الطاهر المعزّ يكتب: جائزة نوبل للآداب 2022 … بعض التّكريم للطبقة العاملة؟

الطاهر المعز ( تونس ) – الإثنين 17/10/2022 م …

لَسْتُ من هُواة الطُّقُوس والنّواميس وتلك الهالَة التي تُحيط بالمهرجانات والإحتفالات الرّسمية، ومن ضمنها احتفالات جوائز نوبل، خصوصًا بعد اطّلاعي على ما يجري في الأرْوِقَة، وعلى ما يُصاحبها من ضُغُوطات تُمارسها مجموعات مُتَخَصِّصَة ومُؤسّسات مُتَنَفِّذة، تَخْضَعُ لها اللّجنة التي تمنح الجائزة، وخصوصًا جائزة نوبل للسّلام التي مُنحت جائزة للعديد من جنرالات الحَرب وللمجرمين (بمن فيهم المجرمون الصهاينة) وللخَوَنَة (مثل أنور السادات)ن لكن من وقت لآخر ، تُمنح جائزة نوبل للآداب للكتاب الموهوبين بالفعل، وسَرّني حصول الكاتبة الفرنسية “آنِّي إرْنُو” ( Annie Ernaux ) على جائزة نوبل للآداب ، لسنة 2022، عند بلوغها سن الثانية والثمانين، وهي المرأة الثامنة عشرة الفائزة بجائزة نوبل في الأدب  من أصل 119 تم منحها منذ وجود جائزة نوبل.




وُلدت آني إرنو سنة 1940، وهي الابنة الوحيدة لأبوين من الطبقة العاملة، ما مَيَّزَ طفولتها بمُحيط وبثقافة الطبقة العاملة الغارقة في الكاثوليكية، في بلدة صغيرة في نورماندي، حيث كان والداها عمال بمصنع، وكان والدها يضطر في كثير من الأحيان إلى تولي وظائف أخرى إضافية، ولم يكن عضوًا في أي نقابة، ثم أَدَار مع زوجته (والِدَة الكاتبة) محلاًّ صغيرًا بحي عُمّالي، وهو عبارة عن مقهى ومحل تجارة البقول…

درست آني إرنو في مدرسة ثانوية كاثوليكية، ثم درست الآداب في جامعة روان (شمال فرنسا)، قبل أن تصبح معلمة في مدرسة ثانوية، ثم كاتبة روايات بدوام كامل، تتخلل تجاربها الشخصية كتاباتها التي تتناول بشكل مُسْتَمِرّ الصراع بين ما تسميه “الطبقة المهيمِنة” و “الطبقة الواقعة تحت الهيمنة” ، في إشارة إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو ( 1930 – 2002 ).

كتب إرنو ثلاثة وعشرين كتابًا على مدار خمسين عامًا، وتشكل رواياتها الثلاث الأولى ثلاثية من فئة السيرة الذاتية، وتأثّرت منذ كتابها الأول الذي نُشِرَ سنة 1973 بتجارب حياتها الخاصة.

تعكس هذه الأعمال الأدبية التنشئة الاجتماعية لفتاة من الطبقة العاملة انتقلت بفعل الدّراسة (بتشجيع من والدتها) من الطبقة العاملة إلى فئة البرجوازية الصّغيرة، فهي “منشقة عن الطبقة”، بحسب تعبيرها، وكأنها ارتكبت شكلاً من أشكال الخيانة للخلفية الطبقية لعائلتها، لكن تعكس مجمل كتاباتها تجارب مختلفة للطبقة العاملة بفرنسا، ولأنها من الطبقة العاملة، وتعلن هويتها العُمّالية، مثل والدتها، هاجمها مُحرِّرُو الصفحات الأدبية بالجرائد والمَجَلاّت ومختلف وسائل الإعلام، مُدَّعِين أن وصفَها وأسلوبه في الكتابة سَطْحِي، ولكنها تَرُدُّ بأنها بأنه ترفض التنميق والمُحَسِّنات اللّفْظِيّة، واختارت الكتابة بأسلوبٍ سَلِسٍ، وهي تدمج عناصر الدّراسات الإثنوغرافية، بالسيرة الذاتية وبعلم الاجتماع، لتُنتج روايات تنقل القارئ إلى السياق الإجتماعي والسياسي الذي يُحيط بمحتوى كُتُبِها التي تتميز بإحياء بعض المَحَطّات من تجربة الطبقة العاملة بفرنسا، والتجارب التي هَمّشَها التاريخ الرّسمي، ويبرز ذلك بشكل خاص في اثنتين من “مذكراتها الخارجية” التي تسجل الحوارات اليومية للأشخاص العادِيِّين في الفضاء العام مثل السوبر ماركت أو في مترو باريس، ضمن منهج يتميّز بتحويل التجارب الحية إلى أعمال أدبية، مما أكسبها شعبيتها، كما إن آني إرنو تكتب عن مواضيع محظورة، مثل الإجهاض السري، قبل إضفاء الشرعية عليه في فرنسا سنة 1976. وهي قادرة على مزج قصتها الشخصية مع القصة أو التّجربة الجماعية لجيلها، ونجحت بذلك في إعطاء صوت لأولئك الذين يظلون ناقصي التمثيل أو غير ممثلين في الأدب، وتُوَضِّحُ آنِّي إرنو أن خلفيتها الطبقية الاجتماعية (مسارها الطّبقي) وواقع الانقسامات الطبقية صاغَتْ شَكْلَ ومحتوى كتابتها، رغم انتقالها من الطبقة العاملة إلى عالم البرجوازية الصغيرة، والتي تعتبرها نوعًا من “الخيانة”…

