نهاية الانكشارية وبداية البلطجية / حسني محلي
حسني محلي ( الإثنين ) 26/7/2016 م …
أعطى الانقلاب الفاشل اليد المطلقة للرئيس التركي في إكمال مخططاته المتعثرة. فمن تقزيم الجيش إلى طرح النظام الرئاسي بصلاحياته المطلقة، مروراً بمطاردة أنصار حليفه السابق فتح الله غولن، يبدو «السلطان» اليوم أنه قد مشى خطوات كبيرة نحو أحلامه مدعوماً بزخم الشارع المخدّر بسنوات «الاستقرار» وتعويذة القائد «الإسلامي»
اسطنبول | تستعد الحكومة التركية لإصدار قانون جديد يسمح بتسليح المدنيين بحجة «التصدي لأي خطر محتمل يستهدف النظام الديموقراطي». القانون المرتقب رأت فيه الأوساط السياسية خطوة مهمة على طريق تحويل تركيا إلى دولة «البلطجية»، وستكون حال من سيجري تسليحهم من أعضاء وأنصار «حزب العدالة والتنمية» كحال «الجيش الشعبي» في سوريا والعراق، في سبعينيات القرن الماضي.
كذلك، توقعت أوساط سياسية وإعلامية أن تمنح الحكومة قوات الأمن والوحدات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية سلطات إضافية، بحيث يكون لها اليد العليا، جنباً إلى جنب مع أجهزة المخابرات التابعة مباشرة للرئيس رجب طيب أردوغان. وقد تم تكليف قوات الأمن خلال الأيام الأربعة الماضية بكافة المهمات الرئيسية، ومنها إلقاء القبض على العسكريين الانقلابيين واعتقالهم، بمن فيهم حوالى 100 عميد ولواء وفريق وأميرال. كذلك دهمت الوحدات الخاصة عدداً كبيراً من المرافق والمؤسسات المهمة، بينها المحكمة الدستورية العليا ومحكمة الاستئناف والتمييز العليا، وتم اعتقال العديد من القضاة والولاة ومسؤولين كبار في مختلف أجهزة الدولة، ليزيد عدد المعتقلين على 10 آلاف، مع توقعات باعتقال جميع أنصار غولن الذين قد يصل عددهم إلى 20 ألفاً، مع احتمال دخول أساتذة الجامعات إلى قائمة المعتقلين. أردوغان استغلّ الانقلاب لحسم صراعه مع غريمه فتح الله غولن، وتتحدث الأوساط السياسية عن أن الرئيس لن يبقي على أحد من أنصار غولن في أي مفصل من مؤسسات الدولة، بعد أن قضى على قوام المؤسسة العسكرية ونفسيتها، وأفرغ دورها وثقلها وأفقدها السمعة والاحترام في الشارع التركي، ليحقق ما سعى إليه منذ تسلّمه السلطة نهاية عام 2002، بدعم من حليفه آنذاك، غولن. الانقلاب شكّل فرصة لإعداد الظروف وإنجاح مشروع أردوغان بتغيير الدستور عبر استفتاء شعبي، قبل نهاية العام الجاري، ليصبح رئيساً بصلاحيات مطلقة، بعد أن قضى على كافة أنواع المعارضة الديموقراطية، بالتوازي مع غياب الموقف الجدّي لـ«حزب الشعب الجمهوري» والقوى اليسارية والليبرالية، إضافة إلى إحكام سيطرته على وسائل الإعلام. وكان أردوغان قد نجح في إنزال ضربة قوية بـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، عبر إحالة أعضائه إلى القضاء، بعد رفع الحصانة البرلمانية عنهم، كذلك، وجه ضربةً قويةً ضد «حزب العمال الكردستاني» عبر قتل حوالى 3000 من عناصره وتدمير العديد من المدن الحاضنة له جنوب شرق البلاد.
وكان التطور المهم في مجمل معطيات الانقلاب الفاشل هو نجاح الرئيس في إخراج أنصاره إلى الشارع، وهي ظاهرة مهمة، ستحدّد مسار الحياة السياسية في تركيا وربما الى الأبد، كون أنصاره، وبعد تسليح البعض منهم، وبدعم من قوات الأمن، سيتصدون لأي تحرك معارض، ولن يجرؤ أحد بعد هذا على الخروج إلى الشوارع، كما حدث خلال أحداث غازي في إسطنبول، كونه سيواجه بالسلاح، ما قد يهدّد بنشوب حرب أهلية ــ حتى وإن لم يقصدها أردوغان ــ قد تستفزها بعض القوى الداخلية والخارجية ضد المعارضة اليسارية أو ضد الأقليات كالعلويين والأكراد… خاصة مع اتباع أردوغان سياسات ملائمة لمثل هذا الاحتمال، منها استمراره في دعم الجماعات الإرهابية في سوريا، ومعاداة مصر والعراق وإيران، بالتوازي مع سياسات الكبت والاستبداد في الداخل، لا سيما بعد الانقلاب الفاشل.
الكثيرون يراهنون على أن أردوغان كان على علم مسبق بهذا الانقلاب ــ حتى وإن لم يكن يتوقعه بهذا الحجم ــ فقد تحدثت المعلومات عن معرفة مسبقة للمخابرات باستعدادات الانقلابيين الذين كان أكثرهم تحت المراقبة والملاحقة. وكان أردوغان نفسه، في خطابه في 29 من الشهر الماضي، قد قال إن «أتباع غولن موجودون في كل مكان، بما في ذلك القصر الجمهوري (تم اعتقال مستشاره العسكري على ذمة الانقلابيين)، وأنا أوصيهم بالاستقالة، وإلا فسأتخذ الإجراءات اللازمة بحقهم». كذلك فإن المخابرات التي تراقب اتصالات «أتباع غولن»، منذ نهاية 2013، كانت قد صنّفتهم في لوائح اسمية، ما قد يفسّر سرعة اعتقال الآلاف منهم خلال يومين فقط. يضاف إلى ذلك ما ظهر من قلة حنكة لدى الانقلابيين، حيث أرسل 11 عسكرياً فقط إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، ليجبروا المذيعة على قراءة البيان رقم واحد، ولم يخطر في بالهم السيطرة على المركز الرئيسي لمحطة البث العام وإغلاق جميع المحطات التي استمرت في بثّها العادي، ما مكّن أردوغان من أن يوصل رسالته عبر «سكايب» ويطلب من الجماهير أن تخرج إلى الشوارع. ويضاف إلى ذلك أنهم لم يحتجزوا أياً من المسؤولين السياسيين، بل اكتفوا باحتجاز رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة، من دون إلحاق أي أذى بهم. كذلك فإنهم أرسلوا 13 عسكرياً للسيطرة على القصر الجمهوري، الذي يحميه المئات من الوحدات الخاصة، ويعمل فيه المئات من الموظفين.
أثناء الانقلاب، ولأول مرة في تاريخ تركيا، تتصدى قوات أمنية للجيش الذي فرض نفسه على السياسة التركية منذ عهد «الجيش الانكشاري». ويبدو أن الرئيس أردوغان يريد أن يعود إلى تلك المرحلة بدعم أتباعه في الأمن والمخابرات، مع «البلطجية» الذين ظهروا وهم يهينون العسكر ويعتدون عليه، وأثبتوا للجميع أنهم «انتحاريون من نوع جديد»، يأتمرون بأمر أردوغان الذي سخّر جوامع تركيا لحشد الناس عبر دعوات «الجهاد من أجل الإسلام».
التعليقات مغلقة.