أمريكا – الحرب الدّائمة وإهمال حاجيات المواطنين / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 12/11/2022 م …
قبل أكثر من قَرْن، أعلن الكاتب الإشتراكي “راندولف بورن” – Randolph Silliman Bourne – (1886 – 1918) في كتابه بعنوان “الدّولة”: “إن الحرب ضرورية للدّولة”، فقد استخدمت الولايات المتحدة الدّيمقراطية كواجِهَة لتبرير الحرب، فيما تُقدّم الدّعاية الأمريكية الجيش الأمريكي كمُمثل “للطّيِّبين، الأخْيار” والخُصوم كأشْرار، في مُحاولة لإخفاء الدّوافع الحقيقية لحروب رأس المال والشركات العابرة للقارات، والإكتفاء بتبريرات “أخلاقية” زائفة.
تأسّست الولايات المتحدة على العُنْف ضدّ السّكّان الأصليين، ومنذ تأسيسها كانت ولا تزال دائمًا في حالة حرب عُدْوانية، وليست دفاعية، وخاضت كل هذه الحُروب بعيدًا عن الأراضي الأمريكية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، عند استحواذ الجيش الأمريكي على أكثر من نصف أراضي المكسيك، حتّى آخر حرب أعلنتها في أوكرانيا (لِتَرْكِيع روسيا)، وإن كانت لا تُشارك بشكل مُباشر، بل بواسطة حلف شمال الأطلسي وعبر الدعم المالي والعسكري لعُملائها في حكومة أوكرانيا، كما في بولندا وبلغاريا ودُوَيْلات بحر البلطيق، والعديد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأعضاء حلف وارسو، بذريعة الدّفاع عن “العالم الحُرّ”، وتعتبر الولايات المتحدة أن الثمانمائة قاعدة عسكرية التي تمتلكها في أنحاء العالم ضرورية للدفاع عن الأمن القومي الأمريكي!!!
كثّفت الولايات المتحدة وتيرة الحُرُوب منذ 1985، عندما كان الإتحاد السّوفييتي، بزعامة ميخائيل غورباتشوف”، يترنّح، وخصوصًا منذ انهيار الإتحاد السّوفييتي، بدل تخفيف حِدّة التّوتّر، بل اعتبر المُجَمَّع الصناعي العسكري (الأمريكي) انهيار الإتحاد السوفييتي (الخَصْم) فُرْصَةً استثنائية لتوسيع مجال تجارة الأسلحة، باحتلال الفراغ الذي يتركه الإتحاد السوفييتي في سوق السّلاح العالمي، وغزو الأسواق التي كان يسيطر عليها المُنافس، وبدَل حل حلف شمال الأطلسي، عمدت الولايات المتحدة إلى توسيعه، خارج حُدُود ألمانيا، رغم التزام أمريكا بعكس ما فَعَلتْ، وانضَمّت بولندا والمجر وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا إلى الناتو، ما يفتح أسواقها للسّلاح الأمريكي الذي لا يُخَلِّفُ سوى المَوْت والدَّمار، وبدل خفض ميزانية الحرب، رفعت الولايات المتحدة ميزانية البنتاغون إلى 740 مليار دولارا مُعلنة سنة 2021 لتصل إلى 782 مليار دولارا سنة 2022، وإلى 773 مليار دولارا مُعلنة سنة 2023 قبل المُراجعات العديدة التي قد تُضيف لها عشرات المليارات ( بخلاف معاشات المتقاعدين وعلاج المُصابين وميزانية الإستخبارات العسكرية، وغيرها)، وهي تُعادل ميزانية الجيوش الإحدى عشر التي تليها (12 مرة أكبر من الميزانية العسكرية الروسية)، بذريعة مكافحة الإرهاب، ما يُمكن الرأسمالية الأمريكية من خَلْقِ “إجماع قَوْمِي” يُحَوِّلُ الإنتباه، ولو مُؤَقّتًا، عن مشاغل الكادِحِين والفُقراء، ويُزيحها من وسائل الإعلام، فيما ترتفع أرباح شركات صناعة الأسلحة التي استفاد مالكو أسْهُمِها من الحُروب المُستمرة في أفغانستان والعراق والصومال وليبيا وسوريا، وحاليًّا في أوكرانيا، وبذلك تجاوزت قيمة الإنفاق العسكري (سواء كان الرئيس وأغلبية النّواب من الحزب الجُمْهُوري أو الدّيمقراطي، لا فَرْقَ) ميزانيات الصحة العمومية والتعليم والوظائف “الخضراء” والإسكان الاجتماعي والبحث العلمي والطب ورعاية الأطفال وكل الحاجات والخَدَمات الإجتماعية مُجْتَمِعَة (التي بلغت 730 مليار دولارا، سنة 2022)، فبَعْدَ إعلان انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان، لم يتراجع الإنفاق العسكري، بل زاد من 740 مليار دولارا، سنة 2021، إلى 782 مليار دولارا مُعْلَنَة، سنة 2022، بينما يُعاني الفُقراء من شُحّ الموارد، وتواجه المدارس والمستشفيات نقصًا مستمرًا في عدد الموظفين.
