محمود درويش والكيان رُعبُ الطغاة من الأغنيات / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 28/7/2016 م …
أصاب الخوف والرعب ميري ريغف وزيرة الثقافة في الكيان الصهيوني عند سماعها إذاعة جيش الاحتلال تكرس برنامجا عن رسول الشعر العربي والفلسطيني محمود درويش.
ريغف حملت بصفاقة متناهية على الإذاعة الإسرائيلية، ردا على قيامها ببث البرنامج، واتهمتها بالانحراف عن الطريق. وقالت «إن المحطة الرسمية في وزارة الأمن لا يمكنها السماح لنفسها بتعظيم وتمجيد الرواية المعادية لإسرائيل، في إطار برنامج إذاعي انشغل في جوهره بنصوص إسرائيلية». ونبهت في صفحتها على الفيسبوك إلى أن محمود درويش ليس إسرائيليا (ومن قال لها إنه يدّعي الإسرائيلية؟ هو فلسطيني أبا عن جد) ونصوصه معادية، وجوهره يعارض القيم الرئيسية «للمجتمع» الاسرائيلي.
من ناحيته، وبّخ وزير الدفاع في الكيان العنصري، الفاشي أفيغدور ليبرمان، رئيس إذاعة الجيش يارون ديكل لسماحه ببث برنامج تعليمي في إطار «الجامعة المذاعة» حول درويش. وقال ليبرمان لديكل: إن تمجيد الجودة الأدبية لأشعار درويش، أشبه بتمجيد بلاغة كتاب أدولف هتلر «كفاحي».
وواضحٌ من حدة التشبيه مقدار الحقد الذي يكنّه قادة الكيان الصهيوني وغالبية شارعه على التراث الوطني والقومي لشعبنا الفلسطيني، وبشاعة عنصريته الممارسة ضد أهلنا في المنطقة المحتلة عام 1948، هؤلاء هم من أصحاب البلاد الأصليين، الذين يعتبر الكيان سماحه لهم بالسكن في إسرائيل، «مكرمة صهيونية». ليبرمان، كثيراً ما كسب انتخابياً على حساب التصريحات العنصرية الكريهة ضد أهلنا في فلسطين المحتلة عام 48، الأمر الذي يعني، أن معظم ساكني فلسطين من الصهاينة أشد تطرفا من ريغيف وليبرمان ونتنياهو وإيلي شكيد وغيرهم.
كما انضم للحملة على الإذاعة المعلق في صحيفة «يسرائيل هيوم» حاييم شاين، وقال : إنها المحطة العسكرية الوحيدة في العالم، التي توفر لكثرة حماقتها وبؤسها، منصة لأحد ألد أعداء إسرائيل. وتابع محرضا «تحت العنوان المخادع – الجامعة الإذاعية – يقدمون برنامجا كاملا عن محمود درويش، الشاعر الدموي. الذي يحرض «المخربين» على تدمير دولة إسرائيل. بعد البرنامج عن درويش يمكن طبعا البث لجنود الجيش، برامج حول كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر، كشخصية بلورت تاريخ القرن العشرين. فلكلاهما هدف مشابه، القضاء على اليهود. السبب في كل هذه القضية، هي مناقشة الإذاعة لقصيدة محمود درويش «بطاقة هوية». غريب هذا الحقد لدى عدونا عندما يؤكد شاعر فلسطيني عروبته وهويته. مع العلم، أن البرنامج المذكور (وفقا لجهات أدبية فلسطينية من منطقة 48، كان برنامجا لنقد ما سمته الإذاعة، «عنصرية» درويش وعدوانيته تجاه اليهود). ومع ذلك، يزعجهم مجرد سماع اسم شاعر فلسطيني مقاوم لاحتلال أرضه ولاغتصاب حرية شعبه، وممارسة المذابح وكافة الموبقات بحقه، على أيدي الجلادين المحتلين الصهاينة.
