وجه آخر لأمريكا … صفحات من تاريخ نضال الشيوعيين / الطاهر المعز
الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 24/11/2022 م …
توطئة
نشَرَ المؤرخ “هوارد زين” (1922 – 2010) كتاب ” التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” سنة 1978، ويقدم الكتاب الضخم رؤية مُغايرة تُعَرِّي وتفْضَحُ التاريخ الرّسمي الأمريكي، منذ الغزو الأوروبي في أواخر القرن الخامس عشر إلى الرّبع الثالث من القرن العشرين، ونال الكتاب شُهْرة عالمية وتم بيع أكثر من مليونَيْ نسخة منه، قبل وفاة مُؤلّفه، سنة 2010.
تُعتَبَرُ الفقرات الموالية محاولة لتكريم الشيوعيين الأمريكيين عمومًا، والتّركيز على الدَوْر المُهْمَل للشيوعيين السّود وبالأخص النساء السوداوات (مع فقرة خاصة بهن في آخر المقالة)، في نضالات الطبقة العاملة والمُضطَهَدِين بالولايات المتحدة، طيلة أكثر من قَرْن، تخليدًا لذكرى الأبطال والضّحايا من رفاق الدّرب، بمعْقَل الرأسمالية الإحتكارية (الإمبريالية)، ولا ننسى أن تاريخ الأول من أيار مُرتبط بتخليد نضال العُمّال والعاملات الأمريكيات، خلال النصف الثاني من القرن التّاسع عشر…
نضالات الشيوعيين الأمريكيين قبل الحرب العالمية الثانية
لا يعرف الكثير من الشيوعيين حول العالم سوى القليل عن مساهمات الشيوعيين الأمريكيين السود، رجالًا ونساءً، في نشاط ونضالات الحزب الشيوعي الأمريكي ولكن أيضًا في الحركة الشيوعية العالمية، رغم محاولات الرأسمالية وصُحُفُها، إثارة الخلافات بين الجنود السود العائدين من الحرب العالمية الأولى، الباحثين عن عمل، و”البلاشفة” الذين اتّهَمْتُهم الرأسمالية وإعلامها بالمسؤولية عن وضع هؤلاء الجنود المُسَرّحين العاطلين عن العمل، وبذلك أرادت الصحف الكبرى إثارة معركة بين فئتين يكرههما العنصريون، ونجحت في إثارة بعض أعمال الشغب من قِبَل السود ضد الشيوعيين، لكن نجَحَ الحزب الشيوعي الأمريكي، رغم نشأته الحديثة وشبابه، في حشد آلاف العمال والعاطلين وصغار الفلاحين، بمن فيهم السود والنساء، ضدّ الرأسمالية وضد العنصرية…
تأسس الحزب الشيوعي الأمريكي سنة 1919، ليُصبح بين سنتَيْ 1930 و 1950 أكبر مجموعة يسارية بالبلاد، ما مكّنَهُ من قيادة النضالات من أجل المساواة بين جميع المواطنين، وتَمَكّن العديد من أعضائه من قيادة نقابات القطاع الصناعي، بعد صراع مع قادة النقابيين “المحافظين” في الاتحاد الأمريكي للعمل (AFL)، وبذلك انْضَمَّ عدد كبير من العمال الصناعيين إلى الحزب الشيوعي، كما انْضَمَّ مواطنون آخرون، بعد المشاركة الهامة للشيوعيين الأمريكيين في حركة الدفاع عن ساكو وفانزيتي سنتَيْ 1926 و 1927 (وهما مُهاجران إيطاليان تم إعدامهما بعد اتهامهما ظُلْمًا بجريمة لم يرتكباها)، وبرز الحزب الشيوعي بنشاطاته المتنوعة فقد أنشأ العديد من الهياكل المحلية والمنظمات الجماهيرية، في أحياء المُدُن وفي القُرى، منها الفرق الموسيقية والمسرحية، والنوادي الرياضية، والصحف، والتعاونيات الفلاحية إلخ.
