حدود اليسار “الجديد” بأمريكا الجنوبية (على هامش انتخابات البرازيل ) / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 9/11/2022 م …
تمهيد تاريخي:
تم انتخاب هوغو شافيز رئيسًا لفنزويلا، سنة 1998، وفاز زعماء يساريون آخرون في الانتخابات في السنوات التالية: لولا في البرازيل سنة 2002، ونيستور كيرشنر في الأرجنتين سنة 2003 ، وإيفو موراليس في بوليفيا ورافاييل كوريا في إكوادور سنة 2006 إلخ. تحدثت الصحافة الأنغلو ساكسونية عن “موجة وردية” ( وليست حمراء) تجتاح أمريكا الجنوبية، استفادت من ارتفاع أسعار المواد الخام، مما عزز اقتصاد الدول المُصدّرة لها قبل انهيارها في أوائل سنة 2010.
سمي هذا اليسار بـ “اليسار الجديد”، ووصل إلى السلطة في سياق ظهور موضوعات احتجاج عالمية جديدة فضفاضة، بقيادة المنظمات “غير الحكومية” (العولمة البديلة والنسوية والبيئة وضد التمييز وما إلى ذلك) في إطار المجتمعات الرأسمالية، كما وصل اليسار أيضًا إلى السلطة مع امتلاك حيز محدود وهش للمناورة، في تشيلي وبيرو وكولومبيا والبرازيل.
جاء قادة هذا “اليسار الجديد” من حركات يسارية مؤسسية ومن خريجي الجامعات ومن مثقفين حَضَرِيِّين، فهم مختلفون عن المناضلين اليساريين الذين عارضوا سلطة الجيش والكنيسة والذين خاضوا أو عايشوا حرب العصابات والنضال السري، وخطة كوندور (1) ، والانقلابات العسكرية والقمع العسكري، ويتطلع عناصر “اليسار الجديد” إلى أسلوب الحياة الأمريكي أو الأوروبي، بتطلّعات استهلاكية…
إلى جانب هذا “الجيل اليساري الجديد”، تعزّزت قُوى اليمين المتطرف في العديد من البلدان، ففي بيرو، وصل بيدرو كاستيلو إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بنسبة 19% فقط من الأصوات قبل أن يتغلب على كيكو فوجيموري في الجولة الثانية، دون الحصول على أغلبية النواب في الكونغرس، وفي تشيلي أو الأرجنتين أو كولومبيا، فاز اليسار في الانتخابات الرئاسية بدون أغلبية برلمانية، ليكون اليسار أَقَلِّيًّا في السلطة التشريعية، ولا يمكنه أن يحكم بدون مساعدة الديمقراطيين الإجتماعيين أو الوسطيين، وهكذا فإن قوى اليمين في شيلي وكولومبيا وبيرو تتمتع بقاعدة اجتماعية قوية، وبمواقع صلبة في مؤسسات الدّولة.
هناك أيضًا خصوصيات أو فوارق بين التجربة المكسيكية لأندريس مانويل لوبيز أوبرادور والبوليفي لويس آرس والكولومبي غوستافو بيترو والأرجنتيني ألبرتو فرنانديز إلخ، ففي تشيلي وكولومبيا يتمتع اليمين بخبرة طويلة ويمكن أن يخلق العديد من الصعوبات لسلطة إصلاحية من اليسار، إذا لم تكن مدعومة من قبل حركة شعبية واجتماعية قوية.
من ناحية أخرى، تعتمد الولايات المتحدة على تاريخها الهيمني وتريد الحفاظ على نفوذها في جميع بلدان أمريكا الجنوبية، وتُعتَبَرُ كولومبيا (“إسرائيل” أمريكا الجنوبية، كما يُسمِّها مناضلو اليسار) أهم نقاط ارتكاز القوة الأمريكية في المنطقة المُحاذية لفنزويلا والبرازيل، ولأمريكا قواعد عسكرية في كولومبيا، وبشكل عام، لا توجد حكومة في أمريكا الجنوبية تمتلك القُدْرة على مواجهة الولايات المتحدة، باستثناء كوبا وفنزويلا اللتين لم تختارا معارضة الإمبريالية الأَعْظَم، بل فُرِضَتْ عليهما المُعارضة، “دفاعًا عن النّفس”.