للعلم، إنها المرة الرابعة، التي يتعرض فيها مبدعنا الفلسطيني محمود درويش لهجوم فاشي حاقد من الكيان الصهيوني. فقد سبق أن نوقشت بعض قصائده في الكنيست ثلاث مرات، آخرها عندما قرأوا مقاطع من قصيدته «عابرون في كلام عابر»عام 1992، وناقشوها في الكنيست. المرة الثانية، كانت عندما نشر الشاعر الراحل هذه القصيدة عام 1988، وهاج رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير حينها، وزعم في الكنيست يومها، أَنَّ درويش يُحرّض فيها على رمي اليهود في البحر. أما المرة الأولى فكانت عام 1982 في عهد مناحيم بيغن،عندما قال في خطاب وجهه إلى الكنيست «إن الفلسطينيين وحوش تمشي على قدمين». واستشهد فيها بقصيدة درويش «بطاقة هوية» التي يقول فيها: «ولكني إذا ما جعت.. آكلُ لحم مغتصبي»! بالطبع لأن الثقافة الوحيدة لدى قادة الكيان، هي العدوان والصهيونية والقتل، ولأن العاطفة لديهم هي من وحي هذه الثقافة، لذا تراهم لا يتقنون قراءة «ما وراء الشعر»، ولا يعرفون حتى معانيه. لم يقرأ بيغن يومها المقطع الشعري الكامل للقصيدة، التي يقول فيها» سجّل برأس الصفحة الأولى.. أنا لا أكره الناسَ.. ولا أسطو على أحد.. ولكني إذا ما جعت… آكلُ لحمَ مغتصبي… حذارِ حذارِ من جوعي ومن غضبي».
أما حول قصيدة «عابرون في كلام عابر» فهي قصيدة يكرهها الإسرائيليون تماما، ويحقدون على صاحبها، وليس صحيحا ما ذكره يوسي ساريد، من أن محمود درويش «أَبلغه ندمه على كتابته للقصيدة وتبرؤه منها،لأَنه كتبها في لحظة غضب»، ذلك، لأن الشاعر قرأ قصيدته في عمان، وكنتُ حاضرا للأمسية، وقرأها في المغرب وتونس وغيرها من العواصم العربية والعالمية، ثم من يقرأ له ملحمته الأخيرة «الجدارية»، يدرك تماما ، أنه لم يندم على كتابة قصيدته «عابرون» مطلقا.
يبدأ درويش القصيدة قائلا: أيها المارون بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم وانصرفوا.. واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا، ويختمها مرددا… اخرجوا من أرضنا.. من برّنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا.. من كل شيء، واخرجوا.. من مفردات الذاكرة. أي فلسطيني أو مطلق إنسان يعاني الاحتلال يخاطب محتليه هكذا، فما الجريمة التي ارتكبها مبدعنا محمود درويش؟
محمود درويش هو فارس الشعر الفلسطيني، رجل المهمات الصعبة في الشعر العربي والعالمي، برحيله ترك الحصان وحيداً، وأصبحت عصافيرنا بلا أجنحة. أذكر تماما في نهاية الستينيات وفي سجون الارض المحتلة، كيف كانت قصائد درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، زادا لنا في غرف الاعتقال، كنا نحفظها عن ظهر قلب، وكانت بأصالتها تساهم في رفع معنوياتنا ومجابهة المحققين من رجال المخابرات والمعاناة من كل وسائل تعذيبهم الهمجية والمابعد فاشية، وتحدي السجانين. كانت تلك المرحلة هي بداية تعرّف الفلسطينيين على شعراء الارض المحتلة، بعد أن كان الشهيد غسان كنفاني قد قدمهم إلى شعبه وأبناء امته العربية، وأصبحوا يوصفون بـ(شعراء المقاومة). كان ذلك في موسكو في عام 1973، وبعد إبعادي ومباشرتي للدراسة في عاصمة ام الدنيا، وفي جامعة الصداقة، حيث اجتمع الشعراء الثلاثة معاً، وتناوبوا على إلقاء الشعر مدة ساعتين، يومها قرأ درويش وبإلحاح من الطلبة قصيدته المشهورة: سجل انا عربي، وتلاها (وبطلب من الحضور ايضا) بقصيدة: عاشق من فلسطين. ستظل تلك الأمسية في ذاكرتي ما حييت، وللأسف فقد ضاع مني شريط تسجيل الأمسية، وحتى اللحظة ما زلت اتأسف على ضياعه.