jصف إرنو بشكل واضح وصارخ ما يتحمّله العاملون من “عُنْف عادي ويومي ومستمر” في حياتهم اليومية، ما تعتبره مُدَمِّرًا لحياتهم الخاصّة ولمُحيطِهم، ولذلك كان والدها يُعبِّر عن الرّضا من انتقال ابنته من عالم الطبقة العاملة، لِتَنْتَمِيَ إلى  “العالم الذي احتقر والدَها”، وفي أحد ردودها على النقاد الأدبيين، قالت: “لا يمكن لرواية تُسجّل حياة تحكمها الضرورة (ضرورة الكَدْح من أجل القُوت) ويحكمها العنف، بنفس الأسلوب الفَنِّي لرواية تُسجّل رفاهية حياة البرجوازية الكَسُولة التي يسْهَرُ الخَدَم على تلبية رغباتها…”، فكانت كتاباتها تَرْبُط تجربتها الفردية بتجارب الآخرين من فئتها الطّبقية ذات الخَلْفِيّة العُمّالية، وتجربة جيلها وجنسها، ما جعل يظهر التجربة الذاتية أو الفَرْدِيّة لا تنفصل عن التجربة الجَمْعِية، الاجتماعية والتاريخية.

تحدّثت إرنو في عدة مناسبات عن الحواجز التي يواجهها كتاب الطبقة العاملة، وعن التأثيرات الاجتماعية على طريقة تفكير الإنسان، وكيف يمكن للكتابة عن التجربة الفردية أن تعبر عن عنف الهيمنة الطبقية، وتعترف الكاتبة أن الدراسات الجامعية في قسم الأدب ونجاحها في المناظات الوطنية لانتداب المُدرِّسِين، شكّلا ملاذًا لها، وارتقاءً طبقيًّا، لكنها ظلت وفية لطبقتها وأُصُولها العُمّالية العائلية، ما جعلها تعتمد في كتاباتها نهجًا وأُسْلُوبًا مختلفًا عن الكتاب من ذوي الأُصُول الطبقية الأُخرى.

كتَبَتْ، سنة 1987، في روايتها (حياة امرأة –  “Histoire de femme”   )  أن والدتها “أمضت يومًا طويلاً في بيع الحليب والبطاطس حتى أتمكن من مواصلة دراستي”، وفي رواية أخرى، نُشرَتْ سنة 1997 (  Je reste dans les ténèbres  ) تستذكر الحياة الصعبة لوالدتها ولنساء الطبقة العاملة من جيل والدتها، في سياق الحرب العالمية الثانية والسنوات التي لحقتها، وفي سياق “حرب الجزائر”، عندما كان آلاف الجنود يُغادرون فرنسا “لإعادة النظام الاستعماري في الجزائر”، ولا أحد يعرف هل سيعودون يومًا وإذا عادوا، متى ستكون عَوْدَتُهُم، لكن الموضوع كان من المُحرّمات. من جهة أخرى تُكرّر أن الكاتب المنحَدر من الطبقة العاملة يجد نفسه بحكم الأمر الواقع في وضع مختلف، لأنه في صف المُضْطَهَدِين والواقعين تحت الهيمنة، ولهذه الأسباب التي لا يفهمها المُثَقَّفُون الرجعيون، يعتبر النقاد كتابات إرنو “عنيفة وبائسة وشعبوية” لأنها تصف، منذ أول كتاب نُشِرَ لها، عنف الطبقة الاجتماعية السّائدة (البرجوازية) ضد العمال والنساء، فهي تعتقد أن الرواية التي تكتبها ابنة العامل هي بالضرورة فعل سياسي، يتطلَّبُ ابتكار أُسلوب غير مألوف، يتضمن “الطريقة الصحيحة للحديث عن العمال، كما إن “آنِّي إرنو” تتناول حالة المرأة من خلال إثارة مواضيع محظورة ، مثل الإجهاض، والعنف المنزلي ، ونظرة أو سلوك الحشود في وسائل النقل العام أو لدى زبائن السوبر ماركت، حيث يضطر النّاس للإختلاط في مساحات محدودة ومُغْلَقة، وأحيانًا مفتوحة…