كان الاشتراكيون الراديكاليون السود حذرين في البداية من القيادات البيضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي، فأسسوا مجلة “Messenger” في نيويورك وجماعة إخوان الدم الإفريقية سنة 1921، التي كان قادتها الرئيسيون مقربين أو أعضاء في الحزب الشيوعي، وفي أوائل الثلاثينيات (في خضم أزمة سنة 1929) ، قاد الحزب الشيوعي حركة العاطلين عن العمل في المناطق السّكنية ذات الأغلبية السّوداء، وتَبَنّى نضالهم من أجل المساواة العرقية، في شمال وجنوب الولايات المتحدة، ما سمح للحزب الشيوعي بتجنيد الآلاف من المناضلين “الرّاديكاليين” السود في جميع أنحاء البلاد ليصبح أكبر حزب يساري وأفضل الأحزاب تنظيمًا، من أوائل ثلاثينيات القرن العشرين حتى سنة 1956، حيث أرهقت المُلاحقات “الماكارثية” الحزب، فضلا عن التغييرات التي حصلت على الصعيد العالمي، من خلاف بين الصين والإتحاد السوفييتي، إثر المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وتولي مجموعة خروتشيف قيادة الحزب والدّولة السُّوفييتِيّيْن…
تعرض الشيوعيون الذين نشطوا في المؤسّسات والشركات بين سَنَتَيْ 1920 و 1930 للفصل والعنف وحتى الإغتيال، فيما ساهمت قيادتهم لنضالات العاملين من أجل تحسين ظروف العمل (في الصناعة وَوَرَشات التعبئة والتغليف ومناجم الفحم والمعادن والسكك الحديدية والتجارة والبناء والكهرباء وصناعة الجِلْد والمنسوجات …) في نمو الحزب الذي نظم حملات الدفاع القانوني لأعضائه ، وخاصة المناضلين السّود والنّساء المعرضين والمُعَرَّضات للعنف من قِبَلِ أرباب العمل والجماعات العنصرية وقوات الشرطة، وأسس الحزب الشيوعي منظمةً للدفاع عن كل هؤلاء (الشيوعيين وغير الشيوعيين) الذين تعرضوا للتهديد من قبل جهاز الدولة الرأسمالي، الأمر الذي جذب العديد من المتعاطفين، وعندما اغتالت شُرْطة مدينة نيويورك أحد المناضلين الشيوعيين في مظاهرة ، شارك خمسون ألف شخص في جنازته في كانون الثاني/يناير 1930، وتراوحت أعداد مُشيِّعِي جنازات أخرى لمناضلين شيوعيين، بين أربعين ألف وستين ألف شخص، وقاد الحزب سنة 1932 في ديترويت مظاهرة ضخمة لعمّال صناعة السيارات، اغتالت الشرطة خلالها أربعة مناضلين شيوعيين، نظم الحزب الشيوعي مظاهرات للعاطلين عن العمل، في اليوم العالمي للبطالة ( 06 آذار/مارس 1930)، وكان الحزب الشيوعي أول مجموعة أمريكية أسَّسَها ويقودها البيض، تُؤَكّد على الظّلم الذي يتعرّض له السّود، وتُقدّم برنامجًا علنيا للنضال ضد التمييز وضد الاضطهاد الذي يعانون منه، واعتبر الحزب الشيوعي في ذلك الوقت أن حشد البيض للنضال من أجل هذه المطالب هو شرط مسبق لأي عمل ثوري لصالح السود أو المهاجرين، ودافع عن السود المتهمين خطأ بارتكاب جرائم مختلفة، وقاومَ اضطهاد واغتيال السود الذين يحاولون الهجرة من جنوب الولايات المتحدة (موطن المَيْز العنصري)، مما جعله يتمتع بشعبية بين السكان السود، وزاد عدد أعضاء الحزب الشيوعي أربعة أضعاف بين سنتَيْ 1928 و 1934، بعد أن أثبت الشيوعيون أنهم أكثر المناضلين نشاطًا وموثوقية وشجاعة في النضالات اليومية في مكان العمل أو مع العاطلين عن العمل أو مع السود، أو مع صغار المُزارعين في الرّيف إلخ. سمح هذا للحزب الشيوعي باكتساب ثقة الملايين من الناس خلال فترة أزمة سنة 1929 والكساد الاقتصادي، فكان الحزب وحلفاؤه (بين سنَتَيْ 1935 و 1939) في قيادة المؤتمر الوطني للزنوج، وهو تحالف من مجموعات الحقوق المدنية التي قادت العديد من النضالات ضد التمييز، كما كان أعضاء الحزب في قيادة المجموعة الطلابية اليسارية الرئيسية، منها اتحاد الطلاب الأمريكي وخليفته مؤتمر الشباب الأمريكي، وقاد الشيوعيون تحالفات واسعة من المنظمات المناهضة للحرب والفاشية وكانوا كذلك من المناضلين الأساسيين ومن قادة المنظمات الزراعية. أما داخل الحركة العمالية ، فقد سيطر مناضلو الحزب أو كان لهم تأثير على الكثير من نقابات اتحاد نقابات الصناعة ( CIO).
المكارثية وتكثيف حملات القمع:
بعد الحرب العالمية الثانية ، بدأت الحرب الباردة وقادت الإمبريالية الأمريكية (الرئيس هاري ترومان) حملة واسعة، بمساعدة اللجان البرلمانية، منذ العام 1946، أسفرتْ عن طَرْدِ آلاف الموظفين المدنيين المتهمين بالتعاطف مع الشيوعيين، وتم التحقيق بدقة بين سنتَيْ 1947 و 1953 مع أكثر من 26 ألف موظف في الحكومة الإتحادية، وتم إجبار سبعة آلاف على الاستقالة وأقَرّت السّلُطات بطرد 739، على أساس ذرائع كاذبة ، ودفع الشيوعين ثمنًا باهظًا، قبل أن تُوسّع السلطات حملة القمع، سنة 1949، لتشمل اليسار ككل، ثم تَولّت “المكارثية” (نسبة إلى اللجنة البرلمانية التي ترأسَها السيناتور اليميني المتطرف جوزيف مكارثي 1908 – 1957) زمام الأمور سنة 1950 لتتوسّع دائرة القمع، وبلغت مطاردة التقدميين ذروتها بين سنتَيْ 1953 و 1954…
كان الشيوعيون الأمريكيون أكثر المناضلين التزامًا وجِدّيّة وتنظيمًا، حيث عملوا، من سنة 1920 إلى منتصف خمسينيات القرن العشرين، مع العمال والفلاحين والعاطلين عن العمل وفي مجال الدفاع عن الحقوق المدنية للأمريكيين السّود والأقليات الأخرى، ولم تتمكن أي مجموعة أخرى (خاصة التي يتصدّر البيض قياداتها) من إنجاز هذه المهام، لكن بعد طرد النقابات التي يقودها الحزب الشيوعي من اتحاد عمال الصناعة ( CIO )، سنة 1949، بإيعاز من السلطات ومن أرباب العمل، استمروا في الكفاح من أجل فتح فرص العمل للسود والأقليات الأخرى، وخاصة في الجنوب، فكانت النقابات التي يديرها أعضاء الحزب الشيوعي تضم أكثر من مليون عضو وكانت أكثر ديمقراطية بكثير من منافسيها “الديمقراطيين الإجتماعيين” والليبراليين واليمينيين، كما كان للحزب الشيوعي دَوْرٌ حاسِمٌ في النهضة النقابية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حيث قاد الشيوعيون النقابات العمالية في صناعة المعادن أو في مصانع السيارات في جنرال موتورز وفورد.
شكّل القمع الموجه ضد المناضلين الشيوعيين بعد الحرب العالمية الثانية، أحد أسباب فشل النقابات العمالية في جنوب الولايات المتحدة، المنطقة الأكثر عنصرية، وأدت تأثيرات سياسات الحرب الباردة على الوضع الدّاخلي إلى زيادة الملاحقات والقمع الذي عانى منه الحزب الشيوعي، وبالخصوص ابتداء من سنة 1950، وإلى إضعاف تأثير الشيوعيين في الحركة العمالية وفي مجالات أخرى من المجتمع الأمريكي.
دور النساء الشيوعيات السّوداوات:
كان صعود اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا، منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، مصحوبًا بحملة عنصرية ضد السود والمهاجرين والنساء وضد الأفكار التقدمية، ففي الولايات المتحدة ، كانت حركة “حياة السود مهمة” رمزًا للمقاومة ضد هذا التصعيد الرجعي والعنصري، ولم تكن هذه حركة المقاومة الأولى، حيث برزت النساء بصمودهن، وتحتوي الفقرات التالية على تذكير بنضال النساء السود والشيوعات في أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه من أجل تحرير السود والمساواة الاقتصادية والإجتماعية والسياسية، من خلال الوثائق التي تم نشرُها، سنة 2011، والمتعلقة بنضال السود داخل الحزب الشيوعي الأمريكي، ويغطي الكتاب المنشور مؤخرًا بعنوان “تَنَظّم، كافِحْ، ارْبَح – الكتابة السياسية للمرأة الشيوعية السوداء”، من تحرير تشاريس بيردين ستيلي وجودي دين، وهو كتاب يُغَطِّي ثلاثة عقود من تاريخ الحزب الشيوعي الأمريكي ، من عشرينيات القرن العشرين إلى المكارثية (المذكورة في فقرة سابقة) في الخمسينيات من القرن العشرين، ويجمع الكتاب وثائق غير منشورة للكاتبات والقائدات الشيوعات، تكشف عن وقائع غير معروفة بشأن قيادة النساء السود ونضالهن داخل الأحزاب والحركات الشيوعية في القرن العشرين.
كانت النساء السود في قلب النضال من أجل بناء الشيوعية الأمريكية، ففي سنة 1919 ، نظمت النساء الشيوعات السود أنفسهن حول مفهوم “الاستغلال الثلاثي” (الإضطهاد والقمع، والاستغلال الطبقي، والتحيز الجنسي )، كجزء من أشكال الهيمنة التي تميز واقعهن، واعتبرت هؤلاء النساء أن العنصرية والإقصاء الذي تمارسه الرأسمالية الأمريكية ضد العاملات، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإضطهاد القومي الذي تُمارسه الإمبريالية العالمية ضد الشّعوب…
تُظْهر هذه الوثائق وعيًا متقدما بدور الإمبريالية، مُلخّصها إن الإمبريالية هي الحرب بالضّرورة، من نهب الموارد والاستغلال المفرط للعمالة المستعْمَرَة، والعنصرية، إلى التسلح النووي والفاشية، ولا يهم مكان أو موقع المَظْلُومين والضحايا، لأنهم جميعًا يعانون من القهر والقمع من نفس المستغِلّين والمضطهِدِين، ما يُحتّم بناء حركة أممية جماهيرية واسعة النطاق.
أوردت إحدى الوثائق مقارنة معاملة أسرى الحرب بمعاملة السود في الولايات المتحدة أو في المستعمرات الفرنسية أو البريطانية، لنستنتج إن هؤلاء النساء الشيوعات يتعاطفن مع كفاح كل الذين يقاتلون ضد الاستعمار، وهنا تجدر المُلاحظة إن قساوة ظروف العمل والإستغلال المُفرط والحرمان من الحقوق، تُشكل حاجزًا أمام التفكير بما يحدث في أفريقيا أو آسيا، والربط بين هذا ما يحدث محليًا وما يحدث عالميا، ومع ذلك أوردت نصوص النساء الشيوعات السود دفاعًا عن فرضية أنهن جزء من شعب مستعمر داخل البلاد، خاصة في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة، ما استوجب المقارنة مع نضال كل المناهضين للاستعمار، في أي مكان، واستنتاج إن معاداة الشيوعية مرتبطة باستغلال العمال واضطهاد السود والنساء والشعوب المستعمرة أو الواقعة تحت الهيمنة.
ذكرنا في فقرة سابقة، أن وسائل الإعلام السائد تدافع عن الرأسمالية وعن اليمين المتطرف وعن “شرعية” القمع والإضطهاد، ولا تزال وسائل الإعلام والدّعاية الرأسمالية، سنة 2022 ، في الولايات المتحدة وغيرها، تربط بين “رهاب” (الخوف من) الأسود والخوف من اللون الأحمر. إنه خطاب يدعو بشكل غير مباشر إلى تفوق البيض ومعاداة الشيوعية، ولا تزال منظمات السود متهمة بالتواطؤ مع الصين أو كوبا أو روسيا – فالاتحاد السوفياتي وروسيا هما الشيء نفسه، في المخيال السياسي الرسمي، الأمريكي والأوروبي – ويصف المعلقون اليمينيون جميع الحركات المناهضة للعنصرية، والحركات النسوية في الولايات المتحدة بأنها “ماركسية”، لأنهم يعرفون أن الشيوعية تدعم دائمًا المضطهدين، وعندما يتظاهر السّود ضد القمع والإغتيال والإعتقال، تُكَرِّرُ وسائل الإعلام والدّعاية الرأسمالية الحديث الممجوج عن “تلاعب جهات خارجية بعقول البُسطاء السود” أو الفُقراء أو العُمّال المُضربين، ولا تزال السلطات السياسية وأذْرُعُها الدعائية (الإعلام) تعتبر المواطنين السّود “أغبياء” أو “مُتنطّعين” يتصرفون كالمُراهقين، عبر ردّ الفعل، ولذلك تعتبر أنه من اليَسِير التلاعب بهم بسهولة من قِبَل قُوى أجنبية.
في الواقع، يُدْرِكُ المناضلون السّود (نساءً ورجالاً)، مثل أسلافهم من المناضلين النقابيين والشيوعيين إنهم فُقراء ومُسْتَغَلُّون ولن يخسروا سوى أغلالهم من النضال من أجل الإشتراكية التي لن تجلب لهم سوى القدر الأكبر من المكاسب ومن إعادة توزيع الثروة للحد من عدم المساواة.
كانت النساء السوداوات المشار إليهن في هذه الوثائق يعْمَلْن بشكل جماعي وشجاع لبناء حركة جماهيرية ذات محتوى ثوري، وينتظمن خلال فترة الكساد الكبير، فترة “الرعب الأحمر”، والمكارثية.
عرض كتاب:
النساء السوداوات والشيوعية بالولايات المتحدة
تنظّم، قاتل، اربح: الكتابة السياسية للمرأة الشيوعية السوداء – تأليف “تشاريس بيردين ستيلي” و “جودي دين” – 2022
(Organize, fight, win : Black communist women’s political writing)
تواجه نساء الطبقة العاملة السوداء في الولايات المتحدة اضطهادًا ثلاثيًا – كعاملة وسود ونساء. لا يتم تصنيف هذه التفاصيل بالضرورة في التسلسل الهرمي ، ولكن مزيج الثلاثة هو الذي يخلق الاضطهاد الخاص الذي تواجهه هذه المجموعة من السكان الأمريكيين. كان الحزب الشيوعي الأمريكي من أوائل التشكيلات السياسية في البلاد التي اعترفت بهذا الواقع وحاولت معالجته، وكان نشاطه على جبهة المساواة، بين كل المواطنين، وبين النساء والرجال، بين السود والبيض، هو الذي بوصلةً استرشد بها اليسار الأمريكي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، فيما يتعلق بالقمع العنصري.
يُعتبر هذا الكتاب من أفضل الجهود لتجميع الوثائق النادرة (مقتطفات من مختلف النشرات الإخبارية والمجلات، بالإضافة إلى مقتطفات من أوراق الحزب الشيوعي ومحاضر الاجتماعات وبعض الدراسات الأكاديمية وعدد من الوثائق الأخرى) التي تسلط الضوء على عدد من المصادر، لكي يُدْرِك القارئ والمناضل الدّور الهام للحزب الشيوعي الأمريكي على مستوى الفكر وعلى مستوى العمل الميداني، مع العمال وصغار الفلاحين والعاطلين عن العمل والنساء والمواطنين السود…
كانت غالبية النساء السود في الولايات المتحدة، عند تأسيس الحزب الشيوعي، يعملن كعاملات منازل، ولذلك تناقش العديد من الوثائق طبيعة استغلال هؤلاء العاملات ومحاولات تنظيمهن، وورَدَ ذِكْرُ تعبير ( Bronx slave market ) أكثر من مرة وهناك مقال يشرح آليات هذه “السوق”، حيث يتجمع العمال المُياوِمُون (العمل الهش باليوم) بزوايا الشوارع ومواقف السيارات، يعرضون قوة عملهم بأقل من قيمتها في محاولة لكسب ما يُمكّنهم من إطعام أسرهم، كما توجد نساء فقدْن الأمل في العثور على عمل كخادمات منازل الأُسَر الميْسُورة، فانخَرَطْنَ في الدّعارة، بشكل غير رسمي وغير مستمر… ووردت العديد من المعلومات والتفاصيل عن وضع هؤلاء العاملين والعاملات السود، ومناقشة الرّد على هذه الأشكال من الاستغلال، ومحاولات لتنظيم عاملات المنازل، وتقويم النجاحات القليلة والمحدودة لهذا العمل.
ورد ذكر “كلوديا فيرا كومبرباتش ” بشكل متكرر في النصوص التي أوردها الكتاب، وهي مناضلة شيوعية ولدت في “ترينيداد”، وغيرت لقبها إلى “جونز”، عندما بدأت نشاطها السياسي في الحزب الشيوعي الأمريكي، وشاركت بنشاط في الحملة لتحرير “سكوتسبورو بويز”، ومُلخصها أن تسعة شبان سود كانوا متهمين زوراً باغتصاب فتاة بيضاء في ألاباما سنة 1931، ثم أصبحت “كلوديا جونز” السكرتيرة التنفيذية للجنة الوطنية للمرأة، وسكرتيرة لجنة مجلس المرأة بالحزب الشيوعي، وسكرتيرة المجلس القومي للسلام، وسُجِنَت سنة 1953، خلال فترة المكارثية، بعد اتهامها من قِبَل إدارة مراجعة شؤون الزنوج، وإدانتها “بالتحريض على الفتنة”، وبعد إطلاق سراحها وجهت إليها تهمة جديدة بموجب قانون آخر مناهض للشيوعية يسمى قانون سميث، وبعد فترة السجن غادرت الولايات المتحدة نحو بريطانيا…
تتضمن كتاباتها المُشار إليها في الكتاب مقالًا عن حق تقرير المصير للسود في الولايات المتحدة، ومناقشة حول تنظيم العاملات في الحزب الشيوعي ، ومناقشة طويلة، كتَبَتها سنة 1950، حول الإمبريالية والعسكرة والحركة المناهضة للحرب، خلال التهديد الأمريكي بحرب شاملة في كوريا وفي جنوب شرقي آسيا…
بالإضافة إلى إظهار أهمية تنظيم النساء السود، يقدم الكتاب العديد من الأمثلة عن مدى جدية الحزب الشيوعي الأمريكي في التعامل مع قضايا لم يتطرق لها اليسار الأمريكي، وأهمها الحرص على تنظيم النساء، والمواطنين السود، وجنى الحزب ثمار ذلك، من خلال مساهمة النساء بكثافة في نشاطه، وهذا لا يعني أن الحزب كان خاليًا من التحيز الجنسي، لكنه يوضح أنه كان يُكافح التحيز الجنسي بمشاركة النساء…
نُشِرَ هذا الكتاب خلال فترة غليان بالولايات المتحدة، شملت تجمعات واحتجاجات البرجوازية الصغيرة ( تحت شعار “احتلُّوا وول ستريت”) والمُظاهرات الإحتجاجية ضد اغتيال السُّود، وموجات الإضرابات المتتالية، خصوصًا منذ صيف 2021، وافتقد العاملون والمواطنون السود أداةً تنظيمية، مثل الحزب الشيوعي الذي تمكّن من خلق أُطُر لتنسيق النضالات ودعمها ونشر الأخبار والتعليقات بشأنها…
أطلقت السلطات الأمريكية، جهازها القَمعي (مكتب التحقيقات الفيدرالي إف بي آي) لملاحقة التقدميين والمواطنين السود، بينما تتجاهل أو تدعم نشاطات المجموعات اليمينية المتطرفة، مجموعات الدّفاع عن حرية حمل السلاح، وجماعات تفوق البيض مثل كو كلوكس كلان، التي ترتكب جرائم تُسجّل ضد مجهول، دون أن يعثر مكتب التحقيقات الفيدرالي على مرتكبي هذه الجرائم…
يعد هذا الكتاب إضافة مهمة إلى تاريخ الطبقة العاملة والحركة الشيوعية بالولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالنضال من أجل الحرية والمساواة للسكان السود، خصوصًا وأن جميع الوثائق التي يتضمنها هذا الكتاب، من إنتاج الشيوعيات السوداوات، ما يُؤَكّد دورهن المهم في النضال خلال الفترة المقصودة.
إنه تراث قَيِّم، ليس للشيوعيين والشيوعيات بالولايات المتحدة فحسب بل لجميع شيوعيي العالم، وعامل مُحَفِّز لتجاوز الوضع المُزري الحالي، وللتفكير في مستقبل النضال من أجل التحرير الوطني وضد الرأسمالية في حرحلتها الإمبريالية الإحتكارية، وصد النظام القائم على الإستغلال والإضطهاد…
التعليقات مغلقة.