ليس من السهولة بمكان، اختصار محمود درويش في مقالة صحافية، فدرويش تجاوز حدود الاقليمية والقومية الى النطاق العالمي، وهو صاحب موسوعة المغناة الفلسطينية من ألفها الى يائها. قيمة محمود درويش انه المعبّر عن كل واحد منا بلسان جميل، وبكلام اجمل. وحب هذا الشاعر هو قاسم مشترك بين كل الفلسطينيين والعرب، مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية. باختصار، ان شعر محمود درويش هو تاريخ للمراحل الفلسطينية بكلام شعري، ففي البداية كان التركيز على الهوية الوطنية وعلى الفلسطينية/فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ سجّل انا عربي… وغيرها. وفي مراحل الثورة المختلفة، كان لمحمود درويش قصائد مختلفة متماهية مع تلك المراحل، فحين خفتت المقاومة كانت قصيدة درويش: «الخروج من ساحل المتوسط» وفيها يقول: تتحرّك الأحجار.. ليس الرّب من سكان هذا القفر.. هذا ساعدي. تتحرك الأحجار. وفي حصار بيروت كانت قصيدة «مديح الظل العالي»، ومع بدء الانقسام الفلسطيني، جاءت قصيدة، «انت منذ الآن غيرك».. الخ، الخ.
محمود درويش استلهم الام والحبيبة، والشهيد وأقاربه، والزوجة والابناء، والفدائي في قصائده، وهو الذي اضفى مزيدا من اللمسات الانسانية الكبيرة على النضال الفلسطيني، وساهم ذلك في انتشار القضية والحقوق على النطاق العالمي. محمود درويش مسكون بالهم الفلسطيني منذ بداياته حتى مرحلته الأخيرة. محمود درويش هو الذي يتنبأ بنهاية الصراع، وهو الذي استعرض في قصائده كل الجوانب الاخرى الإنسانية التي تلازم النضال الفلسطيني، فالفلسطيني ليس مقاتلا ومكافحا فحسب، بل هو الذي يحب ويعشق ويسمع الموسيقى ايضا، وهو الذي يحن الى خبز امه وقهوة امه ولمسة امه. محمود درويش هو الذي قال عن رائحة البن بانها تشكل الجغرافيا الفلسطينية/رائحة البن جغرافيا/ فالقرى الفلسطينية في الصباحات الباكرة تعبق برائحة البن، اثناء غلي القهوة، التي يشربها الآباء الفلاحون قبل ذهابهم الى العمل. محمود درويش اصبح جزءاً لا يتجزأ من التضاريس الفلسطينية، وما يعز علينا انه لن يكتب قصيدة النصر المقبل.
الطغاة يرتعبون ويخافون من الذكريات والأغنيات! وهكذا هو العدو الصهيوني. لذلك أعدموا لوركا، وسجنوا ناظم حكمت.. الخ. يقول درويش في قصيدته «على هذه الأرض».. على هَذِهِ الأرْض ما يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: نِهَايَةُ أَيلُولَ، سَيِّدَةٌ تترُكُ الأَرْبَعِينَ بِكَامِلِ مشْمِشِهَا، ساعَةُ الشَّمْسِ فِي السَّجْنِ، غَيْمٌ يُقَلِّدُ سِرْباً مِنَ الكَائِنَاتِ، هُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ، وَخَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ. عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين. سَيِّدَتي: أستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ.
التعليقات مغلقة.