على المستوى الجيوسياسي ، أدى استبعاد كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا من قبل الولايات المتحدة من قمة الأمريكتين في لوس أنجلوس في حزيران/يونيو 2022 إلى عدم مشاركة العديد من قادة أمريكا الجنوبية المعارضين للعقوبات، والذين يقترحون حوارًا بين الأنظمة والحكومات المختلفة، أو غير المتجانسة سياسيا.
في بيرو، تحمّلت كيكو فوجيموري سياسة والدها ألبرتو فوجيموري (1990-2000)، وتدعم سياسة والدها التي اتسمت بدرجة عالية من الاستبداد والقمع الجماعي والعديد من الاغتيالات السياسية والتعقيم القسري لنحو ثلاثمائة ألف امرأة من السكان الأصليين، ويعود انتصار بيدرو كاستيلو جزئيًا إلى رفض خصمه، وليس إلى برنامجه. في تشيلي، واجه غابرييل بوريك مرشحًا فاشيًا (خوسيه أنطونيو كاست) الذي يتَبَنّى إرث فترة الدكتاتورية العسكرية بزعامة الجنرال أوغوستو بينوشيه من 1973 إلى 1990.
نموذج البرازيل:
في البرازيل، اندلعت قضية لافا جاتو سنة 2014، وتتعلق بالرشاوى التي تدفعها شركات البناء متعددة الجنسيات لزعماء من حزب العمال البرازيلي، وأدّت هذه هي القضية إلى الحكم على الرئيس السابق “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا” بالسجن، رغم عدم تورّطه شخصيًّا، من قبل قضاة تربطهم علاقات وثيقة بوزارة الخارجية الأمريكية، والذين طردوا خليفته “ديلما روسيف” من السلطة، ولا يزال اليمين البرازيلي قويًا للغاية ويعبر عن دعمه للنظام العسكري الناتج عن انقلاب سنة 1964، ولم تنزل شعبية الرئيس جاير بولسونارو (ضابط فاشي متقاعد) أبدًا عن 30%، ما يعني أن لديه جماهيرية كبيرة، رغم سلبيات سياساته المَعْلُومة للخاص والعام، ولم يكن اليسار البرازيلي الذي واجهه في انتخابات 2022، قادرًا على اقتراح مشروع اجتماعي تقدمي، مما يقلل من شعبية اليسار ومن قدرته على الحكم، فقد وصل اليسار البرازيلي إلى السلطة، مثل اليسار في بلدان أمريكا الجنوبية الأخرى، مع استثناءات قليلة، في موقع ضعف.
لم يُؤكّد المرشحون اليساريون في الحملات الانتخابية للعامين الماضيين على السياسات الاجتماعية، وعلى الجوانب الاقتصادية والقضاء على الفقر وإصلاح المعاشات التقاعدية والضرائب أو قانون العمل، ففي البرازيل، على سبيل المثال، لا توجد ضريبة على أرباح الأسهم، ولو أقرت حكومات حزب العمال مثل هذه الضريبة، لما كانت تحكم البلاد من 2003 إلى 2016، لتمكنت من تمويل برنامج الإسكان الاجتماعي أو نظام التعليم أو الصحة وغيرها.
انخفضت شعبية حزب العُمال، فلجأ “لولا”، سنة 2022 للتفاوض مع القطاعات اليمينية (ممثلة بنائبه جيرالدو ألكمير) التي تضررت من سياسات بولسونارو الذي يتمتع بدعم القطاع المالي والتجارة والأعمال الزراعية التي تعد قطاعًا مهمًا للغاية في الاقتصاد البرازيلي.
لم يعد حزب العمال البرازيلي قادرا على اقتراح بدائل سياسية واجتماعية (وهي بدائل إصلاحية)، كما كان قبل عشرين عامًا، عندما طبق برنامجًا يسمح لأكثر من ثلاثين مليون فقير بالوصول إلى مرتبة المستهلكين، فانضَمَّ هؤلاء الفقراء إلى الفئات الوسطى وانقطعوا عن دَعْمِ حزب العمل لما أصبحت حكومته عاجزة عن تقديم حوافز مالية، بعد انخفاض أسعار المواد الخام سنة 2014، لأن الإيرادات الحكومية انخفضت ولم يعد بإمكان الحكومة إعادة توزيع جزء من الرّيع، لذلك فإن دعم اليسار في البرازيل وبعض البلدان الأخرى، ليس دعمًا مبدئيًّا، أيديولوجيًا أو سياسيًا، بل كان انتهازيًا.
