قراءةٌ في المشهد الثقافي لاسْتِسْقاءِ العِبَرِ ولإعادةِ النَّظر في جُملةِ مَسائل! / حنا ميخائيل سلامة

               حنا ميخائيل سلامة  ( الأردن ) – الإثنين 5/12/2022 م …




غَدَت الأسباب التي أوجبت وزارة الثقافة سحبَ “رواية ميرا”التي عُرِضَت للبيع ضمن مشروعها المُسَمَّى “مكتبة الأسْرة للجميع”واضحةً جَليّةً. وكانت الرواية قد طبعتها الوزارة-هذه المَرَّة-ونشرتها لتباع في المراكز المخصصة مع مؤلَّفات أخرى بسعرٍ زهيدٍ تشجيعاً للقراءة. ولستُ بصدد الخوض في هذه المسألة تحديداً، غيرَ أنّي أعود بالذاكرة لسنوات مَضت عندما طبعت وزارة الثقافة ووزعت مجاناً رواية “عندما تشيخ الذئاب” لمؤلفها المرحوم جمال ناجي، والموصوفة من الوزارة أنها “ثمرة انتاج إبداعي”.هذا الإنتاج يكون بالعادة مدفوع الثمنكونه يندرج تحت مسمى “نِتاج التفرغ الإبداعي” الذي يُمنح فيه المؤلِّف الذي يجري اختياره خمسة عشر ألف دينار شريطة أن يتفرغ من أي عمل يدر عليه دخلاً لمدة عام ليؤَلِّف كتابه!وحين اطلاعيعلى الرواية آنذاك إذا بها تتضمن فَقرات كثيرة تدخل بوضوحٍ تحت مُسمى -مُعِيبة- بما لا يقبل رَبّ عائلة عاقل أن تكون الرواية تحت أنظار أهل بيته! وفيها أيضاً صفحات لتهكمات مُبطنةتَمسُ مرحلة من تاريخ بلدنا ورموز تلك المرحلة! فانتقدت حينها كيف يصار لطباعتها ودعمها ووضعها بالمجان لمن يرغب؟ وتساءلت هل هذا مستوى انتاجنا المسمى “الإبداعي” وهل يستحق عاماً كاملاً من التَّفرغ!وأوصلتُ صوتي وقتها لمن يعنيهم الأمر داخل الوزارة، ثم اضطررت إزاء عدم إيفاء الوعد بإجراء اللازم على تمرير رسالتين لقامَتين نافذتين مع نُسختين من الرواية مؤشِّراً على الصفحات ذات العلاقة لبرهنة صحة كلامي. وقد تم بالفعل توقيف توزيع الرواية بأوامر منهما مع تعليماتٍ بسحبها حيثما توفرت. لكنَّ الأمر المستغرب أنه وتحديداً في شهر 12/ 2009 تمَّ دعمٌسَخي من الوزارة لإعادة طباعة نسخة ثانية منها مُجدداً بذريعة “نفاد الكمية ولترشحها لجائزة خارجية” كما أُعلِن!والعجب العُجاب كيف تنفد الكمية طالما سُحبت حيثما وُزِّعت وتمَّ تخزينهافي مستودع الوزارة أو غيره! ومن باب العلم أن المسلسل الذي أُنْتِج خارج الأردن بعد سنواتعن الرواية تم استبعاد العبارات والنصوص  المشار اليها، ولم يأتِ على مضمون صفحات بكاملها كعادة انتاج الروايات حيث يتم معالجتها درامياً فتُعدَّل مضموناً وشكلاً!

إن طرح الموضوع أعلاه الآن يجيء لاستسقاء العِبَر من جانب، ومن جانبٍ آخر لإعادة النَّظر وتغيير النهج في مسائل عِدَّة تجريعلى ضَوء ما ورد ذِكره، وأخصُ في أهمية إعادة دراسة الكُتب التي طُبعت تحت عنوان “التفرغ الإبداعي” وهل كانت جميعها لتثقيف العقول وفيها ثروة مَعرِفيَّة حقيقية لِتَستحقّ تلك المخصصات المُجزيَة التي دُفِعَت لمؤلفيها ولطباعتها. علماً أنَّ مِن تلك المؤلفات ما كان يُمكن إنجازه بشهر واحد أو أقل دون تفرغٍ من خلال الكفاءات المتوفرة في الجامعات ومؤسساتنا الثقافية المختلفة وأيضاً مِن الموهوبين من رجالاتنا في الريف والبادية والحاضرة.

وأُضيفُ بالمناسبة ملاحظات أرجو أن تتسع لها الصدور، وقد كنتُ كتبتُ عنها في مقالات سابقة وأرى في بَسْطِها الآن ما يُسهم في دفع عجلة الثقافة وأيضاً ما يُخفِّف الضغط على الميزانية الحكومية المخصصة للثقافة ومشروعاتها:

إنَّ التصريح بأن مئات آلاف الكتب قد جرى توزيعها بالمجان خلال حملات مكتبة الأسرة وأنشطة مماثلة، وأن أعداداً أيضاً بيعت بأسعار رمزية، لا يُعدُّ هذا كله المعيار الحقيقي للهدف المنشود من تعميم الثقافة والارتقاء بها وتوسيع المدارك ونشر الوعي. ومع الإقرار أن هناك مِن المُهتمِّين مَن يذهب ليقتنيمنها بغرض القراءة والمعرفة، غيرَ أنَّ نسبةً مِن الكتب ما يأخذ طريقه كما جرى في حالات سابقة ليُباع على دُفعاتٍ في بعض المعارض والبازارات والأكشاك وعلى الأرصفة بأضعاف أضعاف القيمة،بعد قَصِّ أو طمس موقع الختم المُثَبَّت على كل كتاب ومُفادُه “إهداء وزارة الثقافة”أو مسح سعر الكتاب. مع الأخذ بعين الاعتبار توافد أشخاص يعملون لصالح معارض ومكتبات وبازارات وأكشاك وباعة أرصفة، حيث يستغلون فترات المعارض لشراء كميات يُركِّزون فيها على العناوين “المهِّمة” دون غيرها لإعادة بيعها بأساليب ماهرة!

