تونس، من الدّولة إلى العشيرة / الطاهر المُعِز
الطاهر المُعِز ( تونس ) الجمعة 5/8/2016 م …
تظاهر ملايين المواطنين بين 17/12/2010 و 14/01/2011 ضد حكم زين العابدين بن علي وحِزْبِهِ وطالبوا بإسْقاط النِّظَام الذي حَكَم البلاد مُمَثِّلاً لمصالح الإستعمار الجديد منذ 1956 بزعامة بورقيبة ثم بن علي، والذي لم يوَفِّرْ لا الشُّغْل ولا الكرامة ولا الحرية وبعد فرار الرئيس المخلوع، رَابَطَ ممثِّلُ الإمبريالية الأمريكية “جيفري فِلتمان” في تونس لفترة ثلاثة أيام (وأجَّلَ زيارته إلى مصر) لتشكيل حكومة يرأَسُها آخر رئيس وزراء لدى بن علي بعد أن كان وزيرَ للإقتصاد والمالية خلال حكم بورقيبة لعدة عُقُود (بعد استشارة حكومة ساركوزي وميركل في أوروبا)، أي عاد مُبَكِّرًا نفس من تظاهر الشعب (المواطنون) ضد سياسة حكومته، وبِذَلِك بدأ إجهاض الإنتفاضة، ثم توسيع القاعِدَة الإجتماعية للنِّظام لِتَضُمَّ الإخوان المُسْلِمين (النهضة) إلى جانب الحزب الحاكم السابق الذي وَسَّعَ قاعِدَتَهُ أيضًا إلى بعض الفِئات من رجال الأعمال وإلى بعض المُتَسَاقِطِين من “اليسار” المَائِع الذين يستغلُّون بعضًا من ماضيهِمْ النضالي، وكانت العَوْدَة إلى نفس السِّياسات التي أدّتْ إلى ارتفاع البطالة والفقر والدُّيُون الخارجية وعودة نفس الفئات الإجتماعية للحكم تحت هيمنة نفس القوى الخارجية (وكذا الحال في مصر)، ولكن بِقِشْرَةٍ ديمقراطية، وبانتخابات شارك فيها أقل من نصف المواطنين المُسَجَّلِين وأقل من ثُلُثِ من يَحُقُّ لهم التَّصْوِيت… كان الرئيس الحالي (90 سنة) وزيرًا للداخلية لمدة 14 سنة وَتَداول على وزارات أخرى، خلال حكم بورقيبة ثم كان رئيسًا لمجلس “نِيابي” غير مُنْتَخَب خلال حكم بن علي، ومنذ كان رئيس حكومة تصريف الأعمال (2011 و 2012) أظْهَرَ عِدَاءَهُ الشديد للعاملين ولليسار والنقابات ولكل من طالب بحقوقه وعَبَّرَ عن ذلك عَلَنًا، وأعلن ان الإضْرابات والإحتجاجات العُمَّالية والشَّعْبية تَسَبَّبَتْ في إفْلاس الدّولة، أما سياسات الدولة والطَّبَقات التي تُمَثِّلُها (بقيادة الدّساتِرَة والإخوان) والتي رَهَنَت البلاد ورفعت حَجْمَ الديون ونِسْبَتَهَا إلى الناتج المَحَلِّي فهي بَرِيئة من الخراب الذي لحق الإقتصاد والمُجْتَمَع، بحسب زَعْمِهِ… بَعْدَ إفْلاس حكومة الإخوان المُسْلِمِين، وتَجَنُّبًا لِتِكْرار ما حصل لهم في مصر، شاركت نقابات أرباب العمل مع قيادات نقابات العمال والمنظمات “غير الحكومية” في النّصف الثاني من سنة 2013 في إيجاد صيغة وفاق طَبَقِي يُمَكِّنُ الشَّرِكات مُتَعَدِّدَة الجنسية من الهيمنة مُباشرة على البلاد وتعيين مُمَثّل عن شركة “توتال” النفطية المُعَوْلَمَة (فرنسية المَنْشَأ)، وحامل لجنسية بلاد أوروبية (ربما أكثر من جنسية) لِتَشْكِيلِ حكومة رجال أعمال وأجانب (كانوا تونسيين بالوراثة واختاروا جنسية أخرى طَوْعًا)، إلى حين انتخابات جديدة أعادت نفس التحالف الطبقي ومُمَثِّلِيه (دساترة وإخوان) إلى الحُكْم، تحت رِعاية صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي…
اتسم الوضع في تونس بعد الإنتفاضة ببعض الخصائص التي كانت مَحَلَّ وِفَاقٍ بين مُكَوِّنَاتِ الإئتلاف الطبقي والسياسي الحاكم، وهي لا تختلف عن السياسات التي انتهجها النِّظام أثناء حُكْمِ الحبيب بورقيبة وخَلَفُه زين العابدين بن علي، سوى في الشَّكْلِ أحْيانًا، منها:
نهب المال العام:
اتَّسَمَتْ حكومات ما بعد الإنتفاضة بِنَهْبِ المال العام بذريعة “تعويض” الحرمان الذي لَحِق الإخوان المسلمين وتوظيف نحو 75 ألف من أتباع حزبهم (النهضة) والتيارات الدينية الأخرى، وأفراد أُسَرِهم، بهدف توسيع قاعِدَتِهم الإنتخابية، والمُحافظة على الحكم الذي اعتبروه “غنيمة” (إضافة إلى “تعويضات” مالِيَّة هامَّة منحها حزب “النهضة” لأعضائه)، وتَمَيَّزَتْ بالقمع الشديد تجاه المُضْرِبين والمُتظاهرين في ولاية “سليانة” والحوض المنجمي و”القصْرِين” وأطلاق النّار أيضًا على مُصابي الإنتفاضة وأُسَر الشُّهداء والعاطلين عن العمل وسُكّان المناطق المحرومة غربي البلاد وجنوبها الخ كما اتسمت بعودة قوية للِلُّصُوصِ والفاسدين الذين انتفض الشعب (أي الفُقَراء) ضدّهُم، بل بَذَلَ مُمَثِّلو الإئتلاف الحاكم جهودًا جَبَّارَة من أجل إلغاء القضايا التي يُحَقِّقُ أو سَيُحَقِّقُ فيها القضاء ضد الفساد وسَرِقَة المال العام، ومُكافأة اللصوص والمجرمين الإقتصاديين والفاسدين بِعَفْوٍ شامل، بِمُبَارَكَة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية وصندوق النقد الدولي (وهذا ما حصل في مصر) وعَوْدَةِ رُمُوز الفساد والنظام السَّابق إلى الصَّدَارة بعد خمس سنوات من انتفاضة عارمة ضدهم
تَضْيِيق رُقعَة الولاء وحَصْرِها في العشيرة بدل الوطن:
ترافقت هذه السياسات مع تَكْرِيس وتَعْميق التطبيع مع الكيان الصهيوني، وجَسَّدَتْها تصريحات راشد الغنوشي في العاصمة الأمريكية في “معهد واشنطن”، بدعوة من أكبر مجموعة ضغط صهيونية في العالم، “إيباك” التي أسَّسَت “معهد واشنطن”، حيث ألقى الغنوشي خِطابًا تَطْبِيعِيًّا ويتَنَصَّلُ من أي اهتمام بالقَضِيَّة الفلسطينية، إضافة إلى تصريحات ومُمارسات عديدة، وكذلك مع تعميق التَّبَعية نحو القوى الإمبريالية ونحو أدواتها المالية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي)، بينما تفاقمت المشاكل الإجتماعية من بطالة وفقر وتصفية القطاع العام والمرافق العمومية مثل الصحة والتعليم، وارتفاع جُنُوني لأسعار المواد الضرورية كالغذاء والطاقة، وخفض قيمة الدَّعْم، مع زيادة الضرائب غير المباشرة والإقتطاع من رواتب الأجراء ورفع سن التقاعد الخ، واتسمت مرحلة ما بعد الإنتفاضة بتعيين وزراء وموظفين في مناصب عُلْيَا لا كفاءة لهم ولا إلْمام بمُقْتَضَيَات مَهَامِّهم، ولكن تَعْيِينهم يخضع لعلاقات عشائرية وقرابة دموية وعلاقات مُصاهرة أو مَصالح اقتصادية، فكان صِهر راشد الغنوشي وزيرًا للخارجية وكان الموظفون الكبار والصغار يُعَيَّنُون على أُسُسٍ عشائرية، ونَصَّبَ الباجي قائد السّبْسي ابنه المُدَلَّل على رأس حزْبِه (يقول من يعرفونه انه أحمق وغبي) وأخيرًا عَيَّن صِهْرَهُ رئيسًا للحكومة، مُدَّعِيًا انها “حكومة وفاق وطني”، بينما أكَّدَت كافة قرارات رئيس الدولة والحكومة أنها عادت بالتونسيين إلى مرحلة ما قبل الدولة، أي مرحلة هيمنة القبيلة والعشيرة والطائفة الخ، وأصْبَحَتْ هذه الظاهرة مُهَيْمِنَة وتجاوزت الأحزاب الحاكمة إلى أَهَمِّ أحزاب المُعَارضة (بما فيها من يُصَنِّفُ نَفْسَه مُمَثِّلاً لليسار البرلماني) والجَمْعِيات ومُؤسَّسَات “المُجْتَمَع المَدَنِي” وغَيْرِهَا، ما يتماشى تمامًا مع مشاريع الإمبريالية الأمريكية من تفتيت البلدان وتقسيمها إلى كِيانات صغيرة على أسُسِ طائفية وأثنية، يَسْهُل تَوْجِيهُها والسيطرة عليها، وترافق تَزَايُدُ مثل هذه المُمَارَسَات العَشائِرِيّة مع ارتقاء طبقي سريع وتغْيِير في السُّلُوك الإجتماعي…
الولاء للمصالح الأجنبية:
ذَكَرْنا في فقرة سابقة تعْيِين مُمَثِّل الشركات مُتَعَدِّدَة الجنسية ومُمَثّل المصالح الأوروبية رئيسًا لحكومة قيل انها حكومة “تكنوقراط” وحكومة تصريف أعمال، لكنها منحت امتيازات ضخمة للشركات الأجنبية متعددة الجنسية وعَمَّقَت مُشْكِلة الديون (سنتي 2014 و 2015) واليوم يُعَيّنُ الرئيس العجوز صِهْرَه، الذي كان مُوظِّفًا في سفارة الإمبريالية الأمريكية في تونس منذ 2003، ويُعْتَبَرُ خَبيرًا زراعيًّا لدى الادارة الامريكية منذ 2010، وهو مُتَشَبِّعُ بثقافة المُسْتَوْطِنِين الأوروبيين الذين ارتكبوا المجازر ضد السُّكّان الأصْلِيِّين للقارة الأمريكية، ويُعْتَبَرُ اقتراح تعيين رئيس الحكومة الجديد (يوسف الشَّاهِد) خيار خارجي أي خيار صندوق النقد الدولي الذي أقرض الحكومة مبالغ جديدة ستتحمل الأجيال الحالية والقادمة تبعاتها السلبية، وخيار الإمبريالية الأمريكية التي ضَمِنَتْ لدى الدّائنين بعض مبالغ القروض منذ 2012، أو ما يُسَمّى “ائتِمانًا” في لغة المُؤسَّسَات المالية (كما فعلت مع حكومة الإسلام السياسي في المغرب أيضًا)، في إطار افتكاك بعض المَواقع الإستراتيجية في افريقيا من الإتحاد الأوروبي، وتزامن تعيين هذا الخبير الفلاحي، على رأس الحكومة، مع إقرار قانون جديد في تونس يسْمَحُ بِبَيْع الأراضي الزراعية الخصبة للشركات والحكومات الأجنبية، وكان رئيس الحكومة الجديد خبيرًا لدى شركة “مونسانتو” الأمريكية المُعَوْلَمة التي تُنْتِج المحاصيل الزراعية (الغِذائية) والمُبِيدات المُسَرْطَنة وتحتكر البذور في العالم وفرضت على العالم (بما في ذلك أوروبا واليابان) الإنتاج الزّراعي والغِذَائي المُعَدَّل وراثِيًّا (جِينِيًّا) وهي تَحْتَكِر تصْنِيعَهُ… من جهة أخرى، دافع رئيس الحكومة الجديد في أطروحة الدكتوراه التي قَدَّمَها سنة 2003 (وكذلك في تقارير أخرى أَنْجَزَها لصالح مُشَغِّلِه أي الدولة الأمريكية) عن “ضَرُورَةِ” خصخصة الأراضي الزراعية وعن تَخَلِّي الدَّوْلة الكامل عن “التَّدَخُّل في الشَّأْن الإقتصادي”، واقتصار دورها على قمع أي حراك اجتماعي أو نقابي، لِيَقْتَصِرَ دَوْرُ الدولة على دور شرطي لحراسة مصالح رأس المال… بدَأَتْ عَدْوَى العلاقات الودِّية مع ممثِّلي الإمبريالية تتسرب إلى بعض قوى “اليسار” مع دِفَاع بعض قياداتها عن المُنَظَّمَات “غير الحكومية” وتبْرِير العلاقات الوِدِّية مع مُمَثِّلِي الإمبريالية وتلبية دعوات السِّفارات والمراكز الثقافية الأجنبية لحضور نشاطات لا تَخْدِمُ سوى من يُمَوِّلُها، ودعوات السفر لحضور مؤتمرات وفعاليات استقطاب وتأطير في أوروبا وأمريكا وغيرها، ومن غريب الصُّدَف ان أبناء قياديِّي بعض أحزاب “اليسار” البرلماني لا يَدْرُسون في تونس بل في أوروبا وأمريكا، ويُمارسون رياضات النُّخْبَة (مثل التنس)… وكان “مُعَارضو” العراق قد بدؤوا بهذه الخطوات قبل العودة على دبابات الإحتلال، وكذا كانت بعض قوى المُعارضة المتحالفة مع الإخوان المسلِمين قبل أكثر من عشر سنوات في تونس ومصر وسوريا (باسم تأسيس جبهة “ديمقراطية”) تُبَرِّرُ دعوة القوى الإمبريالية (وفي مقدمتها الإمبريالية الأمريكية) إلى التدخل في هذه البلدان بِهَدَفِ “إزاحة الدكتاتورية” وكان حزب العمال في تونس سنة 2005 (قبل التَّخَلّي عن صفة “الشيوعي”) يَعْتَبِرُ تأسيس جبهة من هذا القبيل (جبهة 18 اكتوبر مع الإخوان المُسْلِمين) أوْلَوِيَّةً مُطْلَقَة، ولم يَنْشُرْ (على حَدِّ عِلْمِي) أي تقْيِيم أو أي نقد لهذه التجربة، وهي ليست الأولى، إذ سبِقَها تحالف آخر في بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي مع بعض رُمُوز الحزب الحاكم (التجمع الدستوري) ضد الإخوان المُسْلِمِين…
خاتمة:
لم تُنْجِزْ حكومات ما بعد الإنتفاضة أيًّا من مطالب المُنْتَفِضِين (بِسَبَبِ انخرام ميزان القوى)، بل سعى المَاسِكون بِزِمَامِ السُّلْطَةِ إلى شَرْعَنَة الفساد وإقرار قانون “المُصَالَحَة” مع الفاسدين والصوص، واكْتَفَتْ أحزاب اليسار العريقة بالخطابات في البرلمان وفي وسائل الإعلام التي تَقَعُ تحت هيمنة الدولة (الطَّبَقِيّة) ورأس المال، مع تَخَلّي هذا “اليسار” تَدْرِيجِيًّا عن النضال في المناطق المحرومة (خارج العاصمة) وعن الوقوف “إلى جانب” الطبقة العاملة (لأنه غير موجود داخلها) والفقراء والمُعَطَّلِين عن العمل ومُجْمَل المُتَضَرِّرِين من السياسة الطبقية للدولة والتّابعة لمصالح الشركات الأجنبية …
تزامنت كتابة هذه السُّطور مع بداية انعقاد مؤتمر تطبيعي في أحد الفنادق الفاخرة في مدينة “الحمّامَات” السياحية، برعاية وإشراف مَشْيَخَة “قَطَر” ومُمَثِّلي الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين)، الذين يحكمون البلاد منذ 2011 بالشراكة مع رجال الأعمال ومع من حكموا البلاد منذ 1956، ولم تُشارك في الإحتجاج على انعقاد هذا المؤتمر بعض الأحزاب التي تَخَلَّتْ عن النضال الجماهيري وتحولت إلى “النِّضَال” البرلماني والإعلامي (في وسائل الإعلام السائد)، ما يجعلنا ندعو إلى استخلاص العِبَر والسَّعْي الدؤوب إلى محاولة تغيير موازين القوى وبناء حركة اجتماعية قَوِيَّة تَقُضُّ مضاجع الفئات الحاكِمَة، قديمها وجديدها في تونس كما في مصر والمغرب (على سبيل الذِّكْر) وغيرها، لأن تَسَارُع الأحداث وتقويض كافة المَكَاسِب الصغيرة التي حصل عليها العمال والفقراء وسَدَّدُوا ثمنها باهِضًا يَضْطَرّنا ويدفعنا إلى تَسْريع الخطوات، لَعَلّنا نَصْمُدُ ونوقِفُ الزحف، قبل المُرُورِ إلى مَرْحَلَة الهُجُوم…
التعليقات مغلقة.