لم تتقبل منظمات اليمين المتطرف نتائج انتخابات البرازيل، يوم الثلاثين من تشرين الأول/اكتوبر 2022، ونصب مناضلوها الحواجز، تحت أنظار عناصر قوات الجيش والشرطة التي برَعت في قمع العُمّال المُضربين وسُكّان الأحياء الشعبية من الفُقراء والسُّود، فيما تتسامح (إن لم تتضامن) مع عناصر مجموعات اليمين المتطرف…
تمكّن اليمين المتطرف في البرازيل وأمريكا الجنوبية من المَزْج بين التعبئة الجماهيرية والعمل المُؤسّساتي، والجمع بين الإجراءات القانونية وغير القانونية، بقدم في الشارع وأخرى في المؤسسات، بدعم من الولايات المتحدة في الخارج ومن اليمين التقليدي المسمى “الليبرالي” في الدّاخل، وتتجلى المواقف اليمينية المتطرفة في الحياة اليومية من خلال أعمال العنف والعنصرية والمَيْز ضدّ النساء.
خصوصية وحدود تجارب اليسار بأمريكا الجنوبية
اكتسب اليمين المتطرف مواقع هامة (بدعم من الإستخبارات الأمريكية التي نظّمت الإنقلابات العسكرية ودعمت المليشيات اليمينية المتطرفة والمُسلّحة)، بل تجذّرَ في تشيلي وبيرو والأرجنتين وكولومبيا والبرازيل، وله أسس اقتصادية واجتماعية وثقافية ومؤسسية، ولليمين المتطرف مناصب مهمة في البرلمان وسلطات الحكم المحلي، وتأثير كبير في وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والكنائس والمنظمات شبه العسكرية والشرطة والقوات المسلحة، وعندما تولّى اليسار السّلْطة في أمريكا الجنوبية لم يَكن يريد أو لم يستطع، تدمير القواعد الاقتصادية والاجتماعية لليمين المتطرف ولم يفكك السياسات النيوليبرالية، ونفّذ خططا اقتصادية كِينزية، بدل تقويض أُسُس الرأسمالية الذي يبدأ بإطلاق برنامج يمكن من التحسين السريع لوضع الطبقة العاملة، وخاصة قطاعاتها الأكثر هشاشة، وتطوير المشاركة الشعبية والتنظيم الذاتي والتعبئة والتوعية التي تتولاّها لجان الشعبية مناضلة.
من الضروري الاعتماد على التعبئة الجماهيرية للمعسكر الديمقراطي الشعبي ومواجهة الليبرالية الجديدة، لأنه لا يكفي تحقيق النمو الإقتصادي، فهو لا يعني البتّة تحسّن وضع المنتجين والفُقراء، إذ وجب تحقيق تطبيق التنمية (وليس النُّمُوّ) التي تفيد القطاعات الأكثر ضعفا، والسّكّان الأشدّ فَقْرًا، وهذا ما يَعْسُرُ على الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا تطبيقه (إن توفّرت النّيّة)، لأنه تحالف، من موقف ضُعْف، مع تيارات “مُحافظة” وتنعت نفسها بالوسَطِيّة، واختار نائب الرئيس جيرالدو خوسيه رودريغز ألكمين فيلهو، وهو عضو مؤثر في اليمين الليبرالي، وبذلك يُعيد حزب العُمّال البرازيلي نفس التجربة، لمّا تحالف مع حزب “يمين الوسط” الذي شارك بنشاط في انقلاب عام 2016.
عندما تختار المنظمات اليسارية المسار الانتخابي، بدلاً من الثورة، سيكون من الضروري الجمع بين العمل الحكومي والعمل البرلماني ونشاط الحركات الاجتماعية والأحزاب الديمقراطية الشعبية والمثقفين العضويين المناضلين، من أجل الإنتصار، بشكل مُتوازي ومُنسَّق، في المعارك ضد الليبرالية الاقتصادية الجديدة وضد الأيديولوجية اليمينية مثل حركات الإسلام السياسي في الدول العربية، لأن التدابير الاقتصادية والاجتماعية ضرورية ولكنها ليست كافية، ويجب أن تصاحبها تغيرات عميقة في مؤسسات الدولة، في صفوف القوات المسلحة والشرطة والنظام القضائي والتعليم والثقافة والاتصال والإعلام، بهدف ترسيخ ثقافة جماهيرية ديمقراطية وشعبية واشتراكية، ولن يتم ذلك بدون الإعتماد على تعبئة الطبقة العاملة ومنظماتها النقابية، وصغار المزارعين والمنظمات الشعبية والطلابية وجميع المنظمات الشعبية التي تحفز التعبئة الشعبية، من أجل تحقيق مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، خدمة لغالبية السكان، لأن القوى الرجعية لن تكف عن ضغطها.