أعلنت إرنو أنها تأثرت بقراءة كتاب بيير بورديو (1930-2002) وجان كلود باسيرون (مواليد 1930) بعنوان “الورثة” ( Les héritiers ) لكتابة روايتها “الخزائن الفارغة” وهي عبارة عن شكل من أشكال التفاعل بين علم الاجتماع الذي يجسد الجانب “الموضوعي” والأدب الذي يجسد الجانب الذاتي، وصرحت: ربما تكون الكتابة عن الطبقة العاملة وسيلة للحفاظ على الارتباط مع الطبقة الأصلية التي “خانها” المرء بالانضمام إلى البرجوازية الصغيرة. إنها مساهمة في إحياء الذاكرة الجماعية “للطبقة الأكثر عددًا والأكثر فقرًا”، وفقًا لتعبير سان سيمون (1675 – 1755)

لقد استلهمتْ من والدتها الي لا تخجل من التصريح علانيةً بانتمائها الطبقي، للتنديد بالتسلسل الإجتماعي الهرمي وبالهيمنة الثقافية التي تضع المرأة العاملة في أسفل السلم الاجتماعي… “إنها الرغبة في تحويل الإهانة الاجتماعية إلى جزء من كرامة الفرد والطبقة، وإلى تحقيق العدالة للمُضْطَهَدين والمُهيمَن عليهم… أكتُبُ لأشيد بأُمِّي التي شَجَّعَتْنِي على مواصلة تعليمي وعلى قراءة الكتب. أكتب قبل كل شيء للمُساهمة في معركة تتجاوز الفرد أو الأسرة وتطمح إلى إنصاف المسيطر عليهم ووضع حد لمُعاناة عائلتي المُوَسّعَة التي تشمل كل المُستَغَلِّين والمُضْطَهَدِين، وللتنديد بالهوّة السّحيقة التي تفصل بين فئات السكان … “

 خاتمة:

أعلنت هيئة المحلفين لجائزة نوبل للآداب أنها أرادت تكريم عمل أدبي، يتم الاحتفال به وقراءته في جميع أنحاء العالم، لكن أعضاء الهيئة تسببوا في صدمة كهربائية في الوسط الأدبي الفرنسي المتقَوْقِع على نفسِهِ، فلم يسبق لجائزة نوبل أن تثير مثل هذا الاحتجاج والعنف الذي صَبَغض الجدل الأدبي، حيث تكون الحدود بين السياسة والأدب غير مرئية أحيانًا، فمعظم وسائل الإعلام يمينية (قومية جدا وشوفينية جدا) تمتلكها البرجوازية الأكثر ثراءًا ويمينية، وهي اليوم تحتج على منح جائزة نوبل لكاتبة فرنسية  !!!ألأنها امرأة أو لأن كتاباتها تضع الطبقة العاملة في الواجهة أو لكلا السّبَبَيْن؟

من ناحية أخرى ، فرح قراء آني إرنو، وكأن جائزة نوبل هذه ملك لهم جميعًا، وأنها أعدت لهم بعض ما يستحقونه من اهتمام، فيما استهدف صخب وحقد اليمين (وما يسمى “الوسط” أيْضًا) كلا من المؤلفة، حيث تم نَفْيُ موهبتها، استهدفَ المرأة التي تعكس صورة المثقف الملتزم، منذ أكثر من نصف قرن، والتي أعلنت انحيازها للطبقة العاملة والفقراء والنساء والمستبْعَدِين والمُهَمّشين

لا تستهدف انتقادات اليمين المتطرف الالتزام الطّبقي والإجتماعي أو المواقف السياسية للكاتبة آني إرنو فحسب، بل تعكس كتابات وتصريحات المثقفين اليمينيين الكراهية والحقد ضد الفئات الاجتماعية ( العمال وصغار الفلاحين) التي ساعدت الكاتبة في جعلها إبراز وجهها وصوتها لتُصبح مرئيةً ومسموعةً.

إنهم نفس الأشخاص، من كتاب وصحافيين ونُقاد وسياسيين، الذين يسكبون حقدهم وسمومهم ضد برنارد شتيغلر (1952-2020) أو جيل دولوز (1925-1995) أو بيير بورديو، وجميع أولئك الذين يدافعون عن كرامة المستبْعَدِين والمَقْصِيِّين أو المستغَلين أو المظلومين في هذا العالم أو أولئك الذين أعلنوا محاربة الظلم. ساهمت Annie Ernaux في الكشف عن الفئات الاجتماعية التي غالبًا ما يكون صوتها غير مسموع، وهو الأمر الذي لا يطاق بالنسبة لليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.