في خِضَمِّ زيادة الإنفاق العسكري، ارتفع الإنفاق على “الأمن الدّاخلي”، ما زاد من عَسْكَرَةِ الحياة السياسية والإجتماعية، ومن انتهاك الحُرّيات الفَرْدِيّة والجَمْعِيّة، والممارسات التّعسُّفِيّة ومن مُراقبة واعتقال المُهاجرين…
للتّذكير: اعتدت الولايات المتحدة وحلفاؤها على العراق سنة 1991، ونفّذ الجيش الأمريكي خلال شَهْرَيْ كانون الثاني/يناير و شباط/فبراير 1991، مائة وعشرة آلاف غارة جَوِّيّة، وألقت الطائرات الحربية نحو تسعين ألف طنًّا من القنابل، أو ما يُعادل أربعة أضعاف حجم القنابل التي أسقطتها دول الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية بأكملها، وقتل الجيش الأمريكي وحلفاؤه أكثر من مائتَيْ ألف مواطن عراقي، خلال أربعة أيام، بين الكويت والبصرة، في بداية العدوان، فضلاً عن تدمير البُنية التحتية ومحطّات إنتاج الطاقة وشبكات الكهرباء والهاتف والطرقات والجُسُور والمياه والصرف الصحي والمُستشفيات والمدارس ودُور العبادة والملاجئ، والسُّدود الثمانية الرئيسية بالبلاد…
بعد إثنتَيْ عشر سنة من الحصار الإقتصادي والسياسي، احتلت الجيش الأمريكية وحلفاؤه العراق، سنة 2003، وترافق الإحتلال مع عمليات إبادة جماعية بأسلحة كيماوية وبالفوسفور الأبيض واليورانيوم المُنَضَّب، وقصف المُدُن والأهداف المدنية، وتدمير البُنية التحتية التي تم إصلاحها وصيانتها، رغم الحصار، وطوال الإحتلال الأمريكي لم يحصل ثُلُثَا الشعب العراقي على الكهرباء والماء النّقِي بشكل مُستمر، وارتفع معدّل وفيّات الرُّضّع بين 1990 و 2005، بنسبة 150% وأصبح نصف الأطفال العراقيين يعانون من سوء التغذية وثلثهم فقط في المدرسة، وانخفَضَ نصيب الفرد من النّاتج المحلّي الإجمالي، سنة 2007، إلى أقل من نصف حصة الفرد سنة 1980…
تقلّص هامش الحُرّيّات داخل الولايات المتحدة، بعد 11 أيلول 2001، الذي كان ذريعةً لإقرار قوانين زَجْرِيّة (أشهرُها “بتْرِيُوت أكْتْ”)، تُطلق العنان الأجهزة الرقابة والقمع، باسم الأمن، وسالبة للحُريات الأساسية، وبعد عشرين عامًا، لا تزال “الحرب على الإرهاب” ذريعةً لعَسْكَرَةِ الحياة اليَوْمِيّة، داخل الولايات المتحدة، ولِعَسْكَرَةِ السياسة الخارجية وحل الخلافات الدّولية بواسطة السّلاح، وفاقت قيمة الإنفاق على عسكرة الحياة اليومية والمراقبة والقمع (باسم الأمن) 21 تريليون دولار، خلال عِقْدَيْن، فيما يحتاج الإنفاق على الأولويات والحاجيات الأساسية (التعليم والرعاية الصحية والمَسْكن ورعاية المُسِنِّين…) أقل من عشرة تريليونات دولارا…
عادت أخبار نضالات الطبقة العاملة الأمريكية إلى السّطح، سنة 2021، وعادت احتجاجات الشباب والمواطنين السّود (ضد الإغتيال والتّهميش والقَمْع) وغيرها من الفئات المُتَضَرِّرَة من برامج ومُخَطَّطات الحكومات الأمريكية المُتعاقبة، غير أن أخبار الحُروب العدوانية طَغَتْ على الإعلام، فضلاً عن غياب التّمثيل السّياسي للفُقراء والعُمّال، في الولايات المتحدة، كما في معظم بُلدان العالم…
* وردت معظم البيانات المُرَقَّمَة في تقرير بعنوان “حالة انعدام الأمن، تكلفة العَسْكَرَة منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001”
(The cost of militarization since 9/11)
إِصْدَار
Institute for policy studies
التعليقات مغلقة.