الخطر الوجودي على الولايات المتحدة الآتي من أميركا اللاتينية / جمال واكيم
جمال واكيم ( لبنان ) – الخميس 17/11/2022 م …
منذ زمن طويل، وعى القادة الأميركيون “الخطر الوجودي” الذي تمثله أميركا اللاتينية عليهم. فكما كانت روما التي لم يفصلها عن القبائل الجرمانية إلا نهرا الراين والدانوب اللذان كان عبورهما يسيراً، فإنه لا يفصل الولايات المتحدة عن أميركا اللاتينية إلا نهر الريورغا
يمثل فوز لولا دا سيلفا في الانتخابات الرئاسية في البرازيل تهديداً لهيمنة الولايات المتحدة على أميركا اللاتينية، وتجديداً التهديد الوجودي الذي يمثله تحرر أميركا اللاتينية على بقاء الولايات المتحدة قوة إمبريالية تهيمن على العالم.
في تموز/يوليو 1776، استقلت 13 مستعمرة على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي عن الإمبراطورية البريطانية، معلنةً قيام الولايات المتحدة الأميركية. كان في ذهن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وعلى رأسهم جورج واشنطن وتوماس جفرسون وجون أدامس وبنجامين فرانكلين وألكسندر هاملتون وجون جاي وجيمس ماديسون، أنهم يعيدون إحياء الإمبراطورية الرومانية، وأن الولايات المتحدة هي إعادة تجسيد للإمبراطورية الرومانية التي سادت الجزء الغربي من العالم القديم بين القرنين الأول قبل الميلاد والرابع للميلاد.
ولأنها كذلك، فقد كان في ذهن الآباء المؤسسين هؤلاء أن عليهم تفادي المصير الذي واجهته الإمبراطورية الرومانية التي انهارت في أوائل القرن الخامس للميلاد على يد الغزوات الجرمانية التي أتت من الشرق من السهوب السيبيرية.
إرث الإمبراطورية الرومانية
كانت الإمبراطورية الرومانية قد سادت العالم المتوسطي، ومعه العالم الغربي، بين القرنين الأول قبل الميلاد والخامس ميلادي. وكانت قد وصلت إلى حدود آمنة جنوباً، متمثلة بالصحراء الكبرى في شمال أفريقيا ومرتفعات أسوان في جنوب مصر.
أما في المشرق، فقد شكّل نهر الفرات والبادية السورية حدودها مع الإمبراطورية الساسانية والجزيرة العربية. وفي أوروبا، فإنَّ المحيط الأطلسي شكل حدودها الطبيعية في الغرب والشمال، فيما كان نهرا الراين والدانوب حدودها الفاصلة مع القبائل الجرمانية التي كانت قد استقرت في شرق أوروبا ووسطها منذ القرن الثاني قبل الميلاد.
وعبر نهري الراين والدانوب، شنّ الأباطرة الرومان حروباً ضد القبائل الجرمانية طوال 6 قرون، بغية ممارسة أعمال النهب ضدها من جهة، ولمنعها من عبور هذين النهرين والدخول إلى الأراضي الرومانية لمشاركة روما ثرواتها وسلطانها من جهة ثانية.
لقد شكّلت الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت منطقة استقطاب الثروة في نظام عالمي قام على ثنائية روما – الصين، فكانت روما هي قطب الثروة والنفوذ في غرب أوراسيا، فيما شكلت الصين قطب الثورة والنفوذ في شرق أوراسيا. أما القبائل الجرمانية، فقد شكّلت المناطق التي أُفقرت نتيجة ممارسة روما القديمة سياسات النهب التي شكلت عمادها الأول للثروة والنفوذ اللذين نعمت بهما طوال 6 قرون.
وكانت ضغوط القبائل الجرمانية التي عاشت شرق الراين وشمال الدانوب على الإمبراطورية الرومانية شبيهة بالضغوط التي يمارسها المهاجرون “غير الشرعيين” في زمننا الحالي للهجرة من بلادهم التي خربها الغرب إلى الغرب نفسه لنيل حصة من الثروة التي تمركزت فيه.
