نورمان فينكلشتاين وتفكيك المشروع الصهيوني / د. محمد عمارة تقي الدين

د. محمد عمارة تقي الدين ( مصر ) – الأربعاء 14/12/2022 م …  

 “إن كان لديك قلب فستصرخ من أجل الفلسطينيين، أكثر ما يجعلني أتقزز هو استغلال معاناة آبائي في الهولوكوست لأبرِّر التعذيب والوحشية وهدم المنازل الذي ترتكبه إسرائيل بشكل يومي بحق الفلسطينيين”.




 تلك هي كلمات المفكر اليهودي الأمريكي نورمان فينكلشتاين(Norman Finkelstein) أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في الصراع العربي الصهيوني، ومؤلف ما يقرب من تسعة كتب تمت ترجمتها للغات عديدة، لعل أكثرها شهرة، كتاب”صناعة الهولوكوست”، (The Holocaust Industry)، والذي أكد فيه أنه يجري استغلال الهولوكوست وتوظيفه لتمويل إسرائيل ودعمها عبر ابتزاز دول العالم الغربي.

 تأتي تصريحاته هذه على الرغم من أن والديه كانا من ضحايا أحداث الهولوكوست.

 

ويضيف في موضع آخر:”جريمة الهولوكوست هي جريمة بشعة، علينا توعية الجيل القادم لمنع حدوث مثل هذه المحرقة مرة أخرى في المستقبل، الهولوكوست يشبه كثيراً ما يقوم به الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، غير أن الصهاينة أجادوا توظيف الهولوكوست لابتزاز العالم، فهناك صناعة المحرقة وهي صناعة مزدهرة جداً وتدِرّ على إسرائيل أمولاً طائلة ودعماً لا محدوداً”.

ومن ثم قال عنه مؤرخ الهولوكوست الشهير(راؤول هيلبيرج):” إن فينكلشتاين عبّر عما أتبناه من آراء ووجهات نظر، فالحقيقة أن هناك توظيف واستغلال مقيت للمحرقة من قبل كثير من الصهاينة والموالين لهم”.  

 

في عام 1996م ، أصدر فينكلشتاين كتابه “صعود وسقوط فلسطين”،  وبعد دراسات معمقة توصل لنتيجة مفادها أن محنة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال لا تقل بشاعة عن الأهوال التي ارتكبها النازيون في الماضي.

إن ما يتسم به فينكلشتاين حقاً ويميزه عن غيره من الباحثين، هو وكما يقول عنه آفي شلايم، أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد، هو العمق والثراء الفكري والمعلوماتي، يقول شلايم:”   يتنوع مجال دراسات فينكلشتاين بين النظرية السياسية، والصراع العربي الصهيوني، والسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وعمله في هذا المجال شامل للغاية، وأصلي، وعميق… نعم هناك العديد من الباحثين الذين يعملون في هذا المجال، ولكن يبرز الدكتور فينكلشتاين بينهم كواحد من الأكثر قدرة، والأكثر معرفة ودراية، والأكثر أهمية، إذ يتسم بعدد من الصفات المثيرة للإعجاب: النشاط الفكري الضخم، والنزاهة االعلمية، والقدرة على الوصول ببراعة إلى جوهر ولب القضية”.

يرى فينكلشتاين أن المفكرين الغربيين الموالين للصهيونية يعمدون إلى توظيف ذكرى الهولوكوست كسلاح أيديولوجي لنصرة إسرائيل والتغاضي عما ترتكبه من جرائم، يقول فينكلشتاين:” “إسرائيل هي واحدة من أقوى الأنظمة العسكرية في العالم، كما أن لديها سجل مروع ومشين في مجال حقوق الإنسان، ومع ذلك يتم تقديمها كدولة ضحية، ومن ثم منح هذا الكيان الصهيوني حصانة ضد النقد…لقد جرى اختطاف المحرقة النازية لابتزاز أوروبا وتشتيت الانتباه عما يرتكبه الصهاينة بحق الفلسطينيين”.  

ويضيف:” تدعي إسرائيل كذبًا وبهتاناً أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأن الجدار العازل هو من أجل منع الهجمات الإرهابية عليها، وهذه كلها أكاذيب يجري الترويج لها على نطاق واسع”.