ومع قيام الوزارة بإهداء كمياتِ كُتب لمكتبات المراكز التعليمة والثقافية والأندية وغيرها، لكن أليسَ من الضروري التحقق في مصير تلكالكُتُب.فهناك مكتبات قليلةمنها تقوم بعرضها فِعلاً، لكن هناك مكتبات مُوَصدة الأبواب باستمرار، وإن فٌتِحت تَبيَّن أن الكتب مُكدّسة على الأرض تفعل الرطوبة فيها فعلها، وقد لا تجد في مكتبات أخرى أيّ أثرٍ للكُتب المُهداة!

ويبرز سؤالٌ في الخاطر:هل الارتقاء بالثقافة يكون بالاستمرار في بعض المشاريع دون تقييم جديد شفاف من ذوي الخبرة والاختصاص لكشف مواقع الخلل وسد الثغرات وخاصة ان تلك المشاريع تموَّل من الميزانية؟وهل أبرزت المنتجات الثقافية التي طُبعت بمشروع المدن الثقافية وعلى مدى أعوام مَضت معلومات كافية شاملة تتسم بالدقة وتصلُح لتكون مراجعَ مستقبلاً عن تاريخ تلك المدنوآثارها،وعاداتها،ورجالاتها، وانجازاتها؟ وهل تمَّ تدقيق مخطوطات الكتبالمختصة بالتاريخِوالتوثيق قُبيل الطباعة من أساتذة مختصين في جامعاتنا ذلك إن غضَّ البصر وعدم إدراج حِقب ومراحل تاريخية فيها وترجيح حِقب زمنية على حِقب لا يشكل أمانة بحق التاريخ ولا يجعل تلك الكُتب مراجع يُعتمد عليها للساعين نحو البحث؟ وهل وُظِّفَت على النحو اللازم أنشطة وبرامج تلك المُدن لتقريب الناس إلى بعضهم البعض وإذابة الفوارق بنشر الوعي وفتح آفاق التلاقي الحقيقي بين شرائحهم المجتمعية وعلى مستوى الوطن كله؟ وهل كانت المؤلفات الصادرة عن تلك المدن من نِتاج أهلها فقط أمْ تمَّ إدماج كُتب طُبِعَت لأشخاص من مدن أخرى بهدف إنفاق كامل المخصصات المحددة؟

وهناك سؤال آخر: أليسَ من المنطقي عندطباعة مؤلفات سواء على نفقة الوزارة أمْ من خلال المؤسسات الثقافية الكثيرة المشتغلة بالثقافةوالمدعومة سنوياً من ميزانية الحكومة أن تُقدِّم تلك المؤلفات خدمة مَعرفية جديدة أو خبرة حياتية أو للتوعية بقضايا المجتمع وما يلزم من حلول خدمةً للوطن وللمواطنين؟ ويبرز سؤالٌ في السِّياق:أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع في بعض مؤسساتنا الثقافية المتلقية الدعم المالي من الخزينة ودونَ تدقيق شامل مؤلفات تكونُ موضوعاتها مُستلّبة من مخزون الحواسيب ونتاجِ آخرين تعبوا عليها وسهروا فيجري عنونتها بعناوين جديدة، بل ويُصبح مَن جمعها عُضواً في تلك المؤسسات؟ ثمَّ أنرتقي بالثقافة حين تُطبَع بدعمٍ بعض المؤلفات ومنها على سبيل المثال في الشِّعر او النثر فتجدها رصفكلامٍ بكلام مع ضعف في مبَناها وركاكة في معناها. ثمَّ يُصار لتعظيم مؤلِّفيها وغيرهم مِمن هُم على النهج نفسه وترويج كتبهم وتكريمهم بما ينعكس سلباً عليهم إذ يتوقف واحدهم عن القراءة والبحث معتبراً نفسه مع المديح قد وصل لقامة شوقي او العقاد أو جبران وغيرهم؟

ثمة ملاحظة، تتعلق بورشات العمل والندوات تحت المسميات الثقافية المتعددة فقد لوحظ من متابعة لسنوات أن الموضوعات التي تُطرح في -حالات كثيرة- كذلك أوراق العمل المُقدَّمة فيها تكرار، بل واجترار عن موضوعات سابقة وأوراق عمل سابقة مِنها للأشخاص دون تقديم ما هو جديد. علماً أن عقد تلك الأنشطة يُكلف مبالغ لا يُستهان بها مع ما يتم دفعه للمحاضرين.

ويبقى القول، إنَّطرحَالملاحظات أعلاه لا يعني نُكران الجهود المبذولة التي تقوم بها الوزارة وكوادرها مع تشعُّب مَهامهم ومسؤولياتهم، إنما يعني فتح العيون على ما تضمَّنته مِن سلبيات ومآخذ لاجتنابها أو تصويبهاخدمةً للثقافة وللإرتقاء بها إلى ما نَصْبو إليه جميعاً في بلدنا الغالي.

[email protected]

 

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.