وقد وُصمت القبائل الجرمانية آنذاك بالبربرية، نتيجة فقرها في الدرجة الأولى، لا نتيجة “تخلفها”، علماً أن كثيراً من الجرمان كانوا قد اختطفوا أو جندوا في الجيش الروماني، ليكونوا أداة ضد أبناء جلدتهم. وقد تمكن كثيرون من تبوؤ أعلى المناصب في الإمبراطورية الرومانية.
وفي أوائل القرن الخامس، تمكنت شعوب جرمانية متمثلة بالقوط واللومبارد والفاندال وغيرهم من عبور نهر الدانوب واجتياح الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، مدمرين روما في طريقهم، ما اعتبره الغربيون المعاصرون كارثة حلت “بالحضارة الغربية” وأذنت ببدء عصور الظلام في العصور الوسطى.
مثلما كانت روما.. كذلك أميركا!
كلّ هذا كان في ذهن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة عندما استقلّوا عن الإمبراطورية البريطانية، وعندما أعلنوا دستور الولايات المتحدة الأميركية. وكما كانت روما تفعل، فقد اعتمدت الولايات المتحدة على التوسع والنهب لتحقيق الرفاهية لشعبها، فانطلقت غرباً عبر ضفتي الميسيسيبي إلى الغرب الأوسط، ومنه إلى الضفة الغربية (الواقعة على الضفاف الشرقية للمحيط الهادئ)، ومنها إلى فتوحات في شرق آسيا. وفي طريقها، انتزعت ولايات كانت تابعة للمكسيك، مثل تكساس ونيوميكسيكو ونيفادا وكاليفورنيا.
وبعد قرن ونيف على تأسيس الولايات المتحدة، باتت البلاد “الإمبراطورية” تحتلّ كامل المساحة بين الأطلسي والمحيط الهادئ، باستثناء شريط من الأراضي في الشمال يفصلها عن القطب المتجمد الشمالي الذي بات صحراء جليدية تفصل الولايات المتحدة من جهة الشمال عن روسيا (قلب أوراسيا)، فيما بات نهر الريوغراندي في الجنوب هو الذي يحدد حدودها الجنوبية.
كان هناك شبه كبير بين الولايات المتحدة من جهة والإمبراطورية الرومانية من جهة أخرى؛ فكما كانت روما، فإن الولايات المتحدة نشأت على فكرة الغزو والنهب وتوزيع الغنائم. وكما كانت روما أيضاً، فإن الولايات المتحدة أرادت أن تقيم عالمها المحمي في مواجهة من تعتبرهم “البرابرة الجدد” المتمثلين في الشعوب الفقيرة التي كان نهب الولايات المتحدة يساهم في إفقارها أكثر فأكثر. وفي حين أنَّ المحيط الأطلسي حدد حدود الإمبراطورية الرومانية من الغرب والشمال، فإن المحيط نفسه حدد حدود الولايات المتحدة من الشرق، فيما حدد المحيط الهادئ حدود الولايات المتحدة من الغرب.
وبينما أدّت الصحراء الكبرى دور المحدد لحدود الإمبراطورية الرومانية في الجنوب، فإنَّ الصحراء الجليدية للقطب المتجمد الشمالي أدت دور المحدد للحدود الأميركية الشمالية (مع العلم أنَّ كندا تمثل امتداداً للولايات المتحدة).
وأخيراً، كما شكل نهرا الراين والدانوب حدود الإمبراطورية الرومانية في الشرق ليفصلاها عن الشعوب الجرمانية، فإن نهر الريوغراندي أدى دور الحد الفاصل بين الولايات المتحدة من جهة “والبرابرة الأميركيين اللاتينيين” من جهة أخرى.
اللاتينيون.. الجرمان الجدد؟
كان قدر الأميركيين اللاتينيين أن يتعرَّضوا لأطول فترة من حروب الهيمنة والاستغلال الأميركي. منذ أواسط القرن التاسع عشر، كان التوسع الأكبر قد تحقق على حساب المكسيك وصولاً إلى الريوغراندي. وقد شكَّل الأخير الحد الفاصل بين الولايات المتحدة من جهة وأميركا اللاتينية من جهة أخرى.
وكما شنّت روما حروبَ توسع ونهب عبر الراين والدانوب، فقد شنّت الولايات المتحدة عبر الريوغراندي حروب الهيمنة والنهب ضد الأميركيين اللاتينيين. ولنفي تهمة التسبب بإفقار شعوب أميركا اللاتينية، فإن الولايات المتحدة أطلقت عليهم صفات قريبة من البربرية التي أطلقتها روما على القبائل الجرمانية.