ومن ثم دعا فينكلشتاين الفلسطينيين لهدم جدار الفصل العنصري بالمعاول استناداً لقرار محكمة العدل الدولية الذي اعتبره جدارًا غير شرعي، مؤكدًا أن:” إسرائيل أكثر من مجرد دولة مارقة، بل إنها دولة مجنونة ومجرمة ومتطرفة، فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يدعو سكانها بأغلبية ساحقة للعدوان على الآخرين… العالم كله يتوق إلى السلام، وإسرائيل تتوق باستمرار إلى الحرب والدمار”.

من هنا يؤكد فينكلشتاين على حق الفلسطينيين في مقاومة الإحتلال إذ يقول:”وفقًا لمبادئ القانون الدولي فإن للفلسطينيين كل الحق بمقاومة الاحتلال سياسيًا وعسكريًا، والمفاوضات بين السلطة وإسرائيل بالشروط الحالية لا تعدو كونها مضيعة للوقت، وإنما يتم التوجه للمفاوضات بعد كسب المعركة وفرض أمر واقع جديد مثلما حدث في التجربة الجنوب إفريقية”.

وهو يرى أن:” حل الدولتين قد مات”، أو أن إسرائيل قد قتلته، ومن ثم فالحل الوحيد، وفقاً لقناعاته، هو في مقاومة الاحتلال حتى إنهائه بشكل جذري، وأنه لا يوجد أي احتمال سياسي لقيام دولتين يلوح في الأفق المنظور.

كذلك رفض حل الدولة الواحدة، إذ يقول: “هؤلاء متغطرسون ومتطرفون ولن يقبلوا بأي حل سياسي، هل هناك في هذه المرحلة الزمنية أي احتمال بأن يحدث تحول جذري في العقلية الصهيونية في المستقبل القريب؟”.

فهو لديه يقين أن العقلية الصهيوينة لن تتخلى طواعية عن الأرض لصالح الفلسطينيين، بل يتحتم إجبارها على ذلك، عبر الضغط والمقاطعة والمقاومة المتصاعدة على كافة الأصعدة.

 

 في أطروحته للحصول على شهادة الدكتوراه والتي كانت بعنوان  (تاريخ ودفاع) تناول فيها بشكل معمق التاريخ السكاني لفلسطين، وكيف أن الفلسطينيين كانوا يمثلون أكثر من90% من السكان في بداية القرن العشرين، وهو ما يقوض الأطروحات الصهيونية ونظرية الأرض الفراغ التي روج لها الصهاينة على نطاق واسع، وأنه وفقاً لأكاذيبهم كانت هناك أرض بلا شعب(فلسطين) لشعب بلا أرض(اليهود).

يؤكد فينكليشتاين أن :” إسرائيل هي أمة من القتلة،  (Israel is a nation of murderers) ، لذا فاليمين المتطرف في كل بقاع العالم مغرم بها”، ثم يتساءل: “لماذا ينجذب كل هؤلاء الزعماء المتطرفين إلى إسرائيل؟”، وكأنها تعمل كمركز جذب لكل قوى التطرف في العالم.

 كما يؤكد أن إسرائيل لا تمثل اليهودية في شيء، بل هي “مجتمع عنصري مغلق، أما اليهودي الحق فهو يعني أن تكون تقدميًا, ومسالماً ولبرالياً”.

وبسبب مواقفه تلك، وانحيازه التام للحق الفلسطيني، ونتيجة لضغوط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة تحديدًا تم فصله أو قُل تم دفعه للاستقالة من جامعته بشيكاغو في عام 2007 م.

والحقيقة أن فينكلشتاين دائماً ما يعمد إلى تحذيرنا من قوى التطرف التي بدأت في التصاعد عالمياً، إذ يرى أن هناك اجتياح كبير لقوى اليمين المتطرف في العالم، وهي ظاهرة يجب التصدي لها من دعاة السلام، لعل أبرز هؤلاء المتطرفين، وكما يذكر فينكلشتاتين، ترامب وتياره في أمريكا، ونتنياهو وحزبه في إسرائيل، وبولسينارو ومجموعته في البرازيل، وغيرها من بلدان العالم، وهو ما يشبه لحد بعيد اجتياح الفاشية في الثلاثينات من القرن المنصرم لكثير من بقاع العالم والتي قادت لدمار عالمي شامل، وهو أمر منذر بعواقب وخيمة إذ من شأنه تهديد البشرية ككل.

