 1900 لتصير الولاية الخمسين فى 1959.
‏تاريخ طويل من الصراع والحروب، أخذت الحروب مع الهنود الحمر محل الصدارة فى الذاكرة بسبب أفلام هوليوود إلا أن الصدارة مع الهنود الحمر لم يكن الصدام الأول بل إن التاريخ يؤكد أن العلاقة مع الهنود الحمر بدأت بصداقة حميمة، وتذكر أنهم قدموا للأوروبيين الطعام والمعونة عندما لم تنبت محاصيلهم وهددتهم المجاعة ولا زالوا يحتفلون بهذه المناسبة فى عيد الشكر كل عام. أما الصراع الأول فى أمريكا فكان بين الأوروبيين المهاجرين الذين فروا من أوروبا ناشدين الحرية الدينية وبعد أن استقروا فى المستعمرات الأصلية التى سميت إنجلترا الجديدة New England ‏حتى دبت الخلافات الدينية بينهم: بين الإنجليكية والمسيحية Presbyterian ‏والمعمدانيين Baptist ‏والمتطهرين Puritan ‏والكاثوليك والكواكرز وسرعان ما دب الخلاف بينهم وطردت الأقليات من مستعمراتهم. ولعل من أكثر حوادث التطرف الدينى التى واجهها المورمون عندما اقتحم الدهماء سجن نيويورك واختطفوا جوزيف سميث، مؤسس الطائفة الـمسجون، وسحلوه وقتلوه.
‏كما تعرضت طائفة الـ أميش Amish ‏أيضا للاضطهاد بسبب نبذهم للحرب ورفضهم التجنيد فى الجيش أثناء الحروب وقد اهتزت الأوساط السياسية فى الولايات المتحدة سنة 1960 لانتخاب جون كيندى كأول رئيس كاثوليكى للبلاد ويظل إلى اليوم الوحيد.
• •

‏لعل الشق الأكبر فى تاريخ الولايات المتحدة كانت الحرب الأهلية التى استمرت ما بين سنة 1861 إلى سنة 1865 والتى قتل فيها قرابة الـ 700 ألف جندى من الطرفين وهو عدد يفوق الجنود الأمريكيين الذين قتلوا فى الحربين العالميتين غير الدمار والخراب الذى تسببت فيه خاصة فى أراضى الجنوب مما ترك مرارة وجراح لا يمحوهما الزمن. وروجت الأساطير أن الحرب كانت لتحرر العبيد وأن الرئيس لنكولن هو محرر العبيد والحقيقة أن الحرب كانت لأسباب سياسية لفرض سيطرة الشمال على الجنوب، وإذا كانت الحرب قد حررت العبيد من الناحية القانونية فإن الأمريكى الأسود ظل مغلوبا على أمره مضطهدا تعبث فيه منظمة الكو كلوكس كلان KKK ‏وغير قادر على الجلوس بجانب الأبيض فى وسائل المواصلات العامة.
‏تحسن الوضع بعض الشىء بعد أن أصدر الرئيس جونسون قانون الحقوق المدنية سنة 1965 ثم حدثت الانتكاسة الكبرى سنة 1968 باغتيال داعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كينج. فضلا عن وقوف حاكم ألباما جورج والاس أمام باب الجامعة لوقف دخول طالبين من السود إلى الجامعة سنة 1963. وفى عام 2009 انتخب باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة، إلا أن حادث وفاة الأمريكى الأسود جورج فلويد تحت أقدام ضابط الشرطة فى عام 2020 أثبت أن العنصرية لا زالت متجذرة فى نفوس الأمريكيين.
• •

‏لم يكن الأمريكيون من الأصل الأفريقى الوحيدين الذين عانوا من العنصرية ولكن عانى أيضا الصينيون الذين جلبتهم شركة يونيون باسيفيك لمد خط الحديد من شاطئ المحيط الهادئ إلى وسط البلاد ليلتقى مع الخط الذى يمتد من المحيط الأطلسى وتعرض الصينيون لانتهاك شديد واضطرارهم للعيش فى أحياء مغلقة عليهم China Town ‏وكان من أبرز الفظائع ضدهم مذبحة لوس أنجلوس سنة 1871 التى هاجم خلالها مجموعة من الدهماء الحى الصينى وقتلوا 19 منهم.
‏ولا ننسى كذلك اعتقال الأمريكيين من الأصول اليابانية ووضعهم فى معسكر للاعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى ما سبق كان هناك صراع المصالح التى شهدت حربا غير معلنة بين مربى الماشية والمزارعين عندما كان يقود مربى الماشية قطعانهم من موقع المراعى إلى مراكز الاستهلاك وتقتحم خلالها حقول المزارعين الذين أحاطوها بالأسلاك الشائكة التى سبق استخدامها لحماية الحقول من الماشية، ولحماية خنادق الجنود خلال الحرب العالمية الأولى، وجدير بالذكر أن كلمة Cowboy ‏ظهرت فى هذا الوقت لحماية القطعان وقطع الأسلاك الشائكة التى تعيق طريقها تحت تهديد السلاح. فضلا عن صدامات بين المزارعين وقاطعى الأشجار لبيع أخشابها مما يؤدى إلى تجريف التربة التى كانت تثبتها الأشجار، والصراع بين شركات السكك الحديدية التى أقامت الجسور على نهر المسيسبى بشكل يعوق مرور السفن النهرية مما دفع شركة النقل النهرى لدفع سفينة للارتطام بجسر لتدميره سنة 1856.
‏أخيرا أحب أن أوضح أن الغرض من هذا المقال ليس تعرية وتشويه الولايات المتحدة وشيطنتها ولكن الغرض أيضا هو الإعجاب بقدرتها على الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة رغم هذا التاريخ المفعم بالظلم والدماء والتناقضات، ولعل ذلك يرجع إلى دستور يحترمه الجميع تطور مع الزمن بـ 33 تعديلا ولم يتجمد فى صيغته الأولى التى وضع عليها سنة 1787 فضلا عن سلسلة من الضوابط والتوازنات Check and Balances ‏على رأسها السينيت والكونجرس والمحكمة العليا ومنظومة إعلامية تراقب وتلقى الضوء على السلبيات كان أبرزها دور صحيفة واشنطن بوست لفضح قضية ووترجيت، فضلا عن دور الجامعات ومراكز الأبحاث فى التخطيط لمستقبل الدولة وعلاج أى سلبيات تعترض طريقها.
‏ترى هل يستمر تماسك الدولة فى وجود رئيس سابق أهوج يحرك الفتنة ورئيس هرم غير مسيطر وتقادم الحزبين الرئيسين وظهور عالم فقدان الثقة فى استمرار احتكارهما السلطة؟ وأخيرا علنا نستفيد فى العالم العربى من تاريخ التجربة الأمريكية ونعمل على احتواء الخلافات وما فى إرثنا التاريخى من ذكريات أليمة بدلا من إسالة دمائنا وتدمير بلادنا فى العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.