بذلك، تحوّل الأميركيون اللاتينيون، في نظر واشنطن، إلى شعوب فاسدة تتعاطى المخدرات والرذيلة، وكسولة لا تعمل، ومحدودة التفكير والأفق.
كلّ ذلك حتى تنفي الولايات المتحدة عن نفسها تهمة التسبب بإفقار هؤلاء الشعوب وإفسادهم، كما سبق لروما القديمة أن فعلت مع القبائل الجرمانية. ومثلما فعل الجرمان عندما سعوا على مدى قرون عدة لعبور الراين والدانوب إلى الإمبراطورية الرومانية لنيل حصة من الثروة التي نهبت منهم، فإنَّ الأميركيين اللاتينيين يسعون بطرق عدة للهجرة وعبور الريوغراندي إلى جنة الولايات المتحدة الموعودة، لينالوا حصة من الثروة المنهوبة منهم ومن شعوب أخرى على مدار الكرة الأرضية.
وكما الجرمان الذين اعتمدوا مذهباً مسيحياً مغايراً لمذهب روما، وهو الآريوسية، ليكون “أيديولوجيا” تحدد هُوية القبائل الجرمانية، فإن شعوب أميركا اللاتينية، وفي تمردها على الليبرالية الأميركية، لجأت إلى الاشتراكية كمحدد أيديولوجي لهُويتها السياسية في النزال الدائر بينها وبين الولايات المتحدة.
وفي إطار تحقيق استقلالها عن الهيمنة الأميركية، فإن شعوب أميركا اللاتينية لجأت إلى ثوراتها الاشتراكية التي بدأت في الآونة الأخيرة بالانتشار كالنار في الهشيم في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية؛ ففي الأرجنتين، نجد الاشتراكي ألبرتو فرناندز ونائبته كريستينا كيرشنر. وفي بوليفيا، نجد الاشتراكي لويس أرسي خليفة القائد الثوري إيفو موراليس. وفي كولومبيا، نجد الاشتراكي غوستافو بترو. وفي التشيلي، نجد الاشتراكي غابريال بوريتش. وفي فنزويلا، نجد الاشتراكي نيكولاس مادورو.
وفي نيكاراغوا، نجد الاشتراكي دانييل أورتيغا. وفي كوبا، نجد الاشتراكي ميغيل دياز كانيل، خليفة القائدين الثوريين فيديل كاسترو وراوول كاسترو. وفي المكسيك، نجد الاشتراكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. وفي الآونة الأخيرة، فاز الاشتراكي لولا دا سيلفا في البرازيل، لتصبح معظم بلدان أميركا اللاتينية محكومة من اشتراكيين معادين للإمبريالية الأميركية.
خلاصة
منذ زمن طويل، وعى القادة الأميركيون “الخطر الوجودي” الذي تمثله أميركا اللاتينية عليهم. وكما كانت روما التي لم يفصلها عن القبائل الجرمانية إلا نهرا الراين والدانوب اللذان كان عبورهما يسيراً، فإنه لا يفصل الولايات المتحدة عن أميركا اللاتينية إلا نهر الريورغاندي.
وكما مارست روما النهب ضد القبائل الجرمانية، ما جعلها تنطلق لتنتقم من القوة التي اضطهدتها طويلاً، فإن الولايات المتحدة تعي أن صحوة شعوب أميركا اللاتينية ستمنعها من مواصلة ممارسة سياستها لنهب خيرات هذه الشعوب التي قد تنطلق لمعاقبة القوة التي اضطهدتها طويلاً.
هذا الأمر جعل كبار المفكرين الجيوسياسيين الأميركيين، مثل ألفرد ثاير ماهان ونيكولاس سبيكمان وروبرت كابلان وجورج فريدمان، يحذرون من الخطر الوجودي للجنوب عبر الريوغراندي على الولايات المتحدة، وهذا ما جعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يفكر في بناء حائط على طول الحدود مع المكسيك، لتجنّب مصير روما التي سقطت على أيدي الجرمان قبل 16 قرناً.
التعليقات مغلقة.