يؤكد فينكلشتاين أن المحرقة اليهودية التي ارتكبها النازيون لم تستهدف اليهود أولاً بل ذوي الإعاقات الجسدية والأمراض الوراثية، وأنه بالمثل نجد ترامب يسخر من ذوى الإعاقات الجسدية ومن ثم لو تسنى له الأمر لوقَّع على أفران الغاز للخلاص منهم، إنه هتلر آخر الذي ينتظر المناخات المواتية ليرتكب جريمته.

يذهب فينكلشتاين بعيداً فيما يتعلق بمشروعية فعل المقاومة الفلسطينية ضد الصهاينة، بل ويقول:” ليس للإسرائيليين الحق في الدفاع عن أنفسهم فحقهم الوحيد هو في حزم أمتعتهم ومغادرة فلسطين، ويضيف:” إسرائيل لا ترتكب جرائم حرب فقط، بل ترتكب جرائم ضد الإنسانية وتعتبر وفقا للقانون الدولي الأفظع والأكثر إثارة للاشمئزاز”.

وأنه “وفقاً للقانون الدولي وما ترتكبه إسرائيل من جرائم لاإنسانية، يحق للفلسطينيين استخدام كل الوسائل المتاحة للدفاع عن أراضيهم ضد دولة وكيان من اللصوص الذين أزهقوا الأرواح وسرقوا الممتلكات والأراضي”.

فاستراتيجية الكيان الصهيوني، وكما يؤكد فينكلشتاين،  هي خطة ممنهجة وطويلة الأمد، وأن سرقة إسرائيل الأراضي الفلسطينية هي جريمة ممتدة، إذ تعود إلى ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني كدولة.

فالاحتلال, هو في جوهره  يتجسد في التخلص من السكان الأصليين بعد تجريدهم بشكل كامل من إنسانيتهم ومن ثم إحلال الصهاينة محلهم.

 يقول المفكر الكبير ناعوم تشاوميسكي متحدثاً عن فينكلشتاين :” كتاباته  تنسف ما طرحه كثيرون قبله من مزاعم من أن الفلسطينيين هم بمثابة مهاجرين إلى فلسطين ولم يكونوا أصحاب أرض، وبالتالي فالصراع بين مجموعتين من المهاجرين ولا شيء أخلاقي في الموضوع”.

ويضيف تشاومسكي: “حذرته، إذا اتبعت هذا النهج، فسوف تواجه المشكلات، لأنك ستعري المجتمع الفكري الغربي كعصابة من المحتالين, ولن يعجبهم هذا، وبالتالي سوف يدمرونك… حياتك معرضة للخطر أيضًا ، لأنك إذا واصلت هذا المسير ، فسوف تدمر حياتك المهنية والأكاديمية”.

يرى فينكلشتاين أن الكيان الصهيوني بصيغته الحالية يمثل خطورة كبيرة على العالم أجمع من حيث إزكاء قوى التطرف من ناحية، ومن ناحية أخرى كونها دولة عدوة للديمقراطية، يقول فينكلشتاين: “إسرائيل تعمد دائماً إلى سحق أي تجربة
ديمقراطية في العالم العربي وتفضل الأنظمة الرجعية”، لأن
الخوف الأكبر لديها هو  من جود حكومات عربية ديمقراطية تعكس قناعات الشعوب التي ترفض الكيان الصهيوني جملة وتفصيلاً، وهو بذلك يتفق مع ما يذهب إليه ناعوم تشاومسكي من أن :” إسرائيل هي رأس حربة قتل الديمقراطيات في العالم”، فلا يمكن لها أن تتواجد إلا وسط محيط هادر من الاستبداد.

 

لقد حاول فينكلشتاين دخول فلسطين، إلا أن السلطات الإسرائيلية قامت بترحيله بمجرد وصوله إلى مطار بن جوريون، ومن ثم توجه للبنان ليواصل أداء رسالته المتجسدة في فضح ممارسات الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين.