أظهرت تجارب اليسار في أمريكا الجنوبية أن النصر الانتخابي (الفوز برئاسة المؤسسات) لا ينجح إلا إذا صاحبه حشد شعبي يعزز المكاسب ويشارك في المعركة الأيديولوجية من خلال التعليم والثقافة والإعلام في أماكن العمل والدراسة ومناطق السّكَن والمؤسسات الثقافية والترفيهية، وهذا يتطلب تغييرًا عميقًا في أداء الأحزاب والحركات اليسارية والمنظمات الاجتماعية التي تميل إلى الاكتفاء بالتصريحات المنشورة على الشبكات الاجتماعية، وكأن الصراع الطبقي يقتصر على مجال “التّواصل”، إلا أن المعركة ضد الأعداء هي معركة متعددة الأوجه تجري على جميع الجبهات، من أجل بناء بديل شعبي وغير نخبوي، في سياق وطني وإقليمي وعالمي مُعادي.
أصبحت السُّلطة بيد الحكومات اليسارية والتقدمية في جزء كبير من أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي: المكسيك وكولومبيا ونيكاراغوا وكوبا وفنزويلا والأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والبرازيل، ومع ذلك، وباستثناء كوبا، لم تحصل تغييرات عميقة في معظم هذه البلدان، فالولايات المتحدة وعملاؤها المحليون على أهبة الاستعداد لعرقلة ومنع أي إجراء لصالح العمال والفقراء، وأي تضامن مع الشّعوب المُضْطَهَدَة والواقعة تحت الإستعمار، ولذلك لا يمكن لليسار أن ينجح إلا إذا زاد من قدرته على التنظيم والتعبئة، وأعاد بناء وجوده في أماكن الدراسة والعمل والسكن والترفيه، لاكتساب الثقة ولتنظيم غالبية الطبقة العاملة وصغار الفلاحين وسكان الأحياء الشعبية، للمُشارَكة في تصميم وإنجاز وتقويم البرامج والخطط.
يجب أن يتضمن المشروع اليساري الحقيقي تدابير ملموسة لمجتمع قائم على المساواة وإدماج الجميع بالقضاء على الفقر من خلال العمل والتعليم والصحة والسكن اللائق، إلخ، وليس من خلال رشاوى صغيرة تتمثل في مِنَح وحوافز…
أين تَتّجِهُ بوصلة اليسار؟
بعض دُرُوس تجربة حكم اليسار بأمريكا الجنوبية
بعد عقود من الديكتاتوريات – العسكرية أو المدنية – عاش مواطنو أمريكا الجنوبية (فضلاً عن الكوبيين)، بنهاية القرن العشرين (بعد انهيار الإتحاد السوفييتي) وبداية القرن الواحد والعشرين، مجموعة متنوعة من تجارب ديمقراطية، أفضى بعضها إلى سُلطة اليسار، وعلى رأسها رافائيل كوريا في الإكوادور وهوغو شافيز في فنزويلا وإيفو موراليس في بوليفيا وإينياسيو لولا داسيلفا في البرازيل ودنيال أورتيغا في نيكاراغوا إلخ، وكان هناك مَدٌّ يساري، بين سنتَيْ 2014 و 2020، لذا نَاوَرَت القوى النيوليبرالية، الموالية للإمبريالية الأمريكية، لاستعادة السلطة في البرازيل والأرجنتين والإكوادور وبوليفيا، ونجحت، ولو إلى حين، مما عزز معاقل اليمين الأكثر رجعية في البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وبيرو وتشيلي، ومنذ سنة 2019، شهدت هذه البلدان (وغيرها) موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية، أدّت إلى عودة بعض القوى المحسوبة على اليسار إلى السلطة في تشيلي وبيرو وكولومبيا، وغيرها، وعاد الحديث عن إطلاق التكامل الإقليمي ومقاومة الضغوط التي تُمارسها الولايات المتحدة ، إلخ.
تَكْتَسِي تجربة اليسار في السلطة في أمريكا الجنوبية أهميّة خاصّة للأحزاب والمنظمات اليسارية في البلدان العربية وآسيا وأفريقيا، تدفعنا إلى طَرْح بعض التساؤلات والبحث عن إجابات، ومنها: إلى أي مدى يريد اليسار في أمريكا الجنوبية وضع حد لهيمنة الدولار والمصارف والشركات متعددة الجنسيات، والتّحوُّل من تصدير المواد الخام إلى تصنيعها، وما هي أدواتُهُ لإعادة إطلاق مشاريع القطيعة مع النيوليبرالية ومع النظام الرأسمالي العالمي؟ ما هي احتمالات وإمكانيات ووسائل وأهداف التنسيق بين القوى المناهضة للإمبريالية على المستوى العالمي؟
يمكن وصف الرؤساء غوستافو بيترو (كولومبيا) ، وغابرييل بوريك (تشيلي) وبيدرو كاستيلو (بيرو) بأنهم مناضلون من “موجة جديدة من اليسار” ويَدَّعُون أنهم الورَثَة الشّرعيون للتجارب التقدمية الماضية بشبه القارة الأمريكية، لكن سقف برامجهم منخفض، وطموحات برامجهم الإقتصادية والإجتماعية متواضعة جدًّا، ولم يُحدّد معظمهم مصادر تمويل بعض الإجراءات الإجتماعية، لتبقى برامجهم وخطاباتهم مُقَصِّرَة للغاية بشأن القضايا الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية كالفقر والبطالة والدَّيْن العام والتأميم وما إلى ذلك، ولكن برامجهم “حَداثية” للغاية في القضايا “الثقافية” (ثقافة المنظمات “غير الحكومية”)، مثل الزواج المثلي أو حقوق الحيوان أو قضايا البيئة، دون رَبْطِها بالقضايا المُلِحّة لحياة البشر.
لا يمكن للسُّلُطات في بلدان أمريكا الجنوبية (أو في أي مكان آخر) محاربة الفقر وعدم المساواة، دون لَجْمِ أو إنهاء هيمنة الدولار أو المصارف والشركات متعددة الجنسيات التي تستغل الثروة المعدنية (المحروقات والنحاس والذهب والليثيوم إلخ) أو الزراعة (البن والموز والسكر والحبوب والمواشي واللحوم إلخ) دون تطوير التجارة الإقليمية أو الدولية، حيث تَعُدُّ أمريكا الجنوبية حوالي 700 مليون نسمة ( 200 مليون في البرازيل)، ما يؤهّلها لتيْسير عملية التبادل التجاري الإقليمي وإنشاء عملة إقليمية، دون الاعتماد على الدولار كما دعا رئيسا الإكوادور (رافائيل كوريا) وفنزويلا (هوغو شافيز) عند إطلاق مشروع “اتحاد دول أمريكا الجنوبية”.
في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان السياق الجيوسياسي مواتِيًا لتحقيق هذا النوع من المشاريع، وكان رئيس فنزويلا يطمح لتأسيس مصرف الجنوب، وكانت هناك خطط لإنشاء سوق ومؤسسات إقليمية تتنافس مع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وخاضت الشركات العابرة للقارات والمصارف التابعة لها، مدعومةً من سُلُطات أمريكا الشمالية والدّول الإمبريالية الأخرى، معركة شرسة ضدّ مشاريع التكامل الإقليمي، لأنها قد تضعُ حدًّا لهيمنتها على البنية التحتية للطاقة والإتصالات والنقل البحري والجوّي، وقد تضع حدًّا لتهرُّبها من تسديد الضرائب ولتهريب الأموال إلى الخارج، مع الاستمرار في الإستغلال الفاحش لعمال أمريكا الجنوبية برواتب منخفضة وفي ظروف غير إنسانية، لتحقيق فائض قيمة خُرافي وتهريبه إلى الملاذات الضريبية، ومعظمها ولايات ومُستعمرات أمريكية ومُستعمرات بريطانية…
لما بدأت السلطات اليسارية (ممثلة بهوغو تشافيز أو رافائيل كوريا وكوبا) بخوض تفاصيل تنفيذ مشروع “مصرف الجنوب” وتحديد خدمة تنمية البلدان الأعضاء كهدف له، إلى جانب مشروع التبادل التجاري بالعملة المحلية، قبل إنشاء العملة المُوَحَّدة للدول الأعضاء، حاربت الولايات المتحدة هذه المشاريع بكل الأساليب كالحصار والتشويه والتهديد المُبطّن والمُباشر، كما حاربت واغتالت معمر القذافي أو توماس سانكارا في إقريقيا، أو كل من حاول إقامة نظام جيوسياسي جديد، ولو كان جوهره رأسماليا، لكنه متحرر من تأثير السوق المالية الأمريكية.
تتابع السلطات الصينية التطورات في أمريكا الجنوبية وحول العالم، عن كثب، وعَرَضَ الرئيس الصيني خلال زيارته لأمريكا الجنوبية سنة 2016، إقامة اتفاقيات هامة للتعاون الإقتصادي ولتوسيع حجم المبادلات التجارية، وناقش قروضًا مشروطة بضمان وصول الصين إلى الموارد النفطية والمعدنية، لكنها أفضل من شروط قُرُوض الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدّولية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) فضلاً عن ارتباطها بمشاريع تنمية، وحرّكت الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وغيرها وسائل الدّعاية والمنظمات “غير الحكومية” لمحاربة هذه المشاريع بذريعة “عدم احترام حقوق الإنسان” ومحاربة “التّوسّع الإمبريالي الصّيني”، جنوبي حدود الولايات المتحدة، فهل تُشكل محاصرة السفن الحربية الأمريكية الممرات التجارية المائية حول الصّين، “عملًا خَيْرِيًّا أمريكيًّا مُفيد للإنسانية”؟؟؟
وصل اليسار في أمريكا الجنوبية إلى السلطة، من خلال انتخابات ديمقراطية، وهو أمر ليس هَيِّنًا في البلدان التي يراقبها عن كثب الجار الأمريكي القوي والجشع للغاية، وحاول بعضُ هذا اليسار، وليس كلّه، إنشاء نظام جيوسياسي جديد خالٍ من النفوذ الأمريكي، لكن تَمّت إعاقَةُ هذه التجارب الديمقراطية بطريقة غير ديمقراطية، من خلال الانقلابات العسكرية وحملات التضليل أو بسبب فساد جزء من هذه التحالفات الهشة، كما حصل في البرازيل أو إكوادور، كما تمت إعاقتها من خلال حملات التشهير التي تقودها المؤسسات الإعلامية والمنظمات “غير الحكومية” التي يتم التحكم فيها عن بُعد من أمريكا الشّمالية وأوروبا وأستراليا، ومن هذه الأمثلة “الانقلاب الدستوري” في البرازيل سنة 2016 ضد الرئيسة ديلما روسف، الذي ترافق مع حملة إعلامية معادية، وانقلاب بوليفيا الذي قاده جزء من قوات الشرطة والجيش، بإشراف أمريكي، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 ضد الرئيس إيفو موراليس، فضلاً عن حملة الإعلام والمنظومة القضائية المُرْتشية والفاسدة، واستخدمت الولايات المتحدة التّدخّل المباشر في إكوادور، لاستبعاد أنصار الرئيس التقدمي رافائيل كوريا من العملية الانتخابية وتفضيل لينين مورينو، عميل الإمبريالية الأمريكية الذي تمكّن من اختراق صفوف فريق الرئيس السابق كوريا، وفي هندوراس، منع الجنود الأمريكيون سنة 2009، الرئيس المنتخب ديمقراطيا، خوسيه مانويل زيلايا، من العودة إلى بلاده ( إثر نشاط قام به خارج البلاد) وأبْعَدُوه بالقُوّة، على متن طائرة عسكرية، إلى كوستاريكا…
لم يتضمّنء برامج اليسار بأمريكا الجنوبية إنشاء إعلام تقدّمي بديل، ولما تولّى الحُكم أَبْقَى على مِلْكية وتحكُّم الكنيسة والمجموعات (الأوليغارشيات) المحافظة الثرية بوسائل الإعلام ونظام التعليم والرعاية الصحية، كما لم يضع حدًّا لهيمنة الدولار والشركات العابرة للقارات، ومعظمها أمريكية المنشأ، ما مَكَّنَ هذه القوى والشركات من خَلْقِ عراقيل جَمّة لسلطات بوليفيا وفنزويلا وإكوادور وغيرها…
كان مشروع “مصرف الجنوب” المُجْهَض بمثابة حجر الأساس لهيكل مالي إقليمي جديد يعمل على جمع الاحتياطيات النقدية للبلدان الأعضاء بغرض استخدامها لتنمية جميع بلدان أمريكا الجنوبية، وما ينطبق على أمريكا الجنوبية ينطبق كذلك (مع بعض التّعديلات) على مشاريع التنمية الإقليمية في آسيا أو إفريقيا، فشعوبُها بحاجة إلى تنمية تُراعي الظروف المَحَلِّيّة والإقليمية، وتهدف تلبية حاجات المواطنين محلِّيًّا وإقليميًّا…
استخلاصات
أظهرت تجارب الحكومات اليسارية في أمريكا الجنوبية حدود الإبقاء على الدساتير القديمة التي سمحت لليسار بالحصول على السلطة، فأبْقى اليسارُ على هيمنة اليمين والكنيسة على الإعلام والتعليم، وهذا خطأ فادح، دفع سلفادور أليندي ثمنه باهظاً سنة 1973، لأن للقانونية ( أو الشرعية) الانتخابية حدودها التي تمت مُعاينتها في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية، لتبقى تجارب تخضع للدراسة والتأمل بعناية من أجل استخلاص الدروس الضرورية التي تفرض نفسها على ضوء هذه التجارب التي تدفعنا إلى طرح بعض التساؤلات، واستخلاص الدّروس، ومنها:
إن أهداف نضال اليسار هي النضال من أجل العدالة والتنمية، للقضاء على الجُوع والفقر والاستغلال والقمع وعدم المساواة والظلم وما إلى ذلك، وأظهرت التجارب التاريخية أن النموذج الرأسمالي لم يسمح بتطور بلداننا المستعْمَرة أو الخاضعة للإمبريالية ولمصارفها وشركاتها، ولم تسمح الرأسمالية بالتحاق بلدان أخرى بنادي الأثرياء، ولذلك وجب اختيار نمط تنمية مُغاير للرأسمالية، ولهذا ليس لنا خيار غير نتبنّى الاشتراكية، مع الحِرص على عدم استنساج التجارب، بل احترام جوهر المشروع الإشتراكي، وعدم الإبتعاد عن الأهداف المذكورة أعلاه.
إن أشكال النضال الجماعي والإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية ليست سوى وسائل وأشكال نضال لكَسْبِ الحقوق، وليست هدفًا بحد ذاته، ويجب تقييم النتيجة حسب حجم ونوعية الأهداف المحققة، إثر كل احتجاج أو إضراب، لأن رفع الأجور وتحسين ظروف العمل ضرورة حياتية، ولكنهما لا يقضيان على الاستغلال الرأسمالي، ويهدف الشيوعيون بناء مجتمع لا طبقي، يضمن الحصول الفِعْلي والمجاني على (وليس مجرد “الحق” في ) الغذاء والصحة والتعليم والسكن والترفيه، وليتمكّنَ المجتمع من تقاسم الثروة التي يخلقها الجميع كذلك، الأمر الذي يتطلب التخطيط والاستثمار والمراقبة المنتظمة لمراحل إنجاز كل خطوة من البرامج الإنتاجية، من قِبَل العاملين، الذين يحتاجون، في المجتمع الاشتراكي، إلى التدريب على الإدارة الذاتية للمؤسسات وعلى التخطيط والتحكم في مراحل إنجاز كل مشروع، وتكمن صعوبة “التّسيير الذّاتي” في المُؤسّسَة إلى القطاع بكامله، وتنسيق النشاط الاقتصادي لكل قطاع، ثم على نطاق اقتصاد البلد أو التكامل الإقتصادي الإقليمي بين مجموعة من البلدان، ومن هنا تأتي أهمية تدريب العاملين في مجال إدارة الأعمال والاقتصاد الكلي والتّخطيط والتنفيذ والتقويم…
لو نطمح نحو تحويل انتفاضة (مثل تلك التي حصلت بتونس أو مصر سنة 2011) إلى ثورة، وجب قبل ذلك خلق الأدوات الضرورية، الفكرية والتنظيمية، ومشروع مجتمع بديل قابل للإنجاز…
(1) عملية كوندور (أو خطة كوندور): الاسم الرمزي لنظام تبادل المعلومات والتعاون بين الإستخبارات الأمريكية والديكتاتوريات لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات ، كجزء من “الكفاح ضد حرب العصابات” بقيادة الولايات المتحدة (CIA) ، في منتصف السبعينيات ونفذتها أجهزة المخابرات في شيلي والأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وباراغواي وأوروغواي…
التعليقات مغلقة.