وفي التحليل الأخير، فتلك هي  أطروحات نورمان فينكليشتاين، ذلك المفكر الإنسان الذي أبحر بقوة ضد تيار جارف وبغيض من النفعية السياسية والنخاسة العلمية التي ترى في مناصرة الكيان الصهيوني جواز مرور لعالم الشهرة والنفوذ، ومتحملاً تبعات الدفاع عن الحق الفلسطيني حيث فقدان كل ما هو عزيز وغال من نفوذ أكاديمي وغيره، بل وربما تهديد حياته ذاتها.


     إن أردنا حقاً أن نرد الجميل لنورمان فينكليشتاين علينا أن نأخذ توصياته بعين الاعتبار ونضعها على محمل الجد، كدعوته لنا بأن نركز بشكل مستمر على فضح ممارسات الكيان الصهيوني في المحافل الدولية والتكتل مع نشطاء الحق والسلام في أنحاء العالم من أجل الضغط المتواصل على الكيان الصهيوني لرفع الحصار، فهو وكما وصفه حصار مروع وغير قانوني وغير أخلاقي وغير إنساني، مع مواصلة الضغط المتصاعد والمقاومة بكافة صورها من أجل إنهاء أبشع احتلال على وجه الأرض

   كما دعانا لأن نركز على ما هو ممكن دون الانسياق وراء أحلام أو قل أوهام لا تمت للواقع بصلة.  

 كما دعا فينكلشتاين إلى خوض معركة الإعلام وفقاً لاستراتيجية محكمة لمواجهة الآلة الإعلامية الصهيونية التي زيفت الحقائق كثيراً، كما أنها تعمد إلى استغلال انشغال الإعلام العالمي بالأحداث السياسية الكبرى في ارتكاب الفظائع ضد الفلسطينيين.

ومن ثم دعا إلى شن معركة إعلامية مضادة يجري فيها مخاطبة المجتمع الدولي لفضح ممارسات الكيان الصهيوني الإجرايمة لأجل حشر  إسرائيل  في الزاوية كمجرم يتحتم معاقبته.  

ما يبعث على الأمل، وكما يذهب فينكلشتاين، هو بزوغ رأي عام عالمي قوي ومناصر لحقوق الفلسطينيين، مستدلاً على ذلك بما نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) المؤيدة للكيان الصهيوني في مقالة افتتاحية لها وجهت فيها نقداً شديداً لمارسات الكيان الصهيوني، بل ووصفت وزير الحرب الإسرائيلي بالكذاب والمجرم.

 وفي النهاية علينا أن نمد جسور التواصل مع هؤلاء المفكرين عبر استراتيجية محكمة لخلق حالة عالمية من الرفض والاشمئزاز والنبذ والمقاطعة لهذا الكيان الغاصب الذي لا يهدد فلسطين أو الأمة العربية وحدها بل الإنسانية ككل، إذ تبقى إسرائيل وكما أخبرنا فينكلشتاين هي :” أمة من القتلة ودولة من اللصوص” .

 

بعض مراجع الدراسة:

المركز الفلسطيني للإعلام: ماذا اقترح الخبير الأميركي فينكلشتاين لحشر “إسرائيل” في الزاوية؟ في 18 أبريل 2018م.

طلال الربيعي : فينكلشتاين: إسرائيل أمة القتلة، الحوار المتمدن، 31 أغسطس 2019م

Noam Chomsky:The Fate of an Honest Intellectual,Excerpted from Understanding Power, The New Press, 2002.

Hiltermann, Joost “Review of The Rise and Fall of Palestine,   Middle East Journal,1997.

David Klein :Why is Norman Finkelstein Not Allowed to Teach?(  www.csun.edu/~vcmth00m/finkelstein.html),2009.

Noam Chomsky,   The Fate of an Honest Intellectual, The New Press,2002.

Wafa: Norman Finkelstein: Israeli Perpetrated War Crimes in Gaza

London, December 16, 2009 .

  

Melman, Yossi, “Israel denies entry to high-profile critic Norman Finkelstein”. Haaretz.  May 24, 2008 .

 Jamie Stern-Weiner, The American Jewish scholar behind Labour’s ‘antisemitism’ scandal breaks his silence, open democracy,3